الشيخ احمد بن قاسم آل طارش الفيفي
كاتب الضبط في المحاكم الشرعية، يعتبر من اهم اعوان القاضي، وعامل لا بد منه في المحاكم في هذا الزمن، لتسيير العدالة المطلوبة وانجازها بكل يسر وسهولة، ومهمته الاساسية، ضبط جميع الدعاوي والمرافعات، والاقرارات والإنهاءات، وما يماثلها من كل ما ينظر فيه لدى المحاكم الشرعية، من حين ابتداء المعاملة إلى انتهائها، ويشمل تحرير كل جلساتها، ووقوعاتها وما يصدر عنها، مع حفظ كامل الأوراق المتعلقة بهذه القضية، وترتيبها والعناية بها، ليسهل الرجوع إليها متى ما دعت الحاجة، فيتم رصد كل الدعاوي والانهاءات، وما شاكلها في سجل الضبط، بخط واضح سليم، خال من أي مسح او حك أو تعديل، إلا إذا اضطر لذلك بعد اخذ توقيع من كانت هذه الافادة منسوبة إليه، ثم يقوم بعدها بتلاوة دعوى المدعي على المدعى عليه، بحضور القاضي وحضور الطرفين، ورصد جواب المدعى عليه، وتلاوة ورصد كل ما تدعو الحاجة للمرافعة، من طلب البينة، أو شهادة الشهود، أو حكم القاضي، في كل ما هو متعلق بالمرافعة، ثم بعدها تنظيم الصك من هذا الضبط، بعد انتهاء المعاملة نهائيا، ثم عرضه على القاضي لاعتماده.
ولذلك لا بد أن يكون هذا الكاتب، كفء ذو ديانة وامانة، للقيام بهذا العمل الشريف، حسب الشروط والآداب التي نص عليها الفقهاء، فهو يحمل عبئا كبيرا، ودورا عظيما لا يستهان به، من الاعمال الكتابية في المحاكم الشرعية.
لقد قام بهذه المهام بكل جدارة واقتدار، على مدى عشرات السنين، موظفا في المحكمة الشرعية بفيفاء، ثم في المحكمة الشرعية بأم القيوين، في دولة الامارات العربية المتحدة، ثم في المحكمة الجزائية بمكة المكرمة، واكتسب الكثير من الخبرات والتجارب، ونال الثقة المطلقة من كل من عمل معهم، من القضاة الكبار على مدى هذه السنوات.
لنستعرض بعضا من سيرته ومسيرته في هذا الجانب، وكيف تكونت شخصيته، وكيف تبلورت خبراته وامكانياته، فلننطلق بكل رحابة مع هذه الشخصية الفريدة، ولنتعرف على جوانب من حياته.
إنه الشيخ احمد بن قاسم سلمان آل طارش الخسافي الفيفي حفظه الله ووفقه.
والده هو الشيخ قاسم بن سلمان بن جابر ال طارش الخسافي الفيفي رحمه الله، نشأ يتيما بعد أن توفي والده راعي بيت نعيمه، في اعلى قمة ذراع منفة، وكان حينها دون سن التمييز، وترك له مسؤولية القيام على اسرة كبيرة، مكونة من أمه الأرمل واخ صغير واختين، ولا مصادر رزق إلا ما تدره عليهم مزرعتهم الصغيرة، أو ما يناله من اجرة يومية مقابل عمله لدى الاخرين، مع وجود الكثير من المنغصات في الحياة من حوله، من الفتن ومن المخاطر المحيطة، بسبب انفلات الامن حينها، وعدم وجود سلطة تحفظه، قبل انضوائها في العهد السعودي الزاهر، حيث ناله الكثير من التعب والمشقة والضنك، ومع ذلك فقد كان على قدر بسيط من العلم، حيث الحقه والده قبل موته بالمعلامة (الكتاب)، عند المعلم مسعود بن سلمان آل عمر المثيبي رحمه الله، وبعد وفاة والده رحمه الله اضطر إلى ترك هذه المدرسة، وهو حينها قد اتقن شيء لا بأس به من قراءة القرآن الكريم، وشيء من مبادئ القراءة والكتابة، وتميز بالطيبة وعرف بين الناس بجمال المعشر، وطيبة القلب، وحسن التعامل، والتواضع وقوة التدين، كانت مهنته الاساسية الفلاحة، المهنة الغالبة بين معظم اهل البلدة، في تلك الفترة وما قبلها وما تلاها، وكانت مصدر معيشتهم الوحيدة في الغالب، وقد اجادها تماما دون غيرها، واكتسب فيها خبرات كبيرة من خلال الممارسة اليومية، ورزقه الله فيها الحظ الوافر والبركة والنماء، وكان كريما يشفق على الضعفاء والمساكين، وباب بيته مفتوح لكل الناس من ذوي الحاجات، فلا يخلوا بيته من هؤلاء الناس، سواء من اقاربه أو من جيرانه ومن الغرباء، وكان ذو نظرة وفراسة، وحسن تقدير للأمور، سعى إلى تربية ابنائه تربية صالحة، ودفعهم بكل قوة إلى طلب العلم، وصبر وتحمل على غربتهم وبعدهم عنه، بل استغنى عن خدماتهم الضرورية الآنية، في سبيل ذلك ورجاء أن ينفعوا انفسهم ومجتمعهم بالعلم والصلاح، فوفقهم الله إلى نوال الكثير من ذلك، واصلحهم سبحانه واصلح بهم، ثم ساند بعضهم بعضا فيما بعد، على الترقي في طلب العلم، والسعي في مجالات الحياة المختلفة، وحملوا عنه كثيرا من اعباء الحياة، ومات بعد أن تجاوز التسعين من عمره، قرير العين بما وصل إليه ابنائه من مكانة مرموقة، في الحياة والعلم والفضل والصلاح، رحمه الله وغفر له وتجاوز عنه.
