-A +A
علي بن محمد الرباعي
المُبالغةُ في المطالبةِ بالحقِّ ربما تُحيله إلى باطل، وربما يغدو المُحقُّ محقوقاً مُداناً، بسبب إغفاله لعواقب القرارات، ومآلات الأمور، وما يمكن أن يترتب على العنتريات من مآسٍ لا تخمد نيرانها، ولا يبرد أوارها، ولا تضمّد السنين آثار جراحها.

لا أعتقد أن الحق الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية سيسقط بالتقادم، وإن توهّم البعض أن الكبار سيموتون والصغار سينسون، فالتيه الذي تحمّله اليهود عشرين قرناً كما يروي التاريخ لن يتحمّله الشعب الفلسطيني المُناضل قرناً واحدا، خصوصاً أن الأحداث تؤكد استفادته من الوقائع، وإن طلب منه البعض أن يرضى ويسلّم بالأمر الواقع.


لربما فقدت السُّلطة الفلسطينية الداعم الدولي، الذي كان دوره مع ضرورته لا يتجاوز (المعنوي)، وفي أضيق حدود الشجب والاستنكار والقلق، كما فقدت تماسك الجبهة الداخلية، التي تشظت بين تيارات وأحزاب كل حزب بما لديه فَرِح، إلا أنها لم تفقد الداعم العربي، خصوصاً المملكة، التي تبنّت دعمها عبر تاريخها، وتظل داعماً إلى اليوم الذي يتم فيه حل القضية حلاً عادلاً، بل وبعده أيضاً.

أسهم الغرب المؤثر، بضبابية المواقف، في تعقيد حلول القضية الفلسطينية، ولا تُخفي الشواهد والمشاهدات الحيّة أن السياسة الأمريكية حيّدت كل الأطراف، لتحتكر بمفردها ملف القضية وتتحكم فيه، ولا تتدخل بهمسة إلا عقب التشاور مع الجانب الإسرائيلي، ما يعني تحكم الصغير المُدلل في الكبير المُدلّه.

وبحكم أن دورنا ينحصر في المراقبة والتأمل، والاستنتاجات، يتلبسني أحياناً شعور بأن القضية الفلسطينية هي المشكلة بذاتها، وأحياناً أتصور سبب الإشكالية صاحب القضية، وأحياناً أرى الإشكالية في الحل، وأحياناً في النتائج المُتوقعة، ولكن بما أن المحن منح، فإن كل أزمة يمر بها الشعب الفلسطيني الشقيق تعيده إلى المتن، وإن حرص الرعاة على أن يظل في الهامش.

لو كان لي صوتٌ، يبلغ سمع السياسي الإسرائيلي بكل أطيافه، لقُلت إن مشاعر العرب والمسلمين تجاه إسرائيل أوضح من مشاعر الإسرائيليين نحو العرب والمسلمين، ولو غلّبنا مبدأ (حُسن الظن) في (أبناء العمومة) فإن ما يكتنف النيات والتوجهات والتطلعات الإسرائيلية من الغموض يُربك حُسن ظنّ بعضنا في (الكيان).

لا ريب أن شريحة عريضة من المسلمين تنطلق في رؤيتها وقناعتها من خلال آيات القرآن، مثل ما يعلي بعض الإسرائيليين مقام صراعهم اعتماداً على نصوص التوراة.

أحياناً أقولُ لنفسي لربما اليهود الذين في فلسطين ليسوا هم الذين نزلت فيهم آيات الوحي، فالجينات الوراثية تتفكك بدخول عناصر في عناصر، وتزاوج البشر دون ضبط لمسار الجينوم، لكن الواقع يخلف ظنوني، كون المنطق اللاهوتي والكهنوتي لا يلعب لصالح التعاون والتطبيع، بل يؤلبّ الصراع ويعزز فكرة الإسلام السياسي والجناح المتطرف، بأن العالم والمنطقة فسطاطان.

وأتساءل: إذا ما سلّمنا بأن إسرائيل نموذج للديموقراطية في الشرق الأوسط، وأنها دولة المؤسسات المدنية، فهل ما يقوم به جيشها ومستوطنوها من مخرجات الديموقراطية؟ وهل عنفها وعسكرتها لمواقفها دليل مدنيتها؟ أم أنها (بروباغندا) لتلميع وجه قبيح، للنزعة الشوفينية.

إسرائيل لا سقف لشهيتها المفتوحة، ولا سياج لتطلعاتها الحالمة، ومن لا سقف لمطامعه، وطموحاته، وأحلامه لن يبحث عن سلام يقطع النزاع تماماً، ويحسم الخلاف، بل سيوقع اتفاقيات سلام للمناورة وتأجيل الحلّ، وإن عقد صفقات تكتيكية لفترات، فسيظل ينفذ ما لديه من أجندات وقناعات.

منذ أخذت (منظمة التحرير الفلسطينية) مسؤولية الشعب الفلسطيني على عاتقها في مؤتمر القمة العربي بالرباط عام 1974 وهي المتحدث الرسمي باسم القضية، والمُفاوض، والشرعية، لتصبح لاحقاً (سُلطة) يصفها البعض بالمحدودة الصلاحيات، إلا أنها لم تجنِ ثمار قرار لصالح شعبها بالكامل، وعرقل خطواتها أن اللاعبين أكثر من قدرة الملعب على استيعابهم، ما يتسبب كل مرة في التوقف، والعودة لدائرة السنتر.

وسنظل نتعلق بما تبقى من خيوط الأمل، ولو كانت أوهى من خيوط بيت العنكبوت، ونعد (وقف نزف دماء الفلسطيني) انتصاراً للقضية ورموزها، ولدى كل عربي قناعة بأن تحقيق السلام بين فلسطين وإسرائيل مُربح للكل، ومُخرج من دوائر الحرج، وطريق لبناء الدولة، واسترداد الأراضي وعودة المُهجّرين.

وإن تصوّر الإسرائيليون أن التطبيع لوحده سيحقق السلام فذاك وهم، بينما السلام يمكنه تحقيق التطبيع، ولعل أبرز الأسئلة المطروحة اليوم: كم حقق المُطبعون من مكاسب، وكم تكبدوا من خسائر؟

ختاماً، لن ننسى أن من يختلق أسباب النزاعات، ويؤجج العداوات، ويوغل في استنباتها لا يمكن أن يكون في يوم ما صديقاً حتى لنفسه.