-A +A
محمد مفتي
مع ترقب صدور نظام التنفيذ الجديد، أجد نفسي راغباً في الكتابة مرة أخرى عن أحد الموضوعات المهمة المتعلقة بمجال القضاء وهو العقوبات البديلة، وقد سبق لي أن تناولت هذه القضية في زاويتي بصحيفة «عكاظ» قبل أعوام، وهذه القضية قضية مجتمعية بالدرجة الأولى لأن المعنيَّ بها هو المواطن والمقيم، وقضية العقوبات البديلة قضية مهمة متعددة الأبعاد، ذلك أن عقوبة السجن قد تكون أشد ضرراً على المذنب خاصة إذا كانت هي الحادثة الأولى بالنسبة له.

السجن يمثل عقوبة تعزيرية يواجهها المذنب بسبب جرم ارتكبه، وتختلف مدة العقوبة بحسب طبيعة الجرم نفسه، فالسجن في الأصل لا يمثل عقوبة للمتهم بغرض الانتقام منه؛ وإنما هو وسيلة لحماية الآخرين من الأذى من خلال التحفظ عليه لفترة معينة، والعقوبة التعزيرية ومدتها تخضعان لتقدير القاضي نفسه، وتكمن أهمية وجود عقوبات بديلة في أنها تنظر للقضية محل الدعوى من زوايا عديدة؛ فمثلاً لو كان المذنب يعول أسرة فإن ذلك يؤخذ في الاعتبار؛ كون حرمان الأسرة ممن يعولهم قد يعد عقوبة لهم وليس على رب الأسرة فقط.


ولكن هناك أبعاداً أخرى توضح أهمية العقوبات البديلة نظراً لأن السجون تكون في جوهرها مخصصة لأرباب السوابق ولمرتكبي الجرائم الكبرى، ومنهم من قد يكون قاتلاً أو قاطع طريق أو ما شابه ذلك، ولذلك فإن سجن المتهم أول مرة قد يؤدي إلى احتكاكه اللصيق بهذه الفئات، التي قد يتأثر بها بما ينعكس ذلك على سلوكه لاحقاً، وهذه السلوكيات المكتسبة خلف القضبان قد تساهم بشكل غير مباشر -بل وغير مقصود- في إعادة تشكيل شخصية المذنب وتهيئته لارتكاب سلوكيات عدوانية لم يكن ليألفها قبل دخوله السجن، وقد يمارس تلك السلوكيات المكتسبة بعد خروجه من السجن.

إضافة إلى المبررات السابقة تلجأ العديد من الدول إلى تخفيض أعداد السجناء من خلال تطبيق العقوبات البديلة لما يمثله ذلك من تخفيض في التكاليف المفروضة على الدولة وتقليل أعبائها المالية، وهناك العديد من الضوابط التي تحكم العقوبات البديلة وأنواعها طبقاً لكل حالة على حدة وطبقاً لمدى تأثر المجتمع بالجرم المرتكب، فهناك بعض الجرائم كتلك المتعلقة بالأمن القومي والقتل المتسلسل تكون فيها العقوبات كبيرة ولا تخضع للعقوبات البديلة، لكنها تخضع لقاعدة الإفراج المشروط، ويعني قضاء الجاني نصف عقوبته في السجن فحسب بشرط حسن السير والسلوك.

تتنوع العقوبات البديلة ما بين الغرامات التي تُفرض كعقوبة تعزيرية، أو قيام المتهم بخدمة عامة لمدة محددة يحددها القاضي دون مقابل، وأذكر أنه خلال مشاهدتي لأحد الأفلام الوثائقية التي كانت تدور حول قيام قاضٍ بإحدى الدول الغربية، بمعاقبة أحد المتجاوزين للسرعة القصوى لعدة مرات بالحكم على السائق المتهور بمساعدة شرطة الولاية في تنظيم السير في إحدى المدن، وقد تتضمن العقوبات البديلة الخضوع للإقامة الجبرية، أو المنع من السفر خارج البلاد لفترة محددة، ويمكن أن تتضمن العقوبات البديلة حرمان المتهم من الخدمات التي تقدمها الدولة لفترة يحددها القاضي، كالقروض السكنية أو تجديد رخص القيادة أو جوازات السفر.

لكن أهم عقوبة بديلة يمكن الاسترشاد بها هي عقوبة السجن مع وقف التنفيذ، فعقوبة وقف التنفيذ هنا تمثل رسالة تحذيرية للمتهم تنبئه بمدى خطورة الجرم الذي ارتكبه، فالعقوبة تتضمن ما يجب أن يكون؛ بمعنى أنه إذا كانت عقوبة جرم معين السجن ثلاث سنوات –على سبيل المثال- فإنه في حال خلو سجل المتهم من سوابق وصكوك وإدانات من أي جهة، يقوم القاضي بإصدار عقوبة السجن لثلاث سنوات ولكن مع وقف التنفيذ.

هذه العقوبة تظل مفعلة وفي حال ارتكاب المتهم جرماً مشابهاً للجرم الذي يحاكَم لأجله، يتم إلغاء وقف التنفيذ وتصبح العقوبة نافذة فوراً ولا تخضع لنظام الإفراج المشروط، نظراً لأنه في حال تكرار الحدث فإن ذلك يعني عدم التزام المتهم بضوابط القضية التي يحاكم لأجلها، وهو ما يعني ضمنياً إصراره على ارتكابها، وبالتالي فإن هذا يعني استحقاقه لعقوبة السجن.

من المؤكد أن العقوبات يجب أن تكون مكافئة للجرم الذي ارتكبه المتهم، ولكن العقوبات البديلة تتعلق بالحالات الاستثنائية التي يرتكبها بعض الأشخاص والتي تدخل في نطاق ما يطلق عليه «عدم سبق الإصرار والترصد». من المؤكد أنه لا تخلو دولة بالعالم من الجرائم، والعقوبات البديلة سمة من سمات القضاء العادل وليست التفافاً عليه كما قد يعتقد البعض؛ كونها تحاول التقليل من أثر وتبعات العقوبات الصارمة على أسر الجناة، وبذلك يكون السجن هو «الكي»، والكي يُفترض أن يكون آخر العلاج.