واما أمه فهي الفاضلة سلامة بنت سالم اسعد آل غرسة الخسافي الفيفي رحمها الله وغفر لها، امرأة قوية وعاقلة مدبرة، ساندت زوجها في كل نواحي الحياة، واحسنت تربية ابنائها، وشاركته في دفعهم إلى طلب العلم والصلاح، ولم تفت في عضد أي واحد منهم، أو تضعف من همته في سبيل تحصيله العلمي ونفع نفسه، وقد أولت وليدها (احمد) وكان آخرهم، كل عنايتها ورعايتها وحدبها، وبالذات قد ولد قبل أوانه خديجا، ضعيف الجسم ناحل البنية، كثير العلل والامراض، فأولته كثيرا من رعايتها واهتمامها، رغم كثرة مشاغل الحياة القائمة على كاهلها، إلى أن تحسنت أوضاعه وتجاوز ضعفه، ورأته رجلا مكتملا على احسن ما يكون، هو وكافة اخوانه وحتى ابنائهم واحفادهم، وعاشت إلى أن راتهم جميعهم بفضل الله وقد نالوا الكثير من حظوظ الدنيا، ولكل منهم اسرته المستقلة وابنائه واحفاده، رحمها الله وغفر لها وتجاوز عنها.
ولد لهذين الفاضلين في بيتهما الرثيد الاعلى، المسمى قديما ببيت امساتر، الواقع في منتصف ذراع منفة، شرق الجبل الاعلى من فيفاء، في عام 1362هـ وإن كان المثبت في بطاقته أنه ولد في عام 1357هـ، لعدم الاهتمام آنذاك بدقة التاريخ، ولدواعي الالتحاق بالعمل الوظيفي، وكان اخر اخوته الاشقاء، حيث ولد خديجا لم يكمل شهره السابع، بسبب اعتلال صحة والدته اثناء حملها به، فقد اصابها مرض الجدري، المنتشر في تلك الفترة، وانهكها هذا المرض حتى دخلت بسببه في غيبوبة طويلة، وأيسوا من حياتها، فلما ولدته وهي بهذه الحالة، وهو دون اكتمال اشهر الحمل، فقد ظنوه أنه لن يعيش طويلا، وأنه سيموت عاجلا أم أجلا لا محالة، لعدم اكتمال مدة حمله، ولضآلة حجمه وضعف بنيته، ولكنهم عندما وضعوا شيئا من الحليب على شفتيه، لمعرفة سريان الحياة فيه، وجدوه يتجاوب ويمتص شيء من هذا الحليب، فاستبشروا خيرا، وانه قادر على العيش بمشيئة الله، ولكن لظروف امه المرضية الصعبة، ولكونها غير قادرة على ارضاعه، وكانت ظروف الحياة البديلة حينها غير متوفرة، فلا توجد وسائل للعناية والارضاع بدل الأم، فالحياة قاسية وشحيحة وبدائية، إلا أن الله قيض لهم جارتهم، الفاضلة فاطمة بنت زاهر الظلمي رحمها الله، التي كانت قد رزقت في تلك الفترة بوليدها جابر بن اسعد الظلمي حفظه الله، فلما علمت بحالته وحالة امه الصعبة، تبرعت له من ذاتها، بأنها سترضعه مع وليدها، ويشاركه في لبنها، فكانت تتردد عليه في اليوم عدة مرات، لتقوم بإرضاعه إلى أن يشبع، واستمرت على ذلك لعدة أشهر جزاها الله كل خير، إلى أن تجاوزت امه الوضع الصعب الذي كانت عليه، وتعافت وتحسنت صحتها، فأكملت هي العناية به وتمريضه، وكان قد اختار له اخوه الاكبر اسم (احمد)، واستحسنه والداه رحمهم الله، وحمل هذا الاسم الجميل حفظه الله.
وهكذا كانت ولادته وبداية حياته، صعبة ميؤوس من بقائه حي فيها، ولكنه بفضل الله ثم مع زيادة العناية والرعاية، وحسن التمريض، تحسنت أوضاعه وتجاوز ما كان عليه من ضعف في البنية، وفي البطء في النمو الطبيعي، حتى أنه استمر على ذلك لفترة طويلة، يشكو فيها من تأخر نموه عن بقية اقرانه، ولكنه بحمد الله عاش يتدرج في هذا المحيط الذي اكتنفه بكل رعاية واهتمام، يتحسن شيئا فشيئا إلى أن تجاوز كل المعوقات، واصبح عضوا ايجابيا في اسرته، فكان يشارك كبقية افراد الأسرة في متطلبات حياتهم، ويساهم على قدر امكانياته وقدراته، فيوكل إليه ببعض المهام البسيطة، مثل رعي بعض الغنيمات القليلة، أو قد يساعد في بعض الاعمال اليسيرة في البيت وفي المزرعة، مثل التوقيل وهو (تنظيف المزرعة من الاحجار والاشجار الصغيرة قبل عملية الحرث)، أو يقوم بحماية الزرع إذا بدأت ثمرته تتكون، فيمنع عنها ببعض الوسائل البسيطة، الطيور وغيرها من المؤذيات، ومثل ذلك من الأشغال اليسيرة التي يستطيع عليها، فيشارك أبويه واخوانه على قدر طاقته وامكانياته، فهي مع كونها مشاركة نافعة وايجابية، فهي كذلك نوع من الدربة والتربية، فكان كبقية كل من في البيت، عضو مشارك وايجابي نافع، لا يختلف عن أي أحد منهم، وكما هو الحال في بقية افراد المجتمع من حولهم، في تلك الفترة الصعبة الكادحة، وقد اكتمل نموه تمام الاكتمال، وتحسنت صحته وقويت بنيته، واصبح مع الايام والسنين يكتسب مزيدا من القوة والصلابة، واصبحت له أدواره الايجابية المتعددة، واكتسب الخبرات الحياتية التي بها يعتمد عليه، بل لا يختلف عن أي أحد من افراد الأسرة، وقد نشأ في هذه البيئة الصالحة المتعاضدة، ونشأ انسانا سويا متوازن الشخصية، حفظه الله واطال عمره.
