أخبارنامقالات

مذكرات ومواقف (6)

بقلم: موسى أحمد العبدلي

مذكرات ومواقف (6)

البئر

قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ ، وفي الحديث أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مرَّ بسَعدٍ وَهوَ يتوضَّأُ ، فقالَ : ما هذا السَّرَفُ يا سَعدُ ؟ قالَ : أفي الوضوءِ سَرفٌ قالَ : نعَم ، وإن كنتَ على نَهْرٍ جارٍ .  الماء نعمة عظيمة أَدرك قيمتها  آباؤنا وأجدادنا ومن هم في جيلي أدركوا بعضاً من تلك الأهمية ، اليوم ندَّعي ذلك الإدراك لكننا لا نطبق منه شيء عكس آبائنا ، فقد قاموا بحفر الآبار ، والبحث عن أماكن تجمع الماء واستحدثوا الـ (معاين) مفردها (معين )  وانشأوا البرك – خزانات أرضية للماء – وفي جيلنا تم الاستفادة من أسطح المنازل ووضعوا المواسير والليات ليتم الاستفادة من مياه الأمطار لتعبئة هذه الخزانات لاستخدامها عند قلة الأمطار وري المزارع وسقيا المواشي بخلاف الشرب ومتطلبات المعيشة اليومية وكان وجود الخزانات و الآبار والمعاين في الأملاك الخاصة من علامات التجارة والسعة في الرزق.

الهجرة من فيفاء والمجاعة 

لم ننتقل من فيفاء إلى القبائل المجاورة لطلب الماء والحمد لله ، أو أننا عطشنا أو اصابنا الجوع ،ولكن جيل أبي رحمه الله و أمي حفظها الله  أدركوا ذلك ، فقد حدث موسم جفاف – نظير قلة الأمطار وقت زراعة الحبوب – فلم يزرع الناس مزارعهم وحدثت مجاعة  فسُميت لاحقاً سنة الجوع ، وقد أصاب أبي رحمه الله شيء من تلك المجاعة وهو طفل صغير لولا عناية الله ثم عمتي عايشة – رحمها الله – حيث أنها تكبدت السفر من بني مالك إلى فيفاء وقامت بذبح خروف  (ودرعته) – يؤخذ الجلد ويتم إلباسه للمريض – وقامت بإطعامه بشيء يسير من الحبوب المطحونة والسمن البلدي – وبعدها تعافى ، وعن تلك الحادثة كان أبي رحمه الله يتحدث عن بداية هذه المجاعة وقلة الطعام ، وكان يذكر السيدة / جميلة علي العمري الفيفي والدة جابر يحيى العمري الفيفي – بقعة الزور ( رحمهم الله جميعا ) كيف كانت تعطيه كسر الخبز رأفة بحالة وصغر سنه.

صعوبة الحصول على الماء

لكننا عشنا في ظروف تدلنا على صعوبة الحصول على الماء في فيفاء عند الجدب ، ومنها تلك العين التي تعرف بــ (  الغمر) وما يقال عنها من أن مكتشفها رحالة مجهول دل أهل المكان على الماء في ذلك الوادي ، وهذا ما تم حيث أن الماء كانت موجودة في هذا الوادي منذ سنين طويلة ، كما لا زلت أذكر تلك الأدوار في السقيا والحراسات القائمة والأنظمة الصارمة في حفظ الأدوار  حتى لا تتعدى أسرة على حصة أسرة أخرى ، وأذكر بشيء بسيط بعض المشاحنات التي تحدث للحصول على الماء خاصة من النساء ، ولكم أن تتخيلوا كيف أن قِربة ماء واحدة تكفي أُسْرة كاملة مع المواشي لمدة أيام !! ، إنها ظروف الحياة وتكيف الإنسان مع الموارد المحيطة به.

اكتفاء ذاتي من الماء

في صغري لم أدرك أهمية الماء في حياتنا كوني لست مسئولا عن جلبه ، فأبي رحمه الله يقوم بكل ذلك ، و أذكر كيف تم بناء البركة خلف منزلنا بــ فيفاء ، وكان بالنسبة لأبي انجازاً كبيراً ، ومع ذلك فكانت هذه البركة لا تغطي الاحتياج المتزايد للماء ، فكان أبي يقوم بأخذ الماء من البئر – بئر عميقة أسفل الوادي تعود ملكيتها للعم جابر يحيى العمري الفيفي رحمه الله تعالى  – وكان أخذ الماء من البئر إلى المنزل مرهقاً لنا كثيراً ، لكن ماطور الماء كان حلاً رائعاً رغم ما يكون فيه من جهد ومعاناة. فقد كانت العملية معقدة ، وتتم عبر مرحلتين وكان ماطور الماء صغيراً وهو مولد ذاتي التشغيل يعمل بالبنزين ويحتاج جهداً كبيراً للتشغيل وسحبه للماء ضعيف جداً  بسبب الارتفاع الشاهق .

تعزيز مفهوم المسئولية

تحمل جزءاً يسيراً من المسئولية في الصغر يجعلنا نفهم الحياة بشكل أوسع  ، وعلينا تعليم أبنائنا شيئا من المسئولية حسب أعمارهم -كما علمنا أبي كيفية الحصول على الماء من البئر – وأن يكونوا مشاركين في المسئوليات ولا أجد أكثر قيمة من تعلم مسئولية حفظ الماء وعدم  الإسراف فيه ، ليس هذا فحسب بل في تحمل العواقب ، لكن مع المدنية الحديثة وسهولة الحياة ، نقف مكتوفي الأيدي حول تعزيز هذا المفهوم لدى الأبناء ، إلا في بعض المواقف كإرساله للبقالة أو التنظيف وما شابه ذلك ، مما يجعلنا نعيد التفكير مرة أخرى في طرق جديدة لتعزيز مفهوم المسئولية للطفل وتحمل العواقب حسب معطيات الواقع ، وما تفرضه الحياة العصرية والبيئة المحيطة ، فبيئة القرية تختلف عن بيئة المدينة والبيئة الجبلية لها طابعها الخاص .

توجد في حياتنا تجارب عظيمة علينا الوصول إلى أعماقها للبحث عن جواهرها  تماماً مثل ما كان يصنع أبي عند استخراج الماء من عمق البئر .

مذكرات ومواقف (6)

مقالات للكاتب:

مذكرات ومواقف (6)

01 المقال الأول : مذكرات ومواقف

02 المقال الثاني :قصة عذاب القبر

03 المقال الثال: لاعبا في فريق المدرسة

04 البيت الخشبي

05 دورة حياة حشرة 

زيارة الموقع

تعليق واحد

  1. كم قد عانا ابي في صغره وفي كبره،
    وايضا امي في جلب الماء من مكان بعيد وحمله للبيت مشيا على الاقدام فجزاهما الله خير الجزاء ….
    وذكرتني بماطور الماء الذي اتعبنا كثيرا لقلت خبرتنا وايضا الأدوات التي تساعدنا في ربط الليات والارتفاع الشاهق له دور ،

    عيشتني هذه الأيام في صغرنا؛ لحقنا شيئا من التعب لذلك مهما واجهتنا بعض المصاعب في كبرنا لا نراها شي ،
    كم قد عانا ابي رحمه الله وامي حفظها الله من أجل راحتنا واسعادنا فجزاهما الله خير الجزاء .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى