حسن نجمي
حسن نجمي




ديوان نجمي «على انفراد».
ديوان نجمي «على انفراد».




الشاعران حسن نجمي وعبداللطيف اللعبي في حديث جانبي.
الشاعران حسن نجمي وعبداللطيف اللعبي في حديث جانبي.




أحد إصدارات نجمي الشعرية.
أحد إصدارات نجمي الشعرية.
-A +A
حاوره: علي الرباعي Al_ARobai@
تتكاملُ في شخصية الشاعر المغربي حسن نجمي، (التجربة الحياتية، والشعر) وتتمايز (الأصالة عن المعاصرة) وتتفاعل (كيمياء الروح محركة الإبداع) ويتقاطع مع الرعاة الذين يفتحون أبواب بيت الشَّعر في كل الاتجاهات، ليغدو نصه عامراً بالاحتمالات، متجسّدة فيه عوالم الدهشة المنعكسة في صورة النص، أو النص الصورة، أقام للخُزامى إمارة، وصبغ الرياح باللون البُنّي، وعزف أعذب المقطوعات على انفراد.. وهنا نص حوارنا معه:

• ما حال الشعر؟


•• أُفضّل أَنْ أتحدثَ إليك عن مهنة الشّعْر في عالمنا العربي، وعن الممارسة الشِّعْرية كمهنةِ حياةٍ كما سمَّاها الشاعر الإيطالي تشيزاريبافيزي.. أعني هذا الطقس اليومي المُواظِب على الحياة والكتابة.

عندما تسأَلني عن «حال الشعر»، يتبادر إلى ذهني على الفور كما لو أنك تسألني عن «مسألة رَجُل مريض» يجتاز أزمة أو محنة أو يُحْتَضَر، والحال أن الشعر العَرَبي ما زال حيّا، وافرا، نشيطا وحاضرا في العالم، يواصل دوره في ورشات اللغة والثقافة، يغذي الحضارة والتاريخ والمجتمع، وإن شئتَ ما زال يشتغل في الجَسَد والروح والمتخيل.

هناك شعراء وشاعرات عرب بوفرة، ربما أكثر من أي وقت مضى. ولا أظن أن عدد الكتب الشعرية التي تصدر راهنا في السوق العربية سبق له أن تحقَّقَ من قبل. ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن عدد القراءات والمهرجانات والترجمات الشعرية من العربية وإليها، ومُشاركَات الشعراء العرب في مختلف مهرجانات الشعر في العالم، والجوائز الأدبية وشهادات الاعتراف.. وغيرها.

صحيح أن عدداً من كبار شعراء العربية رَحَلُوا قبل الأوان للأسف: بدر شاكر السياب ونزار قباني وصلاح عبدالصبور ومحمود درويش وأحمد المجاطي وسعدي يوسف وأنسي الحاج ويوسف الخال ومحمد الماغوط وسركون بولص وأحمد فؤاد نجم وعبدالرحمن الأبْنُودي وفدوى طوقان وحسب الشيخ جعفر، لكن هناك عشرات الشعراء الجيدين والرائعين يواصلون الحياة والإبداع، وبعضهم له قيمة أساسية في الشعرية الإنسانية. وهناك أجيال جديدة تلتحق بحقل الكتابة والنشر. وإذن من الناحية السوسيولوجية على الأقل، هناك حركة شعرية عربية نشيطة، بأسماء وازنة في معظم الأقطار العربية ومواهب شابة قوية جدّا، وأصوات وتجارب تحظى بالاهتمام. وحتى من حيث نوعية المتون الشعرية، هناك كتب شعرية وقصائد تلفت الانتباه في المشرق والمغرب الكبير على السواء، وفي الخليج العربي، وكذا في عدد من بلدان المهجر.

هناك بالتأكيد شعر عربي جديد يبعث على الثقة في المشهد الشعري العربي ويجعل العالم كثيرا في الجمال.

وطبعَا، ثمة دائما في خرائط الشعر نقط قوة ونقط ضعف. ونحن أيضا لدينا سَلَّة عربية للمهملات كالآخرين.

أنت تعرف أن الشِّعْر ضرورة إنسانية قبل كل شيء، فهو يجعل حياتَنَا أكثر جمالاً، ربما أجمل من الشّعْر ذاتِهِ. الشِّعْر يمنح لكل تفاصيل حَياتِنَا معنى وقيمة. ورغم جروح التاريخ وكوارث المجتمع والطبيعة والحروب والآلام المختلفة، تظل للشعر على الأقل صرخةُ الأمل.