تعليمه :
كان كل افراد اسرته يهتمون كثيرا بالتعليم، ويجعلونه في الدرجة الاولى في حياتهم، وكان يقودهم في هذا السبيل اخوه الاكبر، فضيلة الشيخ علي بن قاسم رحمه الله، الذي كان لهم فيه القدوة والموجه والمرشد، بعد أن وثق به والده وأوكل إليه القيام بهذه المهمة العظيمة، فكانت له الكلمة القاطعة المؤيدة من أبيه، حيث اسند إليه الاشراف التام على تربية وتعليمي اخوانه، فلهذا تعاهده اخاه من صغره، وأولاه كثيرا من العناية في هذا الجانب، فلما نمى جسمه واكتمل بنيانه، الحقه حينها في معلامة الحيداني (الكتاب)، وكانت هي المدارس الوحيدة المنتشرة في ذلك الوقت، يتركز التعليم فيها في الغالب على معرفة مبادئ القراءة والكتابة، وعلى تحفيظ القرآن الكريم، قراءة مجودة، وحفظ قصار السور منه، وكان المعلم في هذه المعلامة، الشيخ محمد بن احمد السنحاني المثيبي رحمه الله، ومع الايام تعود على هذه المدرسة، وتأقلم على نظامها، واحبها والفها وسارت معه الأمور كما ينبغي، رغم بعدها قليلا عن بيتهم، وبقي كذلك إلى أن ابتدأت تنتشر في فيفاء مدارس فضيلة الشيخ الداعية عبدالله القرعاوي رحمه الله، بعد أن اسند فضيلته الاشراف عليها لفضيلة الشيخ علي بن قاسم، بعد تعيينه قاضيا للمحكمة الشرعية بفيفاء، ومن ضمن هذه المدارس مدرسة المبداة، القريبة منهم في اسفل ذراع منفة، ومعلمها فضيلة الشيخ علي بن احمد آل شحرة الخسافي رحمه الله، فانتقل إلى هذه المدرسة، لكونها أقرب من مدرسة الحيداني، ولكن لم يبقي فيها إلا أشهر معدودة، حيث انتقل معلمها إلى مدرسة الخشعة، أحدى مدارس الشيخ القرعاوي الكبيرة، في قبيلة ال بالحكم في الجبل الأسفل، ثم كلف فيما بعد بالعمل مراقبا ومشرفا على مدارس فضيلة الشيخ القرعاوي في بني مالك، ولذلك اغلقت مدرسته في ذراع منفة، فاضطر من جديد هو ومعظم زملائه إلى العودة لمدرسة الحيداني، عند معلمهم السابق الشيخ محمد بن احمد السنحاني، واكمل فيها دراسته وتحصيله من جديد، وفي هذه الفترة ختم كامل القرآن الكريم قراءة مجودة، ثم راجعه أكثر من مرة، بما يسمى (الخوض)، وفي هذه المرحلة وقد ضمت هذه المدرسة إلى مدارس فضيلة الشيخ القرعاوي، ادخل في منهجها مع القرآن الكريم بعض العلوم الاساسية، ومنها مبادي في الفقه والتوحيد والتجويد، والاصول الثلاثة ونحوها، ومضت به الاشهر والاعوام يتدرج في دراسته ويستفيد، إلى أن قرر بعد فترة الانتقال إلى مدرسة النفيعة، ومعلمها الشيخ منصور بن حاوي رحمه الله، وواصل تعليمه فيها وعلى نفس المناهج، ولما رأى طموحه اخوه الشيخ علي بن قاسم، استحسن له أن يصحب اخاه الشيخ سليمان رحمه الله إلى مدينة صامطة، حيث كان يدرس فيها وكثيرين من ابناء فيفاء، وكانت قبلة التعليم في ذلك الوقت، حيث الحقه فيها بالمدرسة السلفية، التي كان مديرها ومعلمها فضيلة الشيخ ناصر بن خلوفة رحمه الله، ولكنه لم يطق العيش في مدينة صامطة، فلم يناسبه مناخها وبيئتها والعيش فيها، فاعتلت صحته واعتراه المرض، مما اضطره إلى العودة إلى بلدته فيفاء، بعد أن حصل على الشهادة المعتمدة من هذه المدرسة، ولما عاد إلى فيفاء، وجهه اخوه الشيخ علي، بعد استئذانه من والده لكي يلحقه بمدرسة الخشعة، الواقعة في قبيلة بالحكم في الجبل الاسفل من فيفاء، وكانت آنذاك من اقوى المدارس التابعة للشيخ القرعاوي في فيفاء، ويديرها ويشرف عليها فضيلة الشيخ احمد بن علي الخسافي رحمه الله، مع نخبة من المعلمين المتميزين، وتميزت عن غيرها من المدارس بالقوة والصرامة، وحسن ضبطها وتسييرها، وقوة التعليم فيها وارتفاع مستواه، للمتابعة الحازمة من معلمها ومديرها الشيخ احمد بن علي رحمه الله، الذي كانت له هيبته وحزمه في كل امورها، فاستفاد كثيرا في هذه المدرسة، وتفرغ فيها لدراسته، ويتحدث في ذلك ويقول، كان للشيخ احمد بن علي فضل كبير في تأصيل ما قد درسته، وصحح لي كثيرا القراءة في القران الكريم، وأفادني في كثير من العلوم الاخرى، كالحديث والتفسير والاصول والفقه والتجويد والنحو، وغير ذلك من المقررات النافعة، وكانت جميع المقررات في هذه المدرسة سهلة ميسرة للحفظ، وتعتمد في غالبها على طريقة السؤال والجواب، واستمر دارسا في هذه المدرسة لمدة لا باس بها، إلى أن فتحت المدرسة الابتدائية الأولى في النفيعة عام 1377هـ ، وهي أول مدرسة حكومية تتبع وزارة المعارف، تم فتحها في القطاع الجبلي بمنطقة جازان، فكان الاقبال على الالتحاق بها كبير جدا، وسجل هو من ضمن الطلاب الملتحقين بها، حيث تم قبوله منتظما في الصف الثاني الابتدائي مباشرة، نظرا لمستواه التعليمي السابق، وبعد فترة ليست طويلة تركها، ولم يستطع الاستمرار فيها، لارتباطه حينها بوظيفة رسمية في المحكمة الشرعية، ورغم ذلك بقي التعليم هاجس له لا يفارقه، مما دفعه لاحقا وبعد سنوات، إلى مواصلة تعليميه الابتدائي المتاح حينها في فيفاء، حيث التحق بالمدرسة الليلية في مدرسة نيد آبار الابتدائية، الواقعة في جبل آل الثويع بفيفاء، وواصل فيها دراسته الليلية، إلى أن حصل على الشهادة الابتدائية منها.
