مقالات

سيرة الفقيه : زاهر بن حسن المشنوي الفيفي (رحمه الله)

إعداد الشيخ :عبدالله بن علي قاسم آل طارش الفيفي ـ ابو جمال

سيرة الفقيه : زاهر بن حسن المشنوي الفيفي (رحمه الله)

الناس في مجتمعنا يطلقون على صغير السن الغرير جاهلا، وهي تسمية واقعية مطابقة للحال، لأن الانسان في هذا السن لا يدرك كثيرا مما حوله، ولا يعرف ما ينفعه ولا ما يضره، ولا يحسن التصرف السليم في كامل اموره، فاذا ما كبر قليلا وتكاملت مداركه، وابتدأ يميز ويدرك الصحيح من الخطأ، ويحسن التعامل والتصرف السليم في اموره، سواء مع نفسه أو مع غيره، وصفوه بالعاقل ، أي أنه اصبح يعقل اموره، ويدرك تصرفاته، ويميز فيها بين السلب والايجاب، فيحسن عقل وفهم كثير مما يجري حوله، واما اذا تجاوز هذه المرحلة، واستغل ما منحه الله من العقل والادراك، وطورها ونمى قدرات نفسه، وتعرف بوضوح على الطرق والاساليب والقواعد السليمة، التي تكسبه هذه المعارف، وتصقل مواهبه وتنميها وترتفع بها، بحيث يحسن استيعاب المعارف النافعة، ويقتبس معلوماته من الاخرين ممن سبقوه، فإنه حينئذ يسمى عالما، وكلما ترقى وزادت مهاراته في هذا المجال، سلم له الناس واعترفوا له بتقدمه وامامته عليهم، فالعلم يعرّف بأنه (ادراك الامور على حقيقتها)، وبالطبع لا يأتي إلا عن طريق اكتساب الكم الكبير من المعارف، ولهذا السبيل لا بد له من اتباع الاصول والقواعد الصحيحة فيه، والتي يأتي في مقدمتها المعرفة الجيدة بالقراءة والكتابة، فالقراءة والكتابة هي الطريق الوحيد الامثل إلى اكتساب العلم، وفي تعلم المهارات والخبرات ممن سبقوا، وهي الصفة الوحيدة التي تميز شخصا عن آخر، ليحكم بعلمه أو يحكم بجهله، فالعلم وكما قيل نور والجهل ظلام، لأن العالم يضيء لمن حوله، ويستفيدون منه وينتفعون به، ولا يستغنون عنه في كل حالاتهم، ويقتبسون منه الخير والصلاح، والاسترشاد بمعارفه وخبراته، قال الله تعالى ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)، وقال صلى الله عليه وسلم (من سلك طريقًا يطلبُ فيه علمًا، سلك اللهُ به طريقًا من طرقِ الجنةِ، وإنَّ الملائكةَ لتضعُ أجنحتَها رضًا لطالبِ العِلمِ، وإنَّ العالِمَ ليستغفرُ له من في السماواتِ ومن في الأرضِ، والحيتانُ في جوفِ الماءِ، وإنَّ فضلَ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ، وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، وانما ورَّثُوا العِلمَ فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ)، وأنه عندما بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بالدين الحق والهدى والاسلام، وابلغه الناس وعرفوا به لماذا خلقوا، وما هي الغاية من وجودهم في هذه الحياة الدنيا، وإلى أين يتجهون بعدها، وما هو مصيرهم الحتمي، فاصبحوا عارفين عالمين مدركين، وعرفوا حقيقة امرهم وواقع حياتهم، وعلموا ما هو معادهم وماذا ينتظرهم، بعكس كثير ممن سبقوهم، وممن مضوا في ضلالتهم وجهلهم، لذلك اجمع الناس على تعريف هولاء الذين سبقوا هذا العصر بأهل الجاهلية، لأنهم كانوا على جهل بعدم ادراكهم لماذا خلقوا، وما هي وظيفة وجودهم في هذه الحياة، والى اين يتجهون وما هو مصيرهم، فالإسلام ومعرفته هو العلم الحقيقي، الذي يتوارثه الناس من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، (وأن العلماء ورثة الانبياء).

وكما قيل إن من الاسم قسم ، فاسم (زاهر) اسم يدل على قوة الضياء واللمعان، يقال نجم زاهر أي شديد الضياء، ونجم الزهرة انما اطلق عليها ذلك لسطوع ضيائها على بقية النجوم من حولها، وكان المسافرون يهتدون بها في الليالي الحالكة، في البر وفي لجج البحر، قال تعالى (وعلامات وبالنجم هم يهتدون)، وصاحب سيرتنا (زاهر) بالفعل اصبح اسما على مسمى، فكان بين قومه ضياء ومرشدا ومعلما، رحمه الله وغفر له وتجاوز عنه وبارك في ذريته.