الشِّعْرُ نَيزَكٌ يَصِلُ إِلى الأرض من سماءٍ بعيدة، ومن أَحلامنا وآلامنا وآمالنا واستيهاماتنا وخيالاتنا، وكذا من معاجمنا القديمة حيث لا يكون للكلمات من معنى أو إيقاع إِلّا ما يَمْنَحُها الشّعْر والتعبير الجميل بنَفَسِهِ الإنساني الحي، وبروحِ الكتابة الخَلَّاقَة.

إلى جانب جميع أنواع القرابة، قرابة الدم، قرابة الوطن، قرابة الدِّين أو المعتقد أو القضية أو ما شابه، يوفر لنا الشعر قرابة إنسانية شفيفة ومرهفة وعميقة. هذه القرابة الشعرية، قرابة الكلمات، قرابة الجملة، قرابة الموسيقى، قرابة الإيقاع، قرابة الجمال لا ضفافَ لها.

إن الشّعر انتصار للحياة، حتى حين يتحدث عن الموت مثلاً، الشعر انتساب إلى الأمل حتى حين تكون وطأةُ اليأس أكثر ثِقْلاً في النفوس. الشّعر عنوان من عناوين الحياة التي تمنحك مَعَالِمَ وإِضاءات تهتدي بها في أقصى درجات العزلة وفي انحناء الطريق الطويل، وترشدك حين تضيع. فأنْتَ حين تضيع، تعرف أن نجمة أو عصفورة ستعثر عليك، وتَدُلُّهُم على مكانك وروحك وأفقك.

شخصيّاً، هكذا أتصور الشِّعْر دائماً، كتابة نمارسها كصلاةٍ أو كتمرين روحي. ومن ثَمَّ لا أَحفل كثيرا بما يقال عن الشعر، وبالخصوص ما يَرُوجُ من حين لآخر حول شعرنا المعاصر من إشاعات وظنون وتوهمات وإساءات ومزاعم وسجالات مثيرة للتَّفَكُّهِ.

• أين تضع الشعر المغربي عربيّاً؟

•• أين سأضعه إنْ لم أَضَعْهُ في مكانه الـمُسْتَحَق باعتباره مكوناً من مكونات الخريطة الراهنة للشعرية العربية. الشعر المغربي جغرافيا شعرية وإِنسانية قائمة الذات، وتجربة نَصّية لها خصوصياتها وتاريخها وتجاربها وأجيالها بل لها أَلْسُنها المتعددة التي يجهلها وربما يتجاهلها عددٌ من أشقائنا في المشرق العربي.

لا أريد أن أقدم مرافعة دفاعاً عن شعرنا، فلا حاجة اليوم إلى ذلك في ظل التحولات الإيجابية في نظرة عدد من حكماء الشعر ونقد الشعر في الوطن العربي. عندما ننصت إلى قراء كبار من أمثال المرحوم جابر عصفور، صبحي حديدي، شوقي بزيع، المرحوم سعدي يوسف، قاسم حداد، المرحوم أمجد ناصر، عبده وازن، زهير أبو شايب، أحمد الشهاوي، سيف الرحبي، نوري الجراح وأصدقاء آخرين، لايَهُمُّني بعد ذلك نعيق الغربان هُنا وهناك.

النظرات الشوفينية التي تسترخص الشعراء في المغرب أو في اليمن أو في السودان أو في الأردن أو في الخليج مثلاً عَفَا عليها الزمن، وأصبحت تثير أنواعا من الضحك والتَّفَكُّه والسخرية.

باختصار، لم يعد ممكناً – موضوعيّاً – أن يتصور أحدٌ مَّا خريطة للشعر العربي دون شعرنا المغربي. ومن يقول غير ذلك، لدينا ما نقوله له.

• هل حجَّمت المعطيات الجديدة للتواصل كالصورة والمِيدْيا صورة الشعر اليوم؟

•• على العكس، أرى أن هذه التحولات التواصلية أفسحت مزيدا من المساحات للشّعْر وآليات تَدَاوُله. ولا يعني ذلك بالضرورة أنها قَوَّتْ صورة الشِّعْر في الذْهنيات السائدة.