واستمر كذلك يسعى دوما إلى تطوير مستواه العلمي والعملي، ويستزيد من التعلم ومن بناء الخبرات، وكانت اهم مصادر تعلمه القوية والاساسية، تكمن في ملازمته الطويلة واللصيقة لأخيه الشقيق الأكبر، فضيلة الشيخ القاضي علي بن قاسم رحمه الله، الذي تربى على يديه وعلى توجيهاته، فكان حريص على متابعة جميع مراحل تعليمه، والعمل على تنمية قدراته وخبراته في كل مسارات الحياة، واصبح تاليا موظفا لديه في المحكمة الشرعية بفيفاء، فكان يلازمه معظم وقته، ويسمع منه ويتابعه في كل اموره، وكان لا يفتر عن توجيهه وتعديل مساراته وسلوكه، ويشجعه على كل ما هو نافع ومفيد له، وفي مقدمة ذلك حرصه على تحسين مستواه العلمي والعملي، فكان يحثه دوما على القراءة المتخصصة والمتنوعة، وعلى تجويد امكانياته وقدراته، وكان له دور كبير وبارز في اتقانه الكتابة الصحيحة، الخالية من الاخطاء الاملائية، وفي تجويدها وجمال خطه لها، ويقول عن شيء من ذلك، (كنت من البداية احاول أن اقلده في مسكه للقلم، وفي اسلوبه وفي صياغته) وقد ابدع في ذلك ايما ابداع، حتى أنك لا تكاد تفرق بين خطيهما، ومن اساليبه الجميلة التي لا ينساها، عندما لاحظ عليه ميلا في بعض السطور، وانحرافا يسيرا في تنسيقها، فقال له على سبيل المداعبة (اجعل السطور مستوية مثل ما تفعله في اتلام الحرث)، لأنه كان ماهر في حرث الارض ويتقنه بشكل كبير، وهكذا سار معه في معظم مراحل حياته الأولى، وارتفعت معنوياته كثيرا، وزادت خبراته، وتحسن مستواه، وتكامل في جميع نواحي الحياة، وبعد سنوات وقد انتقل عمله إلى مكة المكرمة، أتيحت له فرصة الالتحاق بدورة خاصة في معهد الادارة العامة بجدة، كانت تحت عنوان (كتّاب الضبط في المحاكم)، واستمر فيها لمدة شهر كامل.
وطوال هذه المسيرة الطويلة، الممتدة من طفولته المبكرة، وعلى مدى تعلمه، وتنقلاته خلالها بين الكثير من المدراس، بنى له كثير من العلاقات الشخصية، وكان له عدد كبير من الاصحاب والزملاء، وله معهم العديد من الذكريات الجميلة، ويذكر من هؤلاء رفقائه في الطفولة المبكرة، الذين كان معظمهم يعيشون معه، أو ملاصقين له طوال الوقت، بحيث لا يكاد يفارقهم أو يفارقونه، فقد كان غالبهم ايتاما وبيوتهم مجاورة لبيت اهله، ويذكر من هؤلاء، اخوه من الرضاعة جابر بن اسعد الظلمي، ثم اسعد بن سليمان الخسافي، وشريف بن علي الكدفي الخسافي، إضافة إلى اخيه الاصغر منه يحيى بن قاسم حفظهم الله جميعا، ويأتي من بعد ذلك الزملاء في الدراسة، ويذكر منهم ابناء الشيخ سليمان بن علي الظلمي، شيخ قبيلة آل ظلمة حينها رحمه الله، وهم جبران وفرح وسلمان رحمهم الله، ومن ذكرياته معهم، أنه عندما كانوا يدرسون عند فضيلة الشيخ القاضي علي بن احمد ال شحرة رحمه الله، في مدرسة المبداه، اسفل ذراع منفة، كان يفسحهم في منتصف النهار، لتناولوا وجبة الغداء البسيطة، التي يحضرونها معهم من بيوتهم، ولا ينسى ذات يوم وقد احضر معه قرصا مميزا، عبارة عن (جمارة صغيرة معجونة باللبن)، وتعتبر حينها من افخر الاكلات، وكان زملائه هؤلاء (جبران وفرح وسلمان) قد احضروا معهم من بيتهم، لبنا رائبا (حقينة)، وخبزا من الدفين، والدفين عبارة عن (حب مخزن من سنوات، يحفظونه في حفرة تحت الارض، ويكون شبه متعفن لطول تخزينه، وطعمه وريحته مختلفة)، فلما اجتمعوا حول هذه المائدة البسيطة، وقد اختاروا لهم ظلا تحت شجرة نكرة في الجوار، فحضر اليهم أحد زملائهم، وكان اكبر منهم، وعرض عليهم أن يشاركهم في وجبتهم، واغراهم بأن لديه بعضا من السكر، الذي عرضه امامهم في قرطاس صغير بين يديه، وهذا السكر يكون مشاركته معهم في هذه الوجبة، ومن فرحهم بالسكر النادر الوجود، وافقوا على الفور على مشاركته لهم، فاقترح عليهم أن يبدؤوا في الأكل بخبزة الدفين، ويكون السكر اداما مسوغا لها، ثم تكون بعد ذلك الجمارة، فإدامها فيها (كما يقول)، ولكنهم ما إن انتهوا من اكل خبزة الدفين، حتى التقط الجمارة بسرعة مذهلة، وانسل هاربا من بين ايديهم، فقاموا في الحال على مطارته، ولكنه اعياهم في الهرب، ولم يلحقوا به نهائيا، واما هو وكان اصغرهم سنا، فقد عاد إلى المدرسة باكيا العين حزينا، وسمع بكائه معلمه الشيخ علي، وسأله عن ما اصابه واسباب بكائه، فلما أخبره بما حدث، دعاه للطلوع عنده في بيته المجاور للمدرسة، وكان يأكل حينها مع امه رحمهما الله، وغدائهما قليل من الخبز، وقهوة قشر محلاة بالسكر، فاكمل تناول الغداء معهما، وقال له معلمه ناصحا، اياك أن تشارك آخرين معك في غدائك، وإذا ما حضرت في الصباح، فاترك رشادك هنا في البيت عند الوالدة، وفي وقت الفسحة اطلع معي، وسنزودك معنا بشيء من القشرية.