أنه الشيخ الفقيه:

زاهر بن حسن بن اسعد الحدلمي المشنوي الفيفي رحمه الله وغفر له،

ولد رحمه الله في بدايات القرن الثالث عشر الهجري تقريبا، في بيت والده المرمى، والذي عرفت به بقعة المرمى في جبل ال المشنية بفيفاء، وتربى ونشأ في هذا البيت.

والده هو حسن بن اسعد بن قاسم بن سلمان بن يحيى بن جابر بن علي بن مسعود بن ساري بن امحدلم بن امقفشي المشنوي، اسرة لا تختلف عن غيرها من الاسر، تعمل في الحرث والزرع، وتكافح في سبيل اللقمة والرزق الحلال، كان له اربعة من الولد، فمع زاهر كان له (سلمان وسالم ومفرح)، ولكنه كان يرى في زاهر تميزا ونبوغا، وتطلعا إلى التعلم واهتماما اكثر بالمعرفة، لأنه كان كثير التساؤلات عن الامور الشرعية، والاستزادة من العلوم والمعارف، ويجد في نفسه حبا لهذه الميزة، ولكنه في نفس الوقت يخشى عليه، فيحس أنه سيفقده، إذا سعى إلى تحقيق هذه التطلعات، لأنه يعرف استحالة تحقق ما يصبو إليه إلا بالسفر والغربة، لأن فرص التعلم في مجتمعه التي ينشدها شبه مستحيلة، فالجهل ضارب اطنابه في كامل المحيط، وكم تحسف على مداعبته له في احد المرات، عندما قال له ان كنت تريد أن تصير عالما فاتجه إلى المشرق، قاصدا عدم استطاعته تحقيق مراده من العلم، إلا بذهابه الى اتجاه المشرق إلى (اليمن)، لأنهم لا يعرفون حينها مدارس قائمة للعلم إلا في هذه الاماكن، ويرى أن ذلك من المستحيلات عليه، ومن الصعوبة عليه تحقيقها، لما يعرفه من بعد المسافات وصعوبتها، وخطورة الطرق وانعدام الأمن فيها، وكان يكررها امامه من باب المزاح لا غير، ولكنه لم يدرك انه كان يحفز التحدي والاصرار في نفسه، وانه زرع في فكره حلم التطلع إلى تحقيقها، فقد وجهه دون قصد إلى هذا الاتجاه، حتى وصل به إلى عقد العزم على بلوغها، ثم ادرك الاب خطورة هذا الأمر الذي كان يخشى منه، عندما وجد ان ابنه يكثر الاهتمام بالسؤال عن هذه الاماكن، واصبحت غاية مراده وشغله الشاغل، فكان يستفسر عنها من كل غريب ومتعلم يجده، وابتدأ يسمع في حديثه كثيرا، اسماء هذه الهجر العلمية، كصعدة وضحيان وقطابر، ومعرفته بكثير من اتجاهاتها وكيفية الوصول اليها، ثم وجده أخيرا يتشجع ويفاتحه بالاستئذان للذهاب إليها، وعندها عض اصابع الندم عندما وقوع الفاس في الرأس، فما كان يخشاه ها هو يقترب منه، فقد كان يعرف تماما حينها أن الخارج من بين اهله مفقود، لأسباب في مقدمتها اختلال الامن، فلذك قد قرر من البداية رفض طلبه دون تردد، واستمر في تكرار رفضه كلما اعاده، ويحاول في كل مرة اقناعه بالعدول عن هذه الفكرة، ويدلل له على انها غير صائبة ولا سديدة، فكان يخوفه بالمجهول الذي سيواجهه، وبالغربة وصعوبتها، والمعاناة التي سيلاقيها، وقد يكون في دخيلة نفسه يرغب في هذا الأمر ويتمناه، ولكن عاطفة الابوة تتغلب عليه وتمنعه، فلا يريد أن يصيب ولده أي مكروه، فكان يتجنب هذا النقاش على قدر ما يستطيع، مكررا الرفض كلما فاتحه فيه، لعله يصرف نظره أو يغير قناعاته، ولكن سرعان ما مات الاب رحمه الله، وما زال مترددا في السماح له بالهجرة لطلب العلم، ولكن الابن كان بار بابيه فلم يخالف رغبته في حياته، فلا يريد أن يعصيه في امرا انما هو يطلب فيه الاجر والخير، فيخشى معصية ابيه وعقوقه فيه، فقد لا يوفقه الله في مسعاه التام اليه، رحمهما الله وغفر لهما.