أظن أن هناك بعض الطروحات (الزمن الرقمي، الإنترنت، الموبايل...) تُقَال ويتم تكرارها باستمرار دون تدقيق أو تشخيص عِلْمِي. مجرد انطباعات عامة، وربما هي حيل بعض الناشرين الذين احترفوا التلاعب بالمِلْكية الأدبية وبحقوق الكُتَّاب والشعراء!

لم يحِن الوقت بعد، ولا أظن أنه سيحين يوماً، لكي نقيم بيت عزاء للشعر. ولا يبدو لي أن مثل هذه التخوفات واقعية. لقد أصبح الشعر في كل مكان متاحا للجميع، وعبر توسُّطات متعددة ومتنوعة (الكتاب، المجلة، الجريدة، الإنترنت، المسرح، الأغنية، السينما... إلخ).

• ما أثر تَعَدد الجوائز على مكانة ومتانة القصيدة؟

•• يُفْتَرض أن الكتابة الشّعْرية لا تَنْكتب تحت أي تأثير خارجي غير شعري. فالشعراء لا يكتبون من أجل جائزة أو وسام أو ميدالية بل يكتبون لأنفسهم أولاً، ومن أجل قارئ مُفْتَرض أساساً.

ما أعرفه عن تجارب شعرائنا الكبار، وما أعرفه عن الشعراء الحقيقيين من الأجيال الجديدة، ومن تجربتي المتواضعة كذلك، أن القصيدة شكلٌ من أشكال العزلة حتى وإن لم يكن الشاعر وحيداً في القصائد التي يكتبها.

عندما أكتب، أفكر في اللغة، في حدود اللغة وعجزها، في المعجم الذي عليَّ أن أستعمله أو لا أستعمله، في الوصول إلى إيقاع مُعَيّن أوصورة مخصوصة أو فكرة صغيرة... لا إِلى جائزة أو وشاح أو سجاد أحمر أمشي عليه.

مع ذلك، لا ينبغي أن نستهين بالقيمة المضافة لمختلف أشكال التثمين والتكريم، ومختلف إشارات الاعتبار والتلقي. أجل، نحن نكتب لأنفسنا أولاً، لكننا حين ننشر ما كتبناه في مجلة أو كتاب أو في أي وسيط إعلامي أو تواصلي، نتجه إلى الآخرين بالضرورة. وعلينا أن نَقْبَل بقواعد اللعب عندئذ، وإن شئتَ أن نَقْبَلَ بإرغامات وظروف وشروط الجوائز والإعلام والمهرجانات، ومقتضيات الـمِلْكية الأدبية وحقوق المؤلف، والترجمة، وما إلى ذلك من أنواع التَّعَاقُد مع مجالاتٍ أخرى خارج القصيدة.

والواقع أن الجوائز العربية وغير العربية التي يحظى بها الشعراء والأدباء العرب تُشَكّل أنواعاً من الاعتراف بقيمة الشاعر في المجتمع، وربما بدوره الرمزي والأخلاقي كضمير مَعْنيّ بالشأن الإنساني، وكحارس للغة والجَمَال.

شخصيا، تسعدني الجوائز وإشارات الاعتراف والتقدير والتثمين، إذْ لا أكتب وأنشر في غابة، وإنما أمارس نشاطاً إبداعياً ومعرفياً في مجتمعي وداخل الجماعة البشرية. فدعك مما يقوله بعض المثقفين في تهجماتهم على مثقفين آخرين، أو أولئك الذين يقدمون أنفسهم مثل أنبياء يمشون بيننا وشَهِيَّاتُـهم مفتوحة وجاهزة. تلك الحِيَل الصغيرة باتت مكشوفة اليوم للجميع، والأمثلة عنها كثيرة ربما أكثر من الجوائز ذاتها!

• أين تجد نفسك بين الشعر والعمل الصحفي والدرس النقدي؟

•• كَرَّسْتُ مسار حياتي أساساً للشِّعْر، للقصيدة ولشعرية الكتابة بشكل عام. أتذكر هُنَا تعبيراً أنيقاً عن الجَمَال للشاعر الفرنسي روني شَارْ يقول (تقريبا بهذا المعنى): «في حياتي، ليس هناك مكان لِلجَمَال، لكن المكانَ كُلَّهُ للجَمَال». بمعنى أن مكاني أساسا للشِّعْر، هو نقطة القوة... ونقطة الضعف ربما.