وكذلك من الأصحاب والزملاء اثناء دراسته في مدرسة الخشعة، يذكر منهم كل من حسن بن يحي الثويعي (شيخ آل الثويع اليوم)، وعبدالله بن اسعد العبدلي، واحمد بن محمد العبدلي، ومسعود بن حسن العبدلي، وكذلك ابناء الشيخ محمد بن احمد الحكمي، شيخ قبيلة آل بالحكم، وكان اكثر اقامته في بيته رحمه الله، وهم حسن (شيخ القبيلة لاحقا)، وكان حينها معلما في هذه المدرسة، واخويه يحي ومسعود، وكذلك من ابناء أهل قزاعة، ابناء الشيخ جابر بن سالم المشنوي، شيخ قبيلة آل المشنية رحمه الله، ومنهم علي بن جابر، وكان حينها معلما ايضا في هذه المدرسة، ثم اخيه سلمان، وولد اخيهما يحي بن سلمان، وكانت بينهم الكثير من الألفة والمحبة والاحترام، حتى أن كل واحد من هؤلاء يحاول أن يستضيفه عنده في بيته، لصدق محبتهم وكمال مرؤتهم، واحتراما منهم له، لكونه اخ شقيق للشيخ علي بن قاسم، رحم الله من مات منهم وحفظ بحفظه الباقين.
عمله الوظيفي:
كانت البداية له في العمل الوظيفي، وهو ما زال صغيرا في السن، عندما شغرت وظيفة مأمور في المحكمة الشرعية بفيفاء(محضر خصوم)، وعين عليها لانطباق شروط الوظيفة عليه، وتمت مباشرته عليها في14/5/1376هـ، وكانت حينها على المرتبة التاسعة، وهي تعادل اليوم المرتبة الاولى، حيث كانت المراتب الوظيفية حينها تحسب تنازليا، تبدأ من اعلى إلى الاسفل، فأعلى مرتبة وارفعها الاولى وادناها العاشرة، ثم تمت ترقيته في 1/7/1385هـ إلى المرتبة الثامنة التي تساوي الثانية، وكانت بمسمى كاتب، وبعدها جرى تعديل المسميات في السلم الوظيفي، على ما هي عليه اليوم، وبناء عليه عدلت درجة وظيفته في 1/2/1391هـ، من المرتبة الثامنة إلى المرتبة الثانية التي تعادلها، ثم بعدها صدر قرار ملكي من الملك فيصل رحمه الله، في تاريخ 1/7/1392هـ، يقضي بإعطاء الموظف الذي امضى في الوظيفة عشر سنوات، المرتبة السادسة استثناء، أسوة بالموظفين الجامعيين، فكان هو من ضمن المستفيدين من هذا القرار، حيث رفع مباشرة على المرتبة السادسة، التي كانت بمسمى رئيس كتاب ضبط، وفي تاريخ 1/7/1393هـ تم تحوير مسمى هذه الوظيفة إلى كاتب ضبط، وفي تاريخ 11/7/1397هـ تمت ترقيته على المرتبة السابعة، بمسمى كاتب ضبط، وفي تاريخ 21/9/1402هـ تمت ترقيته إلى المرتبة الثامنة، بمسمى رئيس كتاب ضبط، وفي تاريخ 6/10/1411هـ وهو يعمل حينها في المحكمة الجزائية بمكة المكرمة، تقدم على مسابقة على المرتبة التاسعة، كانت بمسمى رئيس كتاب ضبط، ونجح في المسابقة وحصل على هذه المرتبة، وفي تاريخ 12/11/1415هـ تمت ترقيته إلى المرتبة العاشرة، في نفس المحكمة الجزائية بمكة المكرمة، وعلى نفس المسمى رئيس كتاب ضبط، وبقي على هذه الوظيفة والمرتبة، إلى أن تمت احالته على التقاعد، لبلوغه السن النظامية في 1/7/1417هـ، حيث بلغت مجموع خدماته الوظيفية اربعون سنة واربعة اشهر متصلة، قضاها جميعها في وزارة العدل، تسع وعشرين سنة الأولى في المحكمة الشرعية بفيفاء، وتمت اعارته في عام 1405هـ، ليعمل في دولة الامارات العربية المتحدة، في المحكمة الشرعية في امارة أم القيوين، وعمل فيها لمدة اربع سنوات كاملة، ليعود بعدها في عام 1409هـ إلى المملكة، واختار العمل في مكة المكرمة، وتم توجيهه للعمل في محكمة التمييز بالمنطقة الغربية، وعمل فيها رئيس كتاب ضبط، وكلف بالعمل رئيسا لمكتب الدائرة الثالث، وفي عام 1411هـ تمت ترقيته على وظيفة رئيس كتاب ضبط، في المحكمة الجزائية بمكة المكرمة، والتي استمر فيه إلى أن بلغ سن التقاعد النظامي، حسب عمره المثبت في البطاقة الشخصية، وكانت كلها سنوات حافلة بالجد والعطاء، والاخلاص والتفاني، وحب العمل، والحرص على انجاز ما يوكل إليه، والسعي إلى خدمة الناس وجلب المصالح لهم، وقد عرف فيه شقيقه القاضي كل هذه الخصائص، فكان يوليه دعمه وجل ثقته، ومن شديد حرصه على انجاز العمل، أنه كان يواصل عمله إذا اقتضى الحال في بيته، إذا ما رجع إليه بعد انتهاء الدوام الرسمي، وبالذات اخراج الصكوك التي قد تم ضبطها، فلم يكن يقصر عمله على وقت الدوام الرسمي فقط، فاذا ما ضبط القضايا في سجل الضبط، مع القاضي في وقت الدوام الرسمي، عمل على استكمال اخراج صكوكها في البيت، ليحضرها معه في الصباح جاهزة، وذلك حرص منه أن لا تتأخر، وأن ينجز العمل ومصالح الناس بسرعة، ولذلك كان محل تقدير واجلال من رئيسه، ومن زملائه ومن المراجعين، وذلك بفضل الله وتوفيقه له، وكان يقابل احيانا كثيرا من الناس، في مناسبات عديدة وحتى بعد تقاعده، فيجد منهم الثناء العاطر والدعاء له بالتوفيق، لأنه قد قدم لأحدهم معروفا من خلال عمله، وقد يذكّرونه بشيء من تلك المساعدة لهم، وفي الغالب فهي اشياء لم يعد يذكرها، وذهبت في طي النسيان، ولكنها بمشيئة الله باقية عند الله سبحانه وتعالى، وفقه الله وتجاوز عنه، وثقل بما قدمه في موازين حسناته، واعلى من درجاته ومراتبه في فسيح جناته.
في اثناء عمله في مكة المكرمة، وبالتحديد في المحكمة الجزائية، علم بوجود وظيفة رئيس هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منطقة نجران شاغرة، فتشجع على ترشيح نفسه على هذه الوظيفة، وحصل على تزكية لهذه الوظيفة الشرعية المهمة، من محكمة التمييز بالمنطقة الغربية رقم١٨٧٤/6 في 2/2/1412هـ، حيث سبق له وعمل في هذه المحكمة لأكثر من ثلاث سنوات، وتعامل خلالها مع المشايخ اعضاء هذه المحكمة، وعرفوا مكانته وامكانياته، فوقعوا له هذه التزكية الغالية، كل من اصحاب الفضيلة والمعالي قضاة هذه المحكمة الموقرة، وهم كل من : معالي فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام، رئيس هيئة التمييز بالمنطقة الغربية، وفضيلة الشيخ علي بن قاسم ال طارش الفيفي رئيس الدائرة الحقوقية الثالثة، وفضيلة الشيخ صالح المزروع، وفضيلة الشيخ الدكتور جابر الطيب، الاعضاء في محكمة التمييز حينها رحمهم الله جميعا، ورغم أنه لم يتابع انجاز هذا الموضوع بالجدية المطلوبة، إلا أنه احتفظ بصورة هذه التزكية اعتزازا بها وفخرا بمضمونها.
وكان كما المحنا مجتهدا في عمله، وفي كل ما يؤكل إليه من مهام، بل ويسعى جاهدا إلى خدمة الناس بما يقدر عليه، من خلال هذا العمل أو من خارجه، من السعي لجلب النفع والمصالح لكل أحد، عرفه أم لم يعرفه، ومما يذكره منها في هذا المجال، وكان يعمل حينها في المحكمة الشرعية بفيفاء، ولا يذكرها هنا من باب التفاخر والتباهي، لأنه لا يرجو ثوابها إلا من الله وحده، ولكن من باب فأما بنعمة ربك فحدث، وهي أمور قد انتهت وغاب معظم اصحابها رحمهم الله وغفر لهم، فالله سبحانه يهيأ للإنسان فرصا ليعمل من خلالها الخير والنفع للناس، فيرجو أن تكون هذه من هذا القبيل، وتكون بمشيئة الله خالصة لوجهه الكريم، حيث كان يقوم متعاونا مع الشيخ عبدالله بن حسن حسين الداثري رحمه الله، عندما كان هذا الاخير يعمل حينها في مكتب الضمان الاجتماعي بمنطقة جازان، وكان إذا ما عاد لفيفاء احضر معه بعض استمارات البحث، التي تعمل خاصة لمستحقي الضمان الاجتماعي، فكان هو بدوره يسعى بجهوده الخاصة إلى تلمس اهل الحاجات من اهالي فيفاء، ممن تنطبق عليهم هذه الشروط، فيستكمل تعبئتها لهم بكل دقة، ويرفق بها الاثباتات الرسمية المطلوبة منهم، ويضع عليها التواقيع وتصديقات المشايخ، أو غيرهم من الجهات الرسمية، وإذا ما اكتملت سلمها بدوره للشيخ عبدالله، الذي يعمل على إكمال اجراءات اعتمداها في مكتب الضمان، ولقد استمروا على هذه الأمر لفترة طويلة، استفاد من خلالها كثير من الاسر المحتاجة، ممن لم يكن لديهم دراية بها من قبل، ولبعدهم عن مكتب الضمان في جيزان، وتعذر وصولهم إليه، فلم تشق طرق السيارات حينها في جبال فيفاء، ولم يكن هناك فروع قريبة لمكتب الضمان كما هو الحال فيما بعد، فكانا يتعاونان معا، ويسندهما بعض المشايخ، وفي مقدمتهم الشيخ حسين بن محمد الظلمي، شيخ قبيلة آل ظلمة رحمه الله، لقناعته التامة بهذا العمل الخيري المثمر، فكان من باب الثقة المطلقة فيه، يعينه دون تردد في تصديق هذه الاستمارات، حيث تظافرت جهودهم الخيرة، هم وامثالهم من اهل الخير، في خدمة هؤلاء الناس في هذا المجال، جزاهم الله خيرا وبارك فيهم وفي فعلهم، فكان إذا ما عرف مستحق تنطبق عليه شروط الضمان الاجتماعي، اعطاه استمارة واعانه على تعبئة كل حقولها، ودله على كيفية استكمال متطلباتها، حتى من كان منهم محتاجا إلى صك اثبات أو اعالة من المحكمة، دله على الطريقة وساعده على استخراجه، وفي استكمل جميع الاجراءات والمرفقات الضرورية المطلوبة، ثم سلمها كاملة بمرفقاتها للشيخ عبدالله، وهو يتابع استكمال بقية الاجراءات لاعتمادها في مكتب الضمان الاجتماعي، وبهذه الطريقة المباركة، استفاد كثير من الاسر الفقيرة المحتاجة، من الارامل والعوانس والايتام، وخاصة من كانوا بعيدين ولا يعرفون الطريقة للمراجعة.