واما امه فهي الفاضلة:

جميلة بنت جبران سلمان الحدلمي المشنوي رحمها الله، تجتمع مع الاب في نفس الجد آل امحدلم، كانت ام شفيقة حنونه طالما تعاطفت مع ولدها في تحقيق رغباته، فقد كان يبثها كثيرا من رغباته واحلامه، ولكن ليس بيدها حيلة والامر كله بيد ابيه، فالموافقة خاضعة لرايه ومشورته، وهي لا تملك حق المنع أو الموافقة مع وجوده، وكانت ذات عقل وحكمة وصبر وشفقة، فتركت الامور تسير كما يريد الله سبحانه وتعالى، ولكنها لم تعارضه فيما بعد وقد اصبح الامر بيدها، رحمها الله وغفر لها.

   نشأ في هذه الاسرة كغيره من اخوانه، ومن ابناء جيله ومن سبقهم، الكل يكدح ويشتغل في طلب الرزق، من امثاله من شباب ذلك المجتمع، فمهنة الناس الاساسية الاهتمام بالرعي والزراعة، فكان كواحد من افراد الاسرة لا يقصر في اداء ما يوكل إليه، وإن كانت احلامه واهتماماته كبيرة، وتسيطر على كثير من فكره وتوجهه، فكم يحب الترقي في طلب العلم، مع قلة مصادره من حوله، فلا يوجد إلا بعض حلقات بسيطة، تقوم على تعليم القرآن الكريم، ومبادئ القراءة والكتابة، فلا تشبع نهمته، ولا تحقق رغبته الجامحة، في طلب العلم والتوسع في مجالاته، وكلما قابل احد المتعلمين يكثر من مسائلته من أين لك هذا، وكيف السبيل إلى الوصول إلى ما وصلت إليه، وقد عرف كثيرا عن مواطن العلم وهجره الكبيرة، وكم رغب إلى ابيه والح عليه بأن يسمح له بالهجرة إلى واحدة منها، ولكنه كان يقابله بالرفض والصدود، مما حز في نفسه وآلمه كثيرا، وكم حاول معه كل ما سنحت له فرصة المعاودة في الاستئذان، فلا يحب أن يخالفه ويعصي امره، ولكنه يجد المنع والصدود في كل مرة، وكلما اراد أن يشفّع احد اقاربه اعتذروا منه، بل وكان معظمهم يعاضد ابيه في منعه، يدفعهم بالطبع تخوفهم عليه وخشية أن يفقدوه، ولا يجدون من وجهة نظرهم مبررا واحدا يستدعيه لكل ذلك، من الغربة والبعد عن الاهل والاوطان والمعاناة.

  كبر وشب عن الطوق وهذا هو حلمه الوحيد، حيث اصبح يسيطر على فكره وكل احلامه، وبلغت قناعاته به درجة عالية، حتى لم يعد يقوى على الصبر في خوض غمار هذه التجربة، لذلك ما إن توفي الاب رحمه الله، الذي ما كان ليستطيع مخالفة امره، حتى تجددت آماله وقويت رغباته، فسعى إلى اقناع امه إلى أن رضيت وسمحت له بالسفر، لذلك لم يعد يهمه بعد موافقتها شيء، فانطلق في رحلته متوكلا على الله وحده، لا يألو على شيء ولا يصده صاد عن مراده.

