منوعات

البحر وجماله

الكتابة بواسطة: عبد الرحمن محمد

إنّ البحر من النّوافذ البشريّة في هذا العالم الأصغر كأنّه يحتضن الآدميّ بأمواجه ليُزيل كلّ همومه، ويسمعه موسيقاه فتستريح بها نفسه وتهدأ روحه، ويتباهى بألوانه المُتدرّجة في زُرقتها فتشرد فيها العيون وتُبحر بتترى تلاطماته، فيُرى كلّ النّاس يرتحلون في صيفهم أو عُطلهم إلى البحر، البحر الّذي يُسعد النّفوس بمظهره الأخّاذ ومياهه العقيقيّة المُتلألئة تحت شمس النّهار والفيروزيّة اللّون مدّة شروق الشّمس، لكنّه مريب في باطنه، عالمه عميق مجهول، ومن المُمكِن أن تكون تلك الأمواج ليست إلّا بكاء أو نحيبًا، أو حتّى توسّلًا.
غم ذلك يلاعب الأطفال بين كفّيه، ويدغدغ أرواحهم ببهجةٍ وسرور، ومع ذلك يجب الحذر من تقلباته، فالكثير قالوا عن البحر غدّار، وقد يكون ذلك ادّعاء لغباوة بعض التّجارب الفاشلة مع البحر من قبل الإنسان.
إنّ جمال البحر يبدأ من السّماء الّتي تمسكه بكفّيها وتقدّمه للبشريّة جمعاء، فتعكس من جمال لونها على كلّ ذرّة من مائه، لتجعله بحرًا من أحجار الفيروز صباحًا واللّيلكيّات البنّفسجيّة ليًلا، والوهم الأكبر يكمُن ببداية البداية للبحر والنّهاية الّتي تقود المرء إلى أوطان وأوطان، وكأنّ البجر مَعبر بوّابة الدّنيا بأسرها، حتّى في ملوحته جمال يطهّر الصّلصال البشريّ أو حتّى الرّوح القاطنة في كهفها البشريّ.
إنّ من يركب البحر ويعيشه، لا بدّ أن يكتسب منه صفات، مِن هدوء وسكينة وغضب، أو حتى الغموض، وكأنّ البحر إنسان يؤثّر ولا يتأثّر، أو ربّما حنين الإنسان لجزء من خلطه الأول هو السّرّ في هذا الأمر. من مظاهر الجمال في البحر ما يكتنزه في جوفه من عالم متكامل الأركان متنوّع الألوان، فيه اللؤلؤ والمرجان، ونباتات وأعشاب تشبه الأقحوان، وضروب الريحان، ويؤكّد هذا الوصف ما جاء في كتاب الله تعالى، فيقول عزّ وجلّ: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ*فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ*يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ*فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
من جماله ما يرتديه البحر من المجوهرات والأحجار الكريمة كأنّه يظهر علينا بأبهى حلّته؛ فصنوف الصّدف والمحار الّتي تُنمّق جسده الرّمليّ، وباطنه تحت فستانه المالح وتحكي قصص بطولات وانهزامات قد وقعت على جسده، وسير رحّالة شقّوا زبَده بسفنهم، وقصص لم نُخبر بها واحتفظ بها البحر، ففي جسده الحي يأكل الميت، والميت يأكل الحيّ، فكم من جسد مات بهذا الفضاء، وكم من حيّ حاول النّجاة فأسره البحر بين ذرّات مياهه وكفّنه وغسّله ودفنه بذات الخواص، فمن قال إنّ البحر غدّار هذا ضرب خذروف ليس إلّا، فالغدر لا يعرفه عظيم خلْق الله عزّ وجلّ.

من بوْتقة الصّفات الّتي يتحلّى بها البحر، الجسد الّذي يحمله بكل قوّته والّذي لا يرى الإنسان منه سوى بدايته، فكأنّه خجول من تعرّي الجسد فارتدى طيلسان المياه وعباءة السّماء، فرمال جسده النّاعمة اللّامعة الّتي يسترخي الإنسان بمحيّاها ويستغطي بها نفسه كأنّه حنين آخر لخَلْطه الثّاني وهو التّراب، بعد سابقه الأوّل الماء.