ومن ادواره المماثلة كذلك، ما كان يقوم به مع الشيخ عبدالله بن جابر العبدلي رحمه الله، الذي كان يعمل حينها في جوازات جازان، فإذا ما وجد شخصا عاجزا عن متابعة استخراج اثباتاته من الاحوال المدنية، كان يدله على اكمال متطلباتها من قبل شيخه والجهات الحكومية في فيفاء، ثم يسلمها بدوره للشيخ عبدالله، الذي تكفل بمتابعتها في الاحوال المدنية إلى أن ينهيها، وكانت هذه من اعظم الخدمات لكثيرين ممن يستحقونها، وهي بمشيئة الله تكون لهؤلاء الفضلاء أجرا ومثوبة لا تنقطع، رحمهم الله وجزاهم جميعا خير الجزاء.
وفي الاعوام 1390و91و92، مرت بفيفاء فترة جفاف عظيمة، بسبب انحباس الامطار لفترات طويلة، وترتب عليه نقص في الثمرات، وشح في المياه الجوفية، وعان الناس بسبب ذلك كثيرا، حتى أن الكثيرين اضطروا إلى الهجرة من فيفاء، بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، بما عرف لاحقا باسم عام الهربة، وكان هو حينها يسكن في بيته خيران، الواقع في اسفل ذراع منفة، فسعى هو وجاره وصديقه الشيخ احمد بن شريف سالم الكدفي رحمه الله، لتشجيع اهل بيت المداحل المجاور لهم، عندما تبدى لهم حفر بئر في طرف مزرعتهم، كانوا يؤملون أن يجدوا فيه ماء، فقاما على مساندتهم ومساعدتهم إلى أن اتموا حفر البئر وبناءه، فجعل الله في هذا البئر الخير والبركة، حيث تدفقت منه المياه بغزارة كبيرة، وجعلوه وقفا لكل محتاج، فكان يحضر في كل يوم صباحا ومساءا العشرات يستقون منه، ما يقارب (السبعين)، وهذه آية وفضل من الله ولطف منه بعباده، جزء الله خيرا صاحبة هذا الوقف، الفاضلة فاطمة بنت حسين آل دانعة الظلمي رحمها الله، واولادها مسعود وجابر واختهم، اولاد فرحان بن سالم المثيبي رحمه الله، ولكل من سعى وساعد في هذا الوقف.
لقد كان مبادرا لكل خير واحسان، وكان كذلك ساعد والده الأيمن في الزارعة وفي جميع اعماله، فمن صغره المبكر كان يعينه في كل الادوار المطلوبة، في البيت والمزرعة وغيرها، وكان يعتمد عليه اكثر من غيره من اخوانه، وبالذات عندما تقدمت به السن وقل حيله، وكانت الزراعة هي المهنة الرئيسية التي يزاولها الناس، في تلك الفترة وما قبلها، بل كان الناس يعتمدون عليها اعتمادا كليا في معاشهم، وكان والده رحمه الله مزارعا يهتم كثيرا بمزارعه، وفي العناية بها وحرثها وزراعتها، وفي متابعتها إلى تمام حصادها وما يتلوه، بل كان يهتم بكل جزء منها يكون صالحا للزراعة، فيتتبع الزوايا وبعض الشقوق في الصخور، إذا ما وجد فيها مقومات الانبات، لأنه عاش وتربى على الاهتمام بهذه الجوانب الهامة في الحياة، ومر فيها بفترات من المشقة والمعاناة، حيث عان كثيرا من ظروف المعيشة الصعبة، فلأجل ذلك كان يقدر القيمة الحقيقية لكل جزء من الارض، ويخلص في خدمتها واستخراج خيراتها، وكانت له عشقا فقد تعلق بها واحبها واخلص لها، ومما يذكره من قوة تعلقه بها، أنه عندما مرض في مرضه الاخير، عام 1398هـ الذي توفي فيه رحمه الله، وقد حبسه المرض في بيت ولده الشيخ علي بن قاسم في النفيعة، البعيد حينها عن مزارعه في شرقي الجبل الأعلى، فكان لا يفتر يسأل أولاده الملازمين له (مفرح رحمه الله، واحمد)، وهما يزورانه ويتابعان حالته الصحية، فيكثر عليهما من سؤاله عن ما فعلاه في هذا الموسم، وماذا بذرا من الحبوب في المزارع، ويصف لهما مزارعه وما يناسب كل مكان منها من الحبوب، فهذه يناسبها الدخن وهذه الذرة وهذه الغرب وهكذا، رحمه الله وغفر له وتجاوز عنه.