  لم يكن حينها يعرف الطريق بدقة، ولا حتى الاتجاهات الصحيحة، ولذلك حاول التواصل مع من يعرف، ممن سبقوه بالوصول إلى هذه الاماكن، من امثال الفقيه حسين بن شريف العبدلي، والقاضي احمد بن اسعد الابياتي وغيرهم، ثم انطلق تحمله الاحلام والآمال، مخترقا جبل فيفاء من غربه إلى شرقه، وتنكب جبال بني مالك، مرورا بالعنقة ووادي دفا في بلاد آل تليد، وإلى حنبه صعودا لبلاد جماعة، إلى أن نزل اخيرا بهجرة العلم في قطابر، وبقي فيها ما كتب الله له أن يبقى، ثم واصل سيره إلى هجر العلم الاكبر منها، فوصل إلى هجرتي صعدة وضحيان، التي وجد فيهما بغيته، والتحق ببعض مدارس العلم فيها، وتلقى عن كبار المشايخ منها، فكانت هذه المدارس في تلك الهجر العلمية، تعتني بطلبة العلم الغرباء، وتهيؤ لهم اسباب المعيشة، فيوجد كثير من الاوقاف الخاصة بها، يؤمن للطلاب منها السكن، وما يحتاجونه من المأكل والمشرب، مما يجعل الطلاب يتفرغون للعلم وطلبه، فتأقلم مع الوضع وارتاحت نفسه، وانغمس في التعلم والجد فيه والاجتهاد، لا يشبع منه ولا يكل ولا يمل، واحس بالمتعة وهو يجد نفسه تترقى في درجات التحصيل النافع، ولذلك لم يشعر بمضي الوقت وتسربه من بين يديه، فمضت به الشهور ولحقت بها الاعوام، حتى لم يشعر إلا وقد انقضت من غربته عن اهله ثلاث سنوات، وعندها ابتدأ الحنين، واستشعر التقصير تجاه امه واهله، وشعر بالشوق يلح عليه إليهم، وإلى دياره ومراتع صباه، فعزم بعد هذه المدة أن يعود إليهم، ليأخذ بهم عهدا، ويبل منهم شوقا، ويطلع على احوالهم وامورهم، فغادر مهجره عائدا إلى بلده، ولم يشعر به اهله إلا وهو بينهم، بعد أن يأسوا في ان يروه مرة اخرى، وكم كانت فرحتهم به عظيمة، وسرورهم بعودته كبيرة، وها هو يعود اليهم رجلا كاملا، وشخصا مختلفا، يزينه نور العلم والحكمة والوقار، وتحليه سعة البصيرة وقوة الادراك.

  بقي بين اهله فترة اصلح فيها بعض املاكه، التي كانت قد هجرت من بعد غيابه، وفيها تزوج وحصن نفسه واكمل دينه، وسعد بالبقاء مع والدته وبين اهله واقاربه، ثم حن من جديد للاستزادة من طلب العلم وتحصيله، فما زال يشعر بأنه لم يبلغ فيه ما يرضيه، وعاد بقوة وعزيمة إلى مهجره، واستمر ذلك ديدنه، يتردد بين اهله وزوجه وبين دار دراسته، في رحلات عديدة ومتكررة ومتتابعة، يزداد فيها علوا وتمكنا،  وقد وصل في بعض منها ولفترة محدودة إلى صنعا، وبقي هذا حاله لفترة طويلة، احس أنه بلغ فيها اقصى ما يتمناه، وما يرغب فيه، وإن كان لم يشبع نهمته، ولكنه رأى أن من واجب اهله عليه العودة اليهم بما يحمله، وان يستقر بينهم لينفعهم، ويستفيدوا مما قد حصله من العلوم والمعرفة، ويكفيه ما قد قضاه في الغربة، بما يقارب سبع سنوات، كلها كدح وصبر وتعب وجد واجتهاد، ومع ذلك لم ينقطع فيما بعد عن التردد في مواصلة اسفاره الي اليمن، اما لأغراض علميه، أو زيارات لبعض العلماء والاصدقاء، او استطلاع الامور ومجريات الأحداث.

الاستقرار في فيفاء:

  عاد بعد هذه السنوات إلى اهله، وقد اصبح على قدر كبير من العلم، يحمل في جعبته كثيرا من الكتب العلمية المعتبرة، من ضمنها الامهات في التفسير والحديث والفقه، وقرر أن يشتري له مكانا ومستقرا مناسبا لتطلعاته، فاختار شراء قرية الشيباء، الواقعة في بقعة ذا امدودة، واصلحها وقد دمرت لهجرها، واسس بها مسجده المعروف، وبنى من حوله بعض الملاحق، عبارة عن غرف للمسافرين ولطلبة العلم، على غرار ما كان قد رآه في رحلاته المتعددة، وكان جوادا كريما، وبيته عامر بالضيوف والمسافرين، ومن طالبي العلم والمعونة والنفع والعلاج، وقاصدي المشورة في القضايا الشرعية والخلافات الاسرية، التي غالبا ما تحدث بين الناس في كل المجتمعات، وقد كان مصلح مرضي القول والرأي، وله القبول بين الناس.