وصف الغروب على شاطئ البحر
بعد يومٍ طويلٍ من وقوف البحرِ أمام الكون مُنتظرًا كلّ ذي قلب مُتشحٍ بوشاح الكمد والألم والإبداع والفنّ، ليَفرغوا من عظيم صفاته وطاووسيّة ألوانه، وانتهالهم من معينه، واحتضانه لصغار البشر وكبارهم، فقد آن للسّماء الزّرقاء أن تريح يديها وتُغمض طرفَها فقد أضناها تعب النّهار وهموم البشر،

حتّى احمرّت عيناها واتّسعت ملء السّماء. ما إن تشرع عين السّماء الشّمس بإغماض جفونها مُعلنةً بدْء نومها حتّى تُغرق مُقلتها بجسد البحر الهائم لها، فكأنّها حجر عقيق ضخم قد تلاشت عناصره فوق الماء وانحلّ بعباءة البحر ليُوشي سطحه بخيوط غير متمازجة بداية وليكمل استسلامه ويضمحل أكثر فأكثر، حتّى تنثر شعرها الأرجوانيّ على البحر الأرزق لتمزج لونها الورسيّ على زُرقة المياه لتأذن للوحة المساء السّيميائيّة بتغيير الألوان وبداية مشهد جديد في مسرحية الحياة والتّأمل الكونيّ، ومن هذا الاستدعاء والاستلهام بالتّحديد يُسقط إلينا قول الشّاعر البحتريّ:

غُروبُ دَمعٍ مِنَ الأَجفانِ تَنهَمِلُ

وَحُرقَةٌ بِغَليلِ الحُزنِ تَشتَعِلُ

في هذا المشهد تتجسّد لحظات كثيرة في لِحَاظ الغروب، ففيها مشهد وداع يُشعر الإنسان بالأسى، وفيها مشهد مُغاير تمامًا عن الأوّل فقد يكون لحظة لقاء بين البحر ومحبوبته الشّمس،

الّتي جاءته من المشرق لتنعم بغمرة حبيبها البحر، فتلبسه من ثوبها الذّهبي الموشّى بالأرجوان فكأنّه عناق انحلال روح داخل روح، بل إنّه توّحد بين الرّوحين لينتهي بليتهم اللّيلاء.

هكذا تكتمل اللّوحة الّتي بدأت من السّماء الدّنيا والّتي حملت البحر وجسده الرّمال، لتنتهي بإطارها السّرمديّ البنفسجيّ لتُغدق علينا من رحيقها أعذب النّسمات أشجى الألحان، فبكلّ موجة نوتة موسيقيّة عجز عنّها صُنّاع الألحان، وتهافت التّهافت يبرز بكلّ المبدعين من الرّسامين والموسيقيّين، وأخيرًا الأدباء الذين ما برحوا يسقون بوتقاتهم الفنيّة من هذا المشهد الرّبانيّ العظيم، فكلّ رأى البحر بعين إنسانه، فما كانت رؤياهم إلّا كبستان فيه الثّمر وفيه الشّجر، وكأرض مزروعة تكثر فيه الزّروع من عشب زهر.

البحر في خيال الأدباء

إنّ للبحر في خيال الأدباء حصّة الأسد فكثير من الأدباء والشعراء والكتّاب جعلوا من البحر مَنهلًا ومعينًا ثرًّا لصورهم وتشابيههم وتوصيف حالاتهم الشّعوريّة من حزن وفرح وكرم، وغزل وانكسار وألم، ولعلّ الرّواد في هذا الباب عدد ليس بقليل، ومنهم الرّوائيّ السّوريّ حنّا مينا الدّمث، والّذي لُقّب بأديب البحر، فهو الّذي يكتب من البحر وإلى البحر، فتأثّر أسلوبه بمفرداد البحر وكيف لا، وهو ابن محافظة تربّعت على عرش البحر فعاش معه وفيه وله، فكانت جلّ أعماله من وحي البحر.