لقد كانت اهم عمليات الزراعة حينها، تكمن في حراثة الارض، وحسن تقليبها، ويستخدمون لذلك الحرث بثور واحد فقط، بسبب ضيق المدرجات الزراعية في الجبال، ولا يتقن هذه العملية إلا متمرس بها خبير فيها، وتقسم الحراثة إلى انواع متعددة، بحسب وقتها والحاجة اليها، فالحرث عند البذر (الجرف) يختلف عن الحرث الاولي للمزرعة، فهو يحتاج إلى الدقة التامة في تسيير الثور، وفي خطوط الاتلام المستقيمة، ومثله الحرث على الزرع وقد ارتفع قليلا عن الارض (الشتا)، وكان يتقنها كلها جيدا بكامل انواعها واشكالها، ويحسن تربية الثيران المناسبة وتدريبها (التذليل)، ولديه الكثير من المهارات في هذا الجانب، اكتسبها منذ صغره المبكر، عندما كان يلازم والده كثيرا منذ نعومة اظفاره، وفي متابعته للعمال الذين كان يستعين بهم، مع عشقه ومحبته لهذا العمل، وكان اكثر ما تعلمه من صديقه الشيخ احمد بن شريف الكدفي رحمه الله، الذي تخصص كثيرا في الحراثة وتدريب الثيران، فكان لا يكاد يفارقه مما اكسبه الكثير، حيث تدرب على يديه، بل كان وما زال يصفه رحمه الله بأنه استاذه الخاص، وتمرس حتى اصبح ماهرا تماما في هذا المجال، ولذلك كان والده يعتمد عليه في ذلك اكثر من غيره، وهي عملية شاقة وطويلة، حتى أن المزرعة الواحدة تحتاج لأكثر من ثلاث حرثات (عمل) في الموسم ، الاولى في البداية لتقليب التربة وتنظيفها من الاعشاب والجذور المتبقية، لتهيئتها للزراعة وليتغلغل ماء المطر إلى داخلها، ثم يأتي بعدها ما يسمى بالجرف، وهو الذي تكون خطوط الحراثة فيه متباعدة ومتساوية، وتبذر اثنائها الحبوب المناسبة، ثم يتلو ذلك الشتا، يكون بعد ارتفاع الزرع قليلا عن مستوى الارض، لتثبيته وفتح مساماته للشرب الماء والتهوية.
اضافة إلى قيامه بكثير من الأدوار في معاونة كل أفراد اسرته، في جميع الامور ومتطلبات الحياة الكثيرة، فهو عضو ايجابي داخل اسرته وفي مجتمعه، يبادر لكل عمل خيري أو واجب دون أن يطلب منه، تميز بحسن الخلق وطيب المعشر وسماحة النفس، سهل التعامل سخي كريم، يبذل الخير بكل اريحية، حفظه الله ووفقه وبارك فيه، وجزاه خيرا على ما قدمه وما شارك به، واطال عمره على دروب الخير والفلاح.
حياته الاجتماعية :
تزوج في حياته عدة زوجات وعدد في ذلك، وكان زواجه الاول في عام 1382هـ، من الفاضلة فاطمة بنت يحي ال زايد الخسافي حفظها الله، ورزق منها بولدين ابن وبنت، ولكنهما افترقا في حوالي عام 1386هـ، ثم تزوج في نفس العام، من الفاضلة سعيدة بنت قاسم أحمد آل غالب الظلمي رحمها الله، ورزق منها بعشرة اولاد، ستة ابناء واربع بنات، توفي منهم ولد وبنت، وعاشت معه لأكثر من خمسين سنة، كانت من خيرة النساء خلقا ودينا وعشرة ودماثة اخلاق، بارة به وبوالديه وابنائه واسرته وضيوفه رحمها الله وغفر لها، ثم تزوج بزوجته الثالثة، الفاضلة سعيدة بنت سليمان اسعد آل مارحه العبدلي حفظها الله، في عام ١٤٠٩هـ، وكانت تدرس حينها في معهد المعلمات بفيفاء، وهي ذات خلق ودين، وحافظة متقنة للقرآن الكريم، ورزق منها بسبعة اولاد، اربعة ابناء وثلاث بنات.
واما أولاده فهم مرتبين حسب الولادة، على النحو التالي :
- سليمان ثانوية، متقاعد من الجيش، ومتزوج وله اولاد واحفاد.
- مريم متزوجة ولها أولاد واحفاد.
- حسن ثانوية، متقاعد من الجيش، ورجل اعمال، متزوج وله اولاد واحفاد.
- موسى جامعي معلم متقاعد، ورجل اعمال، متزوج وله أولاد.
- علي جامعي وموظف في امارة منطقة مكة المكرمة، متزوج وله أولاد.
- عبدالله ثانوية وموظف، متزوج وله اولاد.
- محمد جامعي ومعلم ، متزوج وله اولاد.
- أمل رحمها الله.
- أمل جامعية متزوجة ولها أولاد.
- نبيلة جامعية متزوجة ولها أولاد واحفاد.
- خالد رحمه الله.
- سلوى جامعية متزوجة ولها اولاد.
- إلهام جامعية متزوجة ولها أولاد.
- بيان جامعية متزوجة ولها أولاد.
- طارق جامعي، ضابط في الدفاع المدني، متزوج وله اولاد.
- رغد جامعية متزوجة.
- حافظ جامعي.
- ريان جامعي.
- قصي طالب في الجامعة.
حفظهم الله وبارك فيهم وفي ذرياتهم، وحفظه الله بحفظه، واطال في عمره على طاعته، وختم لنا وله بالصالحات.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محبكم/ عبدالله بن علي قاسم آل طارش الفيفي ـ أبو جمال
الشيخ احمد بن قاسم آل طارش الفيفي
الرياض في 1446/3/3هـ
المنوعات