   وانتعش المكان من حوله، بل وسعى إلى استصلح الاراضي المهجورة في الجوار، التي كان يملكها حول بيته، واختط لذلك خطة مناسبة مرضية، ينفع بها نفسه وينفع بها الاخرين من اهل الحاجة، فكان يمنح كل من يرغب قطعة ارض مناسبة، على شرط أن يحييها ويستفيد من غلتها، ولم يكن يأخذ منهم أي مقابل في ذلك، بل يكفيه انهم قاموا بإعمارها واستصلاحها، ولذلك قامت الزراعة في كثير من هذه الاراضي المهجورة، واصبحت الحياة فيها قائمة عامرة، فالتم كثير من الناس حوله، وكثرت الجماعة في الجوار وفي مسجده، وصلحت الاراضي وعمرت، وعم الخير كثيرا من الناس، فكانوا يتسامعون به ويأتون إليه من كل مكان، ولا يرد احدا قد وصل إليه، ورغب في كرمه وفي وفادته، وكان يملك كثيرا من الاراضي الشاسعة في هذا المحيط، فلديه منها جبال واوديه كامله، وكلها قامت فيها الزراعة والاحياء بفضل الله ثم بحسن تدبيره وحسن تعامله، واستفاد الكل واستغنوا، حيث عمرت بيوت عديدة، واستغنت كثير من الأسر الفقيرة، واستفاد هو باستصلاح هذه الاراضي البور، ثم بدعوات الناس له، وطلبهم له بالأجر والمثوبة من الله سبحانه وتعالى، لقد احبه الناس وأنسوا إلى جيرته والقرب منه، لا يستغنون عن مساعداته ورفده لهم، ويتعلمون منه كثيرا من امور دينهم ودنياهم، وينتفعون برأيه وعلمه ومشورته، رحمه الله وغفر له وكتب له اجر كل ما عمله.

   وامتد نفعه في كل مجالات الحياة، والتف الناس من حوله في الافادة من علمه وكرمه، وفرغ جزء كبير من حياته للعلم والتعليم، وجلس للعلم والتدريس والوعظ وحلقات العلم في مسجده، فتوافد إليه الناس من كل حدب، عطشى لما يبثه من العلوم، فكان يبذل غالب وقته وقصارى جهده في تعليمهم، وصب جل اهتمامه بتدريس القرآن الكريم، وبعض العلوم في الفقه والحديث والفرائض، ولما توسع الطلاب من حوله وكثروا، قرر أن ينقل هذه المدرسة الي جامع الوشر، أولا لسعة هذه الجامع، وتوسطه بين اكثر المناطق الآهالة بالسكان، ورغبة مشايخ القبائل وبالذات الحكمي في ان تكون المدرسة في موقع قريب منهم، ليلتحق بها ابنائهم، فزادت اعداد الطلاب وتكاثروا، وواصل عطائه وبذل جهده وجل وقته في هذا السبيل، فنفع الله به كثيرا، واستفاد من علمه وعطائه الناس، من ابناء ذلك الجيل الذين ترقوا معه، واصبح لمعظمهم شأن كبير فيما بعد، ومن المبرزين والمميزين من طلابه حينها، على سبيل المثال لا الحصر، كل من (الشيخ فرح بن اسعد المشنوي، والشيخ سالم بن حسن ال رايح الحربي، امام وخطيب جامع قرضه، والشيخ يحيى بن جابر المشنوي، امام جامع الطحله، والشيخ جابر بن حسن الحربي، والشيخ محمد بن جابر سالم المشنوي، شيخ قبيلة ال المشنية السابق، واخيه الشيخ يزيد بن جابر سالم المشنوي، والشيخ يحيى بن سلمان المشنوي ابن اخيه، الشاعر والطبيب المشهور، والشيخ قاسم بن احمد سليمان الحكمي امام وخطيب جامع بالحكم والمعلم فيه)، والعديد من ابناء قبيلة المشنوي والحكمي والثويعي والحربي، الذين اتقنوا على يديه القراءة والكتابة، وتعلموا امور دينهم، ومنهم من واصلوا تعليمهم، ووصلوا فيه إلى درجات عالية، حتى أن بعضهم قاموا بالتدريس، واستمر عطائهم في تعليم الناس، وفي القيام بالخطابة والوعظ والصلاة بالناس, رحمه الله وغفر له، وثقل به في موازين حسناته.