إضافة إلى ذلك الأديب اللّبنانيّ المبدع جبران خليل جبران الّذي أفرد كتابًا سمّاه “رمل وزبد”، والّذي بدأ كتابه بهذه العبارة: “ليس هذا الكتاب الصّغير بأكثر من اسمه، رمل وزبد، حفنة من الرّمل وقبضة من الزّبد” فقد جعل من الكتاب أيقونة فائقة الجمال من الرّمز الشّفاف، ليجعل البحر شريكه في معاناته وسير العشاق، وتأملات الحياة وفلسفتها، فتناول فيه الحِكَم والأمثال ليحمل في أمواجه عِبَره الغامضة، فيقول جبران في مطلع رمله وزبد:

على هذه الشّواطئ أتمشّى أبدًا

بين الرّملِ والزّبد

إنّ المدّ سيمحو آثار قدمي

وستذهب الرّيح بالزّبد

أمّا البحر والشّاطئ فيظلّان إلى الأبد

ذهب بعض الشّاعر إلى مرجع الشّاعر الصبّ إلى ديدنه إن كان من فريق البحر واستنباطاته، فوصف كلمات الشّعراء باللّحن الرّاجع لنشيده البحر المستمرّ في صفاته، وهذا ما ذهب إليه الشّاعر زكي مبارك في قصيدته شاعر البحر إلى البحر يعود ليجعل من الإنسان ملجأ يلوذ فيه رغم رحابة هذا الكون.
لم يكتفِ الأدباء بوصف جمال البحر وحسْب، وإنّما بلغوا في ذلك صفات أبعد، فصار للبحر صفات ثابتة يتداولها الأدباء ومنها الفضل والكرم والجود والعطاء، ومن جميل ذلك ما ذكره الشّاعر دِعبل الخُزاعيّ، في قصيدته أترجو البحر والفضل دونه فجل من البحر مرآة يستلهم منها صفات ممدوحه الّذي جعل من الكرم وحُسن العوم سيّان في تورية مبدعة.
منهم من شبّه البحر بصفات مُغايرة لما سبق، فهذا الملك الضّليل يُشبّه اللّيل بأمواج البحر المسدلة، والّتي تقاسمه همومه وأوجاعه وما تعتريه نفسه من غمامات الحياة، فالشّاعر امرؤ القيس رغم أنّه ابن البادية فلم يجهل البحر الّذي قاسمه معاناته وما يكابده من غم.
مِن براعة الصّور الفنيّة في تشكيل مَنحوتة دقيقة الوصف وتضمينها لصفات البحر، فنرى من الشّعراء مَن انتهج مِن صفات البحر ما يخدم تصويره لمشهده الوصفيّ فنرى عاصفة البحر في تعابيرهم، فلم يكتف الأديب بإيجابيات البحر فإنّه طال إلى سلبياته وجعلها حذاء الإيجاب ومنها صَنيع الشّاعر جميل صدقي الزّهاوي في قصيدته البحر يغلي كأنّ البحر بركان، فجاء باللّفظ الرّصين والمعنى الجذّاب.

الفريق الأقوى في هذا الباب فريق من جعل البحر إنسانًا يُخاطبه، ويرى فيه الحكيم المستمع بكل أمواجه، فأكثروا الشّكوى على رماله وأطالوا الحديث على ريحه ونسائمه، ومكثوا يستطردون آلامهم في محرابه، فكانت قصيدة المساء خير برهان على ذلك وذاع صيتها بين القصائد لما فيها من واقعيّة وشجن يستقطب الأفئدة ومهجاتها وخلجات الرّوح ونواميسها فجاء ذلك على لسان الشّاعر، خليل مطران الّذي لم يجد من يكشف أمامه كمدَ روحه، وسرائره سوى البحر ذات الصّدر الواسع العميق.
ثمّ نرى الأدباء يستخدمون البحر وصفاته لإسقاطها على الممدوح ويُشبّه سيف الدّولة بالبحر إذا غضب، فنراه يجسّم المشهد الشّعري بأبهى أشكاله فيوظّف جمال البحر بمدح الموصوف والحذر منه، وإجراء الشّاعرية مجرى التّجسيم بتجسيد متجانس الهدف، رصين المتن، ومن روعة ذلك في قصيدة لكلّ امرئ من دهره ما تعودا للمتنبيّ. هكذا صوّر لنا الأدباء البحر، وما هاجت به نفوسهم من جملة صفاته وجماله ولو عُرض مجمل ما رواه الأدباء عن البحر لحار البحر في أمره عجبًا، ولجفت مياهه طربًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى