
سمعتُ صديقي يومًا، وهو يتحدث بمرارة عن عمله الحكومي، يقول: “والله يا فهد، تعبت… المدير يتربص بي، والضغط لا يُحتمل، وأفكر أترك الوظيفة، أخرج بكرامتي قبل أن يُفصلوني.”
نظرتُ إليه طويلًا… ولم أشعر نحوه بالعطف، بل بالحزن.
حزنٌ على رجلٍ أنعم الله عليه بوظيفةٍ ثابتة، وراتبٍ كريم، واستقرارٍ يحلم به غيره، ومع ذلك لم يعرف للشكر طريقًا.
ابتسمت، وقلت له بهدوء:
“دعني أحكي لك قصة… ليست عن غيري، بل عن أبي… وعن نفسي.”
كان والدي – حفظه الله – يسافر من قريتنا إلى الرياض، ليعمل جنديًا براتبٍ لا يتجاوز مئتين وسبعين ريالًا في الشهر.
كان يعيش الغربة الحقيقية، لا غربة الرفاهية التي نشكوها اليوم.
ثم تقاعد في عهد الملك خالد بعد أن وصل راتبه إلى ثلاث مئة وتسعين ريالًا، وعاد إلى هنا، لا يملك إلا عزيمته وإيمانه.
عمل على نفسه، ربّى الماشية، قاد سيارته بيديه، صنع رجالًا من صلبه، وصنع لنفسه مكانةً يحترمه عليها الجميع.
لم يقل يومًا “تعبت”، ولم يشكُ ظلمًا أو ضيقًا.
ذلك الجيل كان يعرف أن العمل كرامة، والسعي عبادة، والرزق من الله وحده.
ثم سكتُّ قليلًا… ونظرت إليه مجددًا وقلت:
“أما أنا، فتعلمت من أبي أن الرجل لا يُقاس بما يملك، بل بما يسعى إليه.”
بدأت أسعى في طلب الرزق وأنا ما زلت طالبًا في المرحلة الابتدائية.
كبرت، وكبر معي طموحي، حتى كوّنت أسطولًا من باصات النقل بين مكة والمدينة.
كنتُ فخورًا بكل مركبة تحمل شعار رزقي، أراها تمشي على الطريق كأنها تسقي الأرض من كدّ يدي.
لكن جاءت “كورونا”، وتوقف كل شيء: الحرم أُغلق، الأعمال تعطلت، والتجار تعثروا، والديون أثقلت صدور الناس.
في تلك اللحظة، كان أمامي خياران:
إما أن أجلس أتحسر،
أو أبدأ من جديد.
اخترتُ الثانية دون تردد.
سُحبت سيارتي من البنك، واستبدلتها بسيارة “كورولا” قديمة من أخي الأكبر.
وذهبت إلى الحراج.
اشتريت الخضار بالكميات، واتجهت إلى المزارع.
كنت أبدأ من الخلاوية شمال بيش، وأصل حتى العارضة.
أوزع الخضار، والحناء، والسدر.
لم أستحِ، لم أستسلم، لم أتكاسل.
كنت أقول لنفسي: “اليد التي تعمل لا تعرف الذل، والرجل الذي يسعى لا يُهزم.”
صارت شوارع جازان تعرفني، وأبواب المحلات تبتسم لي قبل أصحابها.
كنت أجمع بيض الدجاج البلدي من المزارع، وأبيعه بيضًا عضويًا يحبه الناس.
وفي كل يوم اثنين، كنت أذبح حاشيًا وأبيعه بالكيلو، وأوصل الطلبات بنفسي، حتى لمن يسكن بعيدًا.
كنت أرى في التعب لذة، وفي العرق عبادة.
ثم تنقلت من عملٍ إلى آخر، عملت في “السكراب”، أجمع الكراتين وأكبسها على مكبس، وأبيعها في جدة.
لم أُهِن نفسي، بل رفعتُ رأسي، لأن الكدّ في الحلال فخر، لا عيب.
جمعت الطبليات الخشبية، كنت أحمل يوميًا أكثر من مئتي طبلية على دينّة صغيرة، الأخشاب ثقيلة ، لكن أثقل منها همّ الجلوس بلا عمل.
تعلمت من تلك الأيام أن السعي وحده يصنع الفارق، وأن من عرف الناس وعاشرهم في ميادين العمل، امتلك كنزًا لا يُقدّر بثمن.
تعلمت أن الرزق لا يأتي لمن ينتظر، بل لمن يطرق الأبواب بثقةٍ وصبرٍ وشكرٍ.
فيا من تضيق به وظيفته، أو يشتكي من مديره أو راتبه…
تذكّر أن غيرك لا يجد عملًا، ولا يجد قوت يومه.
تذكّر من لم يغادر بلدته لأنه يرعى والديه، أو يحمل همّ أسرته.
احمد الله على ما أنت فيه، فربّ نعمةٍ بين يديك لا تراها إلا حين تزول.
اصبر، واثبت، وواصل طريقك،
فما كُتب لك لن يأخذه أحد،
وما ضيّعته بيدك لن يأتيك لو اجتمعت لك الدنيا.
واعلم أن الشكر مفتاح الزيادة، وأن السعي طريق البركة،
وأن الرزق يُحب من يتعب له… لا من يشكو منه.
- جمعية انماء بفيفاء تشارك في اللقاء التعريفي الذي اقيم في نادي وزارة الداخلية بجازان
- جلسة حوارية أدبية ناجحة مع الكاتب .. علي الحمدي “دموع الرماد” يشعل نقاشات جازان!
- فرع هيئة الصحفيين السعوديين بجازان تنمّي المواهب الإعلامية عبر ورشة “صناعة الأفلام الوثائقية”
- جمعية “نماء” بجازان تطلق دورة “تصميم وفن احتراف الديكور الداخلي” ضمن “مشروع انطلاقة نماء”
- الدفاع المدني يحذر من خطر حوادث الوميض اللحظي