سيرة الفقيه : زاهر بن حسن المشنوي الفيفي (رحمه الله)

   كان ذكيا المعيا متعدد المواهب، واسع الاطلاع سريع التعلم والاستيعاب، نمى قدراته وعلمه ومعارفه، في اكثر من مجال واكثر من جانب من فنون العلم، وترك من بعده ارثا علميا كبيرا، حوى العديد من المخطوطات والملازم، منها ما كان في فقه العبادات، وخاصة الصلاة والطهارة، لأنها كانت من اهم ما يحتاج إليه الناس، في كل حالاتهم واوقاتهم ووجودهم، وزاد اهتمامه بهذا والتركيز عليه، لفشو الجهل بين غالب الناس، وعدم اتقانهم له والإتيان به على اصوله، وكان يركز كثيرا على الوعظ والارشاد والنصح، وفي عرض وشرح كثير من كتب العلم الشرعي، سواء في متون التفسير والحديث والفقه، وكان من اهتماماته المتعددة النافعة، وما يفيد به الناس في عملهم ومصدر رزقهم، ما يتعلق بالتقويم الزراعي وعلم الفلك وحساب النجوم، فكانت الزراعة هي المهنة الرئيسية لمعظم الناس في محيطه, ويحتاجون كثيرا إلى معرفة الاوقات المناسبة للزراعة، من معرفة اوقات البذر والعزق وغيرها، وفي اختيار افضل انواع الزروع وما يتعلق بها، ولديه ايضا ابداعات ومعارف في بعض الامور الهندسية، ومنها ما يتعلق ببناء البيوت وحفر الابار ونحوها، ولديه معرفة وعلما وخبرة، في تحديد اتجاهات القبلة بدقة عالية، فكان يستخدم بإتقان في ذلك زوايا الشمس والظل، ويرجع إليه الناس فيها ويستشيرونها، ثقة منهم في معرفته وعلمه واتقانه وامانته، وخير شاهد على هذه الدقة التي تميز بها، ما هو عليه قبلة مسجده في قرية الشيباء، وما هو عليه قبلة مسجد الوشر، حيث اثبتت الاجهزة الحديثة اليوم صحتها، فقد وجدوها تصيب بدقة متناهية عين الكعبة، انسان مجتهد وفطن في كل اموره وشؤونه، انتفع منه الناس في كثير من مجالات الحياة الضرورية، وكان عصره عصر شحيح من الموارد، ويفقد كثير من الخدمات الضرورية، ومن اهمها وفي مقدمتها ما يحتاج إليه الناس من العلاجات والادوية، فكان لديه في هذا الجانب شيء من العلم النافع، فيحسن تشخيص كثير من الامراض والتطبيب فيها، ويلجئ إليه كثير من الناس لطلبها، ولا يستغنون عن وصفاته الطبية المجربة، فلدية دراية كبيرة وتجارب ناجحة، وتمرس كبير في الطب العربي، ابدع فيه وتمكن حتى اصبح مرجعا لكثير من المعالجين في مجتمعه، يأتون إليه يتعلمون منه، ويقتبسون ويستفيدون من خبراته، ولديه المام ومعرفة كبيرة بالأعشاب وتركيباتها واستخداماتها، ويصف لكل مريض ما يناسبه منها، وليست كل الوصفات مناسبة لكل الناس، فقد يكون علاج مريض مختلف عن علاج مريض آخر، ولو توافقا في المرض واعراضه، لاختلاف الطبائع بين الافراد، ويعلل ذلك بأن الطبائع لها تأثير كبير في المرض وفي البرء منه، وكان واسع الاطلاع والمعرفة وسريع التعلم، ويعمل في كل اموره بالأناة والصبر والعقل والحكمة والمنطق، ويستعين على ذلك بعلوم وتجارب من سبقوه، فلديه كثير من الكتب المتخصصة التي اقتناها، وبنى عليها كثيرا من تجاربه وتطبيباته الشخصية، وكثيرا ما يبتكر منها ويولد بعض العلاجات والفوائد المتعددة، وكانت لديه خزينة كبير من الكتب القيمة، ذهب معظمها وتلف بعد موته، أما بسبب طول الزمن أو اهمالها وسوء التخزين والحفظ لها.

اعقب استقراره النهائي بفيفاء، بدايات انضواء المنطقة إلى الحكم السعودي الزاهر، وتمت خلالها معاهدة اهالي فيفاء للملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله، التي تمت في صبيا امام ممثليه في عام 1347هـ، وبدأت من بعدها الترتيبات الحقيقية للحكم الفعلي، وفي بسط نفوذ الدولة على كامل المنطقة، وفي التطبيق الفعلي لسيادة الامن والامان في كل الارجاء، مما اسعد الناس وافرحهم، واستبشروا كثيرا بما يستشعرون به من التغيرات للأفضل، ولكن سرعان ما دخلوا في انتكاسة جديدة، مع دخول القوات اليمنية لفيفاء واحتلالها هي وما جاورها، وضج الناس وتألموا كثيرا مما اصابهم، وكان المشايخ حينها يستعينون به وبأمثاله من العلماء، يطلبون رأيهم ومشورتهم في كثير من مجريات الامور والاحداث، ولمعرفته لأساليب الحكم الغاشم في اليمن، كان كثير ما يحذر وينذر الناس بعدم الاستسلام لهم ومقاومتهم، واعلمهم بالمظالم والوسائل الرهيبة التي يتبعونها، وطرقهم التعسفية في تثبيت احتلالهم، وأنهم يلجئون إلى اخذ الرهائن لضمان ولاء الاهالي لسلطانهم، ولذلك كان يحث الناس على الاستعداد لهم، واقتناء الاسلحة لمحاربتهم، وزود كثيرا من اقاربه بالمؤن والاسلحة التي يملكها، ولما رأى غلبة العدو وأنه يجتاح الجبال من حوله، بادر إلى التحوط والنجاة، وأخذ ابناءه الكبار وبعض ابناء اخوانه، وكل من اراد مرافقته، وغادر بهم جبال فيفاء متجهين إلى تهامة، حتى استقر به المقام في مكان آمن، داخل مدينة ابي عريش، في مكان قريب من معسكرات الجيش السعودي، طلبا للسلامة والامن، وخوفا مما يتوقعه ويعرفه عن جبروت هذه الجيوش الغازية، الذين كما تنبأ قد استاقوا كثيرا من الشباب والرجال، واخذوهم رهان طاعة معهم إلى اليمن، مما تسبب في موت كثير منهم في هذا الاسر، حتى أنه لم يرجع منهم فيما بعد إلا القليل.

  وقد وصف فيما بعد شيء من هذه المعاناة، حيث قال شعرا في احد المناسبات :

        قلبي تغثا من صليل امسمن وامنشوف

خمسة شهور لازمة وانحم ضعوف

  كنا فليلة داجيه وهديه نوره

  وزاد تفاعلا معها الشاعر فرحان بن سلمان المشنوي حين قال :

      عيني تخيل بارقن من عالي الشعوف 

 رز علي ابها ولا عدنا من امطروف

   بقد مع فيفا تراكيبن مسمرة

  وهو في قوله يصف الحال التي مرت بها فيفاء واهلها، خلال ذلك الاحتلال الغاشم.

   ولذلك لما انقشعت بفضل الله تلك الغمة، وانسحبت الجيوش الغازية أثر هزائمهم المتلاحقة، على يد القوات السعودية بقيادة الملك سعود والملك فيصل، وتم توقيع معاهدة الطائف بين البلدين، وساد الأمن وعادت الحياة إلى طبيعتها من جديد، عاد رحمه الله ورفقته إلى موطنه وبيته واهله، واقبل من جديد إلى ممارسة حياته الطبيعية، يبذل العلم والنفع في المجتمع، ويواصل العطاء بعزيمة ومعنويات عالية، وبالذات عندما وجد الاقبال والاهتمام والتشجيع، من الطلاب والاهالي والمشايخ، ومن ولاة الامر في البلد، وبرز هذا التشجيع بوضوح عندما تولى امارة مركز فيفاء، في بداية شهر محرم عام 1358هـ، الامير رشيد بن خثلان (رحمه الله)، الذي شجع بقوة على التوسع في افتتاح المدارس الاهلية، حتى عمت انحاء الجبل من اقصاه إلى اقصاه، تهتم بتعليم القرآن الكريم والقراءة والكتابة، وكان يشرف على سير هذه المدارس بنفسه، ويتابع انتظامها، ومستوى التدريس فيها، ويتفقدها شخصيا ويقوم على تشجيع وتحفيز معلميها وطلابها، بل ويستضيف هذه المدارس بين حين واخر، فيحضر المعلمون والطلاب إلى مركز الامارة، ويستقبلهم بكل حفاوة، ويقيم لهم احتفالا مشهودا، يحضره المشايخ وعلية القوم، وفي هذا الاحتفالية تقام المسابقات العلمية والثقافية، وتوزع على المبدعين الهدايا والجوائز، ويتم الاستماع الى بعض نماذج القراءة من الطلاب، وقد حضرت مدرسة الوشر،  بقيادة معلمها الفقيه زاهر وبعض المشايخ ومعظم الطلاب، وانطلقوا في موكب مهيب يخترق البقع والقبائل، بدأ من مقر المدرسة في بقعة الوشر إلى مركز الامارة في النفيعة، وقد اعد لهم برنامجا يليق بهذه الاحتفالية، وتظهر ما هم عليه من درجة متقدمة في دروسهم وتحصيلهم، ومما يحفظ في هذه المشاركة، الطرح الجميل الذي اعده الطالب حينها (قاسم بن احمد سليمان الحكمي) رحمه الله، قام بترديدها الطلاب في لحن بديع، عند وصولهم إلى مجلس الامير، ومنه قوله :

واطرح سلام الله على امير البلادي 

عد نبت القاع وآ نو العوادي 

والكتب ذا في الصحوف

حفظك الله يا بن خثلان العمادي 

  سيف ابو طالب لهبات الجهادي 

   ما تريع لك صفوف

ثم من بعد التحية واحترامي   

   وصلنا منكم كتاب واللزامي     

    ما ترانا إلا وقوف

قد اجينا عندكم واحنا ولامي 

  ما أينا يشكي من الثاني كلامي 

   وآقصصنا ميد تشوف

لا تعابينا بجاهل سا يعلما 

   في وقت قصانوا معد قدر يتكلما   

    من جور ما يخاف

وإلا معلمنا قها شف المعلما

  ووجدوا من الامير الحفاوة والتكريم، والتشجيع والثناء والتحفيز، واستمر زخم الاهتمام بهذه المدرسة وامثالها، في تصاعد وعلو، يتوالى لهم التشجيع والاهتمام من المسؤولين والمشايخ والاهالي، وبقي على العهد يسير ويتجدد عطائه وخبراته ونفعه، رحمه الله وغفر له وتجاوز عنه.

وفاتــه:

عاش حياة ايجابية فاعلة، وبذل عمره كله للعلم والفضل والمعروف، ونفع الله به كثيرا من الناس، سواء من اهله أو جماعته، أو من يفد عليه من غيرهم، وكان عابدا زاهدا آمرا بالمعروف ناه عن المنكر، وواصل عطائه وعباداته إلى أن وافاه الاجل المحتوم، حيث توفي عقب عودته من اداء الحج بأشهر قليلة، مع بداية عام ١٣٧٣هـ، رحمه الله وغفر له وتجاوز عنه، وبارك في عقبه وذريته من بعده إلى يوم الدين، وجعل ما قدمه مثقلا في موازينه، وذخرا له، ورافعا من درجاته، وعلوا في منزلته، واسكنه الفردوس الاعلى من الجنة.

الحالة الاجتماعية:

  تزوج  في حياته الممتدة، من خمس نساء فاضلات ، ورزق منهن بالعديد من الابناء المباركين، رحم الله من مات منهم وحفظ بحفظه الباقين، وبارك في ذرياتهم إلى يوم الدين، وهن على النحو التالي :

  1. الفاضلة: جميلة بنت سليمان المشنوي من اهل اليسير رحمها الله، وولد له منها من الابناء (جابر، ومحمد، واحمد، وشوقة، وامشنية).
  2. الفاضلة: خيرة بنت محمد حسن ال جحمة المشنوي رحمها الله، وهي بنت شيخ ال المشنية السابق رحمه الله، وولد له منها (يحيى).
  3. الفاضلة: فاطمة بنت حسن الثويعي رحمها الله، وولد له منها (عبدالله، وحسن، وخيرة، وسعيدة).
  4. الفاضلة: عائشة بنت حسن سلمان المشنوي من اهل الفرحة رحمها الله، ولم يرزق منها بولد.
  5. الفاضلة: مريم بنت مسعود المشنوي من ال حسين رحمها الله، و لم يرزق منها بولد.

  رحم الله من مات منهم وحفظ بحفظه الباقين وبارك فيهم وفي ذرياتهم، وكما قيل لكل مجتهد نصيب، فإذا احسن العبد النية وفقه الله وحقق له مراده، والعلم ذخر يبقى لصاحبه في الدنيا والاخرة، وصدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : ( إذا مات أبن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، نسال الله له الرحمة والمغفرة، وان يبارك في عقبه ويرزقه برهم.

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 محبكم/ عبدالله بن علي قاسم آل طارش الفيفي ـ ابو جمال

سيرة الفقيه : زاهر بن حسن المشنوي الفيفي (رحمه الله)

توقيع الشيخ

 الرياض في 25/11/1443هـ

تعليق واحد

  1. رحمه الله تعالى وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة وبارك في علمه وعمله وجزاه الله خيرا فيما قدم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى