-A +A
طلال صالح بنان
هناك خيط رفيع بين الجريمة والفضيحة. الجريمة هي جريرة عدلية يوصفها ويحدد عقوبة ارتكابها نصٌ قانوني أو دستوري أو حكم شرعي. أما الفضيحة فهي وصمة أخلاقية وسلوكٌ مستهجن تنال من ذمة وسمعة مرتكبها، وقد تلازمه طوال حياته.. وقد تطال من هم حوله أو من ينتسبون إليه.

في السياسة: يزداد هذا الخيط رُفْعَاً، حتى لا يكاد يستبين الفرق بين الفضيحة والجريمة، في مسألةِ التبعات والمآل. بل إن الفضيحة، سياسياً، قد ترقى لتكون جريرة يُعدُ ارتكابها، حكماً بـ «الإعدام السياسي»، حتى ولو لم يكن هناك نص لتعريفها أو عقاب لارتكابها.


في مجتمعات الديمقراطيات الليبرالية، تغلب السذاجة والسطحية عند الجمهور، لدرجة النظر إلى السياسيين وكأنهم أشباه ملائكة: لا يكذبون.. ولا يُحَابُون.. ولا يُفْسِدون ولا يَفسَدون، كل همهم أداء الخدمة العامة، باحترافية وإتفانٍ وإخلاص وتجرد. صورة نمطية للسياسيين، في تلك المجتمعات، تتنافى مع طبيعة السياسة، نفسها. علق رجل الدولة الأشهر ونستون تشرشل (١٨٧٤ – ١٩٦٥) على شاهد قبر كُتب عليه: هنا يرقد السياسي (فلان) الصادق الأمين، قائلاً: كيف يدُفن شخصان في قبرٍ واحد!؟

لكن، للإنصاف، في تلك المجتمعات لا يُترك السياسيون، خاصةً أولئك الذين يتقلدون مناصب عامة.. أو مَنْ هم بصدد المنافسة على تقلد المناصب العامة، أو أولئك الذين خرجوا من العمل العام وقطعوا الصلة بمناصبهم السابقة، بلا رقيب أو حسيب. تلك المجتمعات تُحكم من قبل مؤسسات تعمل بها رموزٌ منتخبةْ أو معينة، يخضعون لرقابة مؤسساتية صارمة، تحكمها قوانين أكثر صرامة، لتحري عدم انحراف المشتغلين بالشأن العام، ومحاسبتهم إن هم أخطأوا أو أجرموا في حق الثقة التي أُوكلت إليهم، حتى بعد خروجهم من مناصبهم.

هنا يظهر كم هو رفيعٌ وواهنٌ الخيط الفاصلُ بين الجريمة والفضيحة. أكثر ما يَظْهَر من رُفْعِ ووَهْنِ هذا الخيط، في الفصل بين ما هو عام وما هو خاص.. الفصل بين الدولة ومؤسساتها ورموزها. سيادة القانون في تلك المجتمعات، تفصل بين حيادية إنفاذ القانون وتطبيقه، وبين من هم مسؤولون أمام القانون، بصفتهم الشخصية والاعتبارية، حتى عند انقطاعهم عن العمل العام.

نَخْلُص هنا إلى فضيحة الوثائق العامة (بمختلف درجات سرّيتها)، المثارة حالياً في الولايات المتحدة، التي ممكن تتحول إلى جريمة، أبطالها رموزٌ سياسية رفيعة تقلدوا أو يتقلدون أعلى مناصب النخبة السياسية الحاكمة في واشنطن. كما ظهر مؤخراً، ليس الرئيس السابق دونالد ترمب هو الوحيد من وجدت لديه وثائق سرية احتفظ بها بعد خروجه من البيت الأبيض. سيد البيت الأبيض الحالي الرئيس بايدن، وجدت في حوزته وثائق سرية، أيام كان نائباً للرئيس الأمريكي باراك أوباما (٢٠٠٨ – ٢٠١٦).

قد يكون هناك فارق: هناك مَنْ يراه شكلياً وهناك من يراه جوهرياً، من حيث التكيف القانوني للقضية. إلا أن تبعات القضية (الفضيحة) سياسياً، قد تكون أشد وقعاً، في حقِ الرجلين. قانونياً: قد يكون الرئيس بايدن في وضع أفضل من الرئيس ترمب في هذه القضية، لأن محاميه القانونيين هم من أبلغوا عن وجود تلك الوثائق، كما أبدى استعداده للتعاون مع وزارة العدل. أما الرئيس ترمب مازال يردد أن الوثائق له، ويطالب باستردادها، مواصلاً شَجْبَ ما أسماه مداهمة مقاره الخاصة لتفتيشها والحصول عليها، بل حتى زرعها للتنكيل به.

الحساسية القانونية في المسألة، أنه تحكمها قوانين مشددة بالاستيلاء أو الاحتفاظ بوثائق سرية عائدة للشعب الأمريكي.. والأخطر: تلك القوانين الخاصة بالتجسس، إذا ما ثبت أن تلك الوثائق (حسب درجة سريتها) أُحتفظ بها في أماكن غير آمنة، أو جرى تسريبها أو إطلاع آخرين عليها. حتى تَرْفَعَ وزارة العدل الحرج عنها أوكلت التحقيق في الأمر لمُحْققيَن خاصّيْن، غير مُسَيّسَين، لتّعامل مع القضية بحرفية.

خطورة القضية تكمن في شقها السياسي، لتطال المستقبل السياسي، لطرفيها. بالنسبة للرئيس ترمب، إن نجا من الشق القانوني للقضية، فإنه قد لا ينجو من شقها السياسي، في ما يخص فرص ترشحه لانتخابات ٢٠٢٤ الرئاسية. أما الرئيس جو بايدن، فإن وقع القضية سياسياً سيكون أثقل عليه، وإن بُرِّئ قانونياً، فثقة الشعب الأمريكي فيه قد تهتز، مما يحول وترشحه للانتخابات الرئاسية ٢٠٢٤.

قضية الوثائق السرية الأمريكية الرسمية، تكشف مدى رُفْعِ ووَهَنِ الخيط الذي يفصل الجريمة عن الفضيحة، في العمل السياسي.