اشتغلتُ طويلاً في الصحافة، والصحافة الثقافية بالخصوص فكتبتُ الافتتاحية والمقالة والتحقيق والاستطلاع والعمود اليومي، وراكمت عدداً من البُّورتْريهات، وأنجزت حوارات عديدة مع مفكرين وأدباء وفنانين وقادة وزعماء، وكتبتُ في النقد والدراسة وجربت نفسي في السرد، لكنني بقيتُ في ذلك كُلِّهِ أقربَ إلى الشّعْر، وروح الشّعْر، وطفولة الشّعْر، وربما منْ ثَمَّ سذاجةُ الشَّاعر التي تصرفتُ بها غالبا دون أن أُميِّزَ، وكان ينبغي أن أميز، بين ما أكتُبُه وما أَعيشُه.

ولذا، لي الحق رُبَّما بأَلَّا أُقيمَ أَيَّ اعتبار للتَّراتُبية التي قد يتخيلُها الكثيرون بين الشعر والرواية، أو بين الكتابة الأدبية والكتابة النقدية. فقد تصرفتُ دائماً بروح الشعر والشاعر، وكلما انتقلتُ من الشّعْر إلى كتابة سردية أو فكرية أو نقدية، ظل لديَّ الإِحساسُ نفسه، والطعم نفسه مثل مسافر في المحطة نَفْسِها وفي الاتجاه نَفْسِه، إِنما أغيِّر رصيفاً برصيف ليس إلَّا.

• لماذا لا تزال قصيدة النثر غريبة الوجه واللسان؟

•• من قال لك ذلك؟ أخي الكريم هذه وجهة نظر باتت محدودة جدا، ولا تُعَبِّر عن حقيقة واقعنا الشعري. على العكس تماما، لقد أصبحت القصيدة العمودية هي الغريبة، وجهاً ولساناً وحضوراً وإقناعاً في موطنها. ولك أن تقوم بعملية إِحصائية بسيطة لتعرف عدد شعراء وشاعرات قصيدة النثر وعدد الذين واللواتي يكتبون العمودي، ولك أن تُحْصيَ عدد القصائد العمودية التي ما زالت تُنْشَر في الصحف والمجلات لِتَرى حقيقة الأشياء.

ولا أريد أن أقوم بعملية مُفَاضَلَة، لكنني أظن أن التهم غير الشعرية التي كانت تُوَجَّهُ إِلى قصيدة النثر في العالم العربي أصبحت متجَاوَزَة جدّا، فقد أُسْقِطت بفعل التحولات النظرية، المعرفية والجمالية والنقدية، وبفعل الدور الذي لعبته الجامعات الجديدة، ودور الإِعلام الثقافي والأدبي الذي قَادَهُ في معظم الحالات وأجملها -هل هي مجرد مصادفة ؟- شعراء يكتبون قصيدة النثر وينتصرون لها. وإِن شئت، فإِن تلك النظرة التقليدية المحافظة التي كانت تعادي قصيدة النثر العربية سقطت بالتقادم.

هل تعتقد أن شعراء قصيدة النثر يطلبون شرعية من أحد لكي يكتبوا ويَنْشُروا أعمالهم؟ أنظر إلى مهرجانات الشّعْر العربية والعالمية، كم يشارك فيها من شعراء القصيدة العمودية؟ لذلك أصبحت بعض الجهات تنظم مسابقات تقليدية بميزانيات ضخمة قصد استقطاب شعراء جدد إِلى القصيدة العمودية، وأصبحت تخوض حروباً لا يخوضها أي طرف في مواجهتهم!

• مَنْ هُم أبرز شعراء المغرب المعاصرين؟

•• ربما لستُ الشخص المناسب ليُجيبَك عن سؤالٍ كهذا. طبعا، لَديَّ رأي شخصي كشاعر، وكقارئ مهتم بحركة الشعر المعاصر في المغرب، لكن لا أملك الحق في ترتيب شعرائنا والتمييز بينهم، مَنِ الأبرز أو الأهم ومَنِ الأقل أهمية أو الأقل انتشاراً.

ما ينبغي أن تَعْرِفَه، أخي علي، ويعرفه قراؤك أن الشِّعْر المغربي متعدِّد الألسن يكتبه شعراء وشاعرات بالعربية، وباللهجات الدَّارجة، وبالأمازيغية، وبالحسانية الصحراوية، وبالفرنسية، وحتى بلغاتٍ إنسانية أخرى كالانجليزية والاسبانية والهولندية. كما أن شعرنا العَرَبي في المغرب له تاريخ وجذور بعيدة تعود إلى القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) منذ عهد المرابطين، فعهد الموحدين، ثم عهد المرينيين. أما الشعر الأمازيغي فيعود إلى زمن أقدم من ذلك وأسبق من زمن انسياح القبائل العربية وتوطنها في سهول المغرب خلال القرن الثاني عشر الميلادي.

وهناك روافد شعرية مغربية هامة جدّاً غير مكتوبة، وإنما هي شفاهية أساسا، ويصعب أن نغفلها أو نتجاهلها اليوم شَأْنَ الشعر النبطي عندكم في بلدان الخليج العربي والشعر الحميني الصنعاني في اليمن، وتحتل هذه الروافد مساحة أساسية في الذاكرة الشعرية المغربية.

ولا بد أن أُشير إلى أن أول أنطولوجيا شعرية مطبوعة في المغرب ظهرت سنة 1929 من جزءيْن أَلَّفها ونشرها المرحوم محمد بلعباس القباج، وضَمَّنَها نبذة عن كل شاعر من شعراء التقليدية المغربية في العشرينيات، كان بَيْنهم شعراء بارزون من أمثال علال الفاسي وعبدالله كنونو محمد المكي الناصري والمهدي المنيعي ومحمد القُرِّي. وحظي هذا الكتاب بقراءة نقدية قام بها الشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي وقدمها كمحاضرة في النادي الثقافي في تونس سنة 1931، ولا تزال هناك نسخة بخط يده سبق أن نشرها المرحوم أبو القاسم محمد كرُّو.

أما بالنسبة لشعراء العربية المعاصرين، فقد اعْتَادَ الخطاب النقدي والإِعلامي أن يقوم بتصنيف الشعراء وفق الفكرة الأجيالية (جيل الستينيَّات وهو الجيل الرائد المؤسس للحداثة الشعرية، جيل السبعينيَّات الذي طَوَّر الشعرية المغربية وعمق خيارها الحداثي، وجيل الثمانينيات الذي أُنْسَب إليه... والله أعلم).

شعراؤنا كُثْر، وشاعراتُ المغرب يتزايد عَدَدُهُنَّ وحُضُورُهن. وكما قلتُ، لا أستطيع أن أتحدث عن بارزين وبارزات منهم حتى لا أخطئ فأَنْسَى وأَمْحُو وأَظلِم.

• بماذا تردُّ على مَن يرجح كفة المفكرين والفلاسفة المغاربة على كفة الشعراء والسُّرَّاد؟

•• أولاً، ترجيح كفة الفكر والفلسفة كما اعتدنا ذلك، لا يمكنه إلَّا أن يكون مصدر اعتزاز بالحقل الفكري المغربي وقيمة الإنتاجات التي حظيت بالاعتبار والتقدير في الساحة العربية، وفي العالم. وهناك أيضا منجز ريادي مهم في حقل التاريخ والسوسيولوجيا والسيميائيات (علم الدلالة) والدراسات اللسانية والنقد الأدبي والجمالي. لكن ذلك لا يعني مطلقا غياب قيمة نوعية مغربية في الإبداع الأدبي والفني، وفي مقدمته الكتابة الشعرية والسردية.

هناك للأسف جهل لدى الكثيرين في العالم العربي، في المشرق خصوصاً، بميزات التجربة الشعرية والسردية في المغرب. ولستُ في حاجة إلى العودة إِلى جذور هذه النظرة التَّبْخيسية القديمة التي كانت تتعامل مع المغاربة بمنطق «هذه بضاعَتُنا رُدَّتْ إِلينا». إنه منطق يُعَبِّر عن تمركُز على الذات لدى بعض أشقائنا في المشرق العَرَبي، ويَنم عن فكرة استحواذية في العمق تَتَغَيَّا أن يظل المشرق مهيمنا، وهي فكرة رَثَّة نسمع مِنْ حينٍ لآخر مَنْ يُردِّدُها مِنْ بعضِ الذين لا يعلمون، وهم يتلون الكِتَاب!

ماذا علينا أن نفعل في هذه الحالة؟ هل لابد أن نُمْسِكَ بأُذُنِ كلِّ جاهلٍ كي نُلقِّنَه أبجدية الأشياء؟ دَعْنِي أُشِرْ هُنا فقط إلى أستاذي وأخي وصديقي الدكتور محمد مفتاح رحمه الله الذي كان كلما تحدثنا عن نظرةٍ كهذه تُسيء إلى علائق المشرق بالمغرب، يردد على مَسْمَعي آية من سورة البقرة: «ولِلَّهِ المشرق والمغرب...».

• متى تستعيد الثقافة وهج السبعينيات؟

•• في ظني، لن تستعيد الممارسات الثقافية العربية الراهنة الوهج السَّبْعيني مطلقا، وليس من الضروري أن تستعيده. هناك سيرورة من التحول التاريخي والفكري والثقافي والاجتماعي والسياسي والإيديولوجي، ولكل مرحلة جيلُها وخطابُها وأداؤُها ورجالُها ونساؤُها وقادتُها وحكماؤُها وعقلاؤها مثلما لها انهياراتها وإِخفاقاتها وكراكيزها وإِمَّعَاتُها وجبناؤها. سيرورة الحياة هكذا، ولا يمكننا أن نستعيد الماضي الجميل أو نعيش العمل الذي سبق أن عشناه من جديد.

ما حدث من تحولات وتغيرات خلال العقود الأربعة الماضية لم يكن بسيطا، إِذ حدث زلزال هائل في الوضع الاستراتيجي والجِيُّوستراتيجي العالمي. انهيار الاتحاد السوفياتي لم يكن سهلا، انهيار جدار برلين الإيديولوجي وتَغَوُّل نظام القطب الواحد، وتزايد انتعاش الفكر الشَّعْبَوي والتيارات الظلامية والأصوليات المتطرفة في العالم الراهن، وتراجع المنظومات الجامعية في الوطن العربي، وهجرة الأدمغة، وتجفيف فضاءات الحرية والبحث العلمي، وتعثر المشاريع الديموقراطية، وانكماش الموقع الاستراتيجي لبلدٍ عربي كبير كان له دور ريادي مرجعي مؤثر كمصر مثلا، والتداعيات الكارثية لانتفاضة «الربيع العربي»... وما إِلى ذلك مما لا يسمح لنا بأن نسبح في النهر نَفْسِهِ مرتَيْن.

• مَنْ يتحمل مسؤولية هذا التردي الثقافي؟

•• إنها مسؤولية مشتركة، يتداخل فيها ما هو «موضوعي» مع ما هو «ذاتي». ولا يمكن أن نحمّل هذه المسؤولية لهذا الطرف دون ذاك. الوضع العالمي له تأثير كبير، وكذا طبيعة السلطة العربية، وتعثر النظام الرسمي العربي، وغياب استراتيجية عربية موحَّدَة تضمن نوعا من الأمن الفكري والثقافي العربي. وهذا لا يُعْفي مطلقاً النُّخَب الفكرية والثقافية العربية التي باتت مهزومة ماديّاً وأَدَبيّاً وأخلاقيّاً. وثقافة الاستجداء والتَّسوُّل باتت عملة رائجة في حقلنا الفكري والأدبي والإعلامي العربي، تظهر في الخطاب، وفي السلوك، وفي الموقف، وفي الجُبْن والمحاباة والمجاملة، وفي الصمت.

• لك اهتمام بالشَّعْبي (غناء العَيْطَة)، فهل يمكن أن يتَجَاوَر الشَّعْبي والنُّخْبوي؟

•• الشّعر الشفاهي مكون أساس، كما سَبَق لي القول، في مشهدنا الشعري في المغرب، وفي العالم العربي. وهو مرتبط عضويّا بالغناء والموسيقى التقليدية في أغلب نماذجه. ولا أتصور تاريخاً للأدب المغربي دون استحضار تاريخ آدابنا الشفاهية، شعراً وسرداً وتعبيراً.

هكذا، وانطلاقاً من حرصي على إعادة بناء أو بَنْيَنَة حقلنا الثقافي الوطني، وفهم مسار تكوُّنِهِ عَبْرَ التاريخ وفي أحشاء المجتمع المغربي الـمُرَكَّب، أنجزتُ أطروحة دكتوراه حول هذا الإنتاج الشعري الشفاهي من خلال أحد أبرز نماذجه المتداولة (العَيْطة المغربية)، الذي تَمَّ إِهماله وتهميشه ونسيانه وتجاهله على مستوى الدراسات والأبحاث الجامعية. وقمتُ بنَشْر هذه الأطروحة في كتاب من جزءين في دار توبقال المغربية (الدار البيضاء، 2007)، بإلحاح وعناية خاصة من الشاعر الأستاذ محمد بنيس والناقد الأستاذ عبدالجليل ناظم.

أما موضوع إمكانية الجوار بين الشَّعْبي والنُّخْبَوي، فلم أفكر فيه في البداية، لأنه موضوع سياسي إن شئت. وعندما أفكر فيه اليوم، أفكر من منطلق ممارستي السياسية والتزامي الاجتماعي والنضالي. وهنا أحيلك على تجربة مفكرنا الكبير الراحل محمد عابد الجابري الذي كان دائماً مضطرّاً لِيَرُدَّ ويوضّحَ فَرْقَ الهواء بين خياراته ومشاريعه الفكرية والتزامه السياسي والنضالي كأحد قادة اليسار في المغرب وركنٍ من أركان الفكر المغربي المنحاز انحيازاً موضوعيّاً إلى قوى المجتمع الحية وقوى التغيير.

في سنة 1990، في القاهرة، وجوابا عن سؤالِ المفكر المصري السيد يَسِّن حول علاقة كتابه «نقد العقل السياسي» بالنُّخَب والجماهير، ردَّ الجابري يرحمه الله بالقول إِن «مشروعي يخاطب النُّخَب، مع أنني لستُ نخبويّا لا في سلوكي السياسي ولا في تفكيري. أنا أكتب لنخبة، ولمثقفين عضويين ينقلون هذا بلغتهم إِلى الجماهير. فنحن في حاجة إلى تكوين كوادر فكرية، لأن الكوادر الموجودة مُقَوْلَبَة في تنظيماتٍ سياسية ماركسية وإسلامية وغيرها. مُقَوْلبة ضمن قوالب خاطئة، مما يتطلب إِعادة النظر فيها، ومن داخل كُلِّ فئةٍ على حدة».

وإذن الاشتغال الفكري بالنسبة للجابري ليس من قبيل التَّرَف، وإِنما يندرج في أفق إِعادة النظر في الأطر الفكرية وفي إطارات العمل ذاتها، وتجاوز نماذج التفكير الجامدة والدوغمائية إلى نماذج جديدة منفتحة تواجه بها الجماهير بمختلف الطبقات والمستويات الثقافية. والحقيقة أن المرحوم الجابري نجح إِلى حدّ كبير في أن يجعل نُخبا متعددة، ماركسية وإسلامية وقومية، تتكلم لغته، وتَتَبنَّى رؤيته، وتستعمل مفاهيمه في إِدراك حقائق الواقع وتحولاته.

بهذا المعنى، يمكنني أن أزعم أن الخطاب الذي شَيَّدْتُهُ ودَافَعْتُ عنه في كتابي حول غناء العيطة، أي حول الشعر الشفاهي، وحول الموسيقى التقليدية المغربية في ارتباطها بالهوية الثقافية والاجتماعية وبمقومات الشخصية المغربية، أصبح اليوم شائعا، وأَسْعَدني أن باحثين وموسيقيين وفنانين شبابا أصبحوا يتملكونه في إنتاجاتهم الدراسية وأعمالهم الفنية كما ظهر ذلك مؤخرا، وبوضوح، في سجال وطني انْدَلَعَ في شبكات التواصل الاجتماعي، وفي الصحافة حول الفنانة الشعبية التي تؤدي العيطة (نسَمِّيها الشِّيخَة في المغرب).

• لكي أختم أسئلتي، دعني أَسْأَلْكَ من باب الفضول عن أَيِّ الأصوات الشعرية السعودية التي لفتَتْ انتباهك؟

•• هل تعرف أن أولَ مرة امتطيتُ فيها الطائرة وغادرتُ المغرب، كانت إلى السعودية في ديسمبر 1983 لتمثيل اتحاد كتَّاب المغرب في مهرجان الشباب العربي في الرياض. ما زلتُ أَذْكُر قراءتي الشعرية ضمن كوكبة من الشعراء الشباب العرب معظمهم قَدَّمُوا قصائد عمودية رديئة كُتِبَت للمناسبة.

كنا في كلية التربية، في مُدرَّج جامعي كان الحضور فيه قليلا. وأمام لجنة تحكيم سعودية كان من بين أعضائها الثلاثة الصديقان العزيزان عبدالله الصِّيخانْ وسعد البَازْعي (آسف، نسيتُ اسمَ العضوِ الآخر)، وبحضور الأمير الراحل فيصل بن فهد يرحمه الله، قرأتُ قصيدة عن شهيد مغربي من طراز قصيدة النثر. كنت الرابع أو الخامس في الترتيب، وما إن قرأتُ قصيدتي حتى تدخل الأمير فيصل، وكان المسؤول الأول عن رعاية الشباب آنذاك وعن مهرجان الشباب العربي، فطَلَبَ الكلمة. وألقى كلمته في ذِكْر فضائل القصيدة العمودية وضرورة تمسك شبابنا العربي بالأصالة والتراث... وما إلى ذلك. وما إن أنهى كلمته حتى رفعتُ سبَّابَتي طالبا حق الردّ. وتحت إصراري، أُعطِيتُ الكلمة. وأوضحتُ قيمة التجديد في الشعر وفي الحياة، وفضائل القصيدة العربية الجديدة. واستغربتُ كيف يمكن لِبَلدٍ عربي قريب من منابت الحداثة الشعرية العربية في العراق وسورية ولبنان ومصر أن ينْأَى بنفسه عن روح التجديد والتحديث. وفي شبه تضامن أو تَقَبُّل ضمني لرأيي، نشرت مجلة «اليمامة» آنذاك صورتي وأنا أتناول الكلمة ضِمْن تغطيتها للنشاط الشعري الشبابي.

ومنذئذ، ارتبطتُ بصداقاتٍ شعريةٍ مع الشعراء في السعودية بل كنتُ معجباً قبل ذلك بتجربة الشاعرة الأخت الدكتورة فوزية أبو خالد منذ قرأتُ لها حواراً صحفيّاً رائعاً في صحيفة «العَلَمْ» المغربية سنة 1977 كانت قد أجرته معها وكالة أُورَينْتْ بريس آنَئِذٍ، وهو ما ذَكَرْتُه في شهادة عنها حين تم تكريمها في مهرجان بيت الشِّعْر بالدمام، ونُشِرتْ في كتاب أَشْرَفَ على إعداده الشاعر عبدالله السفر.

باختصار، أكرِّرُ هُنَا ما سبَقَ أن قُلْتُه في أكثر من مناسبة عن أن الشّعر السعودي الراهن، وضمنه تجربة قصيدة النثر، يمثل مشهدا رفيعا في الساحة الشعرية العربية المعاصرة. لديَّ أصدقاء كثر في الأجيال الشعرية لديكم وبين المثقفين السعوديين البارزين الجديرين بالاحترام حقّاً، ولي تقدير كبير لعدد من المثقفين الذين لم أتعرف عليهم مباشرة للأسف، لقيمتهم الفكرية والنقدية، ولجرأتهم، ولأخلاقهم العلمية، ورصانتهم وعمق كتاباتهم من أمثال عبد الله الغَذَّامي وتركي الحَمَد.

من الأصوات الشعرية التي أُحِبُّها، أَذْكُر بعضَ الأسماء على سبيل التمثيل لا الحصر مثل فوزية أبو خالد، علي الدميني، عبدالله الصيخان، محمد جبر الحَرْبي، إبراهيم حسين، عبدالله السَّفَر، محمد حبيبي، خديجة العمري، أحمد الملَّا، محمد الحرز، غسان الخنيزي، علي الحازمي، أحمد كتوعة، محمد الدميني، علي العمري، أما الصديق صالح الحربي فقد أصبح مغربيّا، مِنَّا وإلينا ويعرف تفاصيل الحياة الشعرية والثقافية في المغرب. ولعلك تعلم أننا في مجلة (البيت)، مجلة بيت الشّعْر في المغرب، التي أَتَشَرَّفُ بإِدارتها إلى جانب أخي د. خالد بلقاسم رئيس تحريرها وباقي إخوتي الشعراء في هيئة التحرير، قد خَصَّصْنا عددا خاصّا للشعر السعودي الجديد. وكان رهاننا أن نفتح أعين القراء العرب على التجربة الشعرية السعودية بتنوعها وتعدُّد أصواتها الجيدة التي تغلَّبت على إرادات الإعاقة والمحو. وظني أن الأفق الجديد أصبح الآن مفتوحا أكثر للشّعْر والرواية والإبداع، وللنقد والفكر وجرأة الانتساب إلى المستقبل.

مؤخراً، كُنْتُ في معرض الكتاب بالرياض، وسَعِدتُ بلقاء الأصدقاء معجب الزهراني، وعبدالعزيز السّْبِيَّل وعبدالله الصيخان وفوزية أبو خالد ومحمد العباس، وكان أخونا علي الدميني يجتاز محنته الصحية، فلم أتمكن من لقائه مرة أخرى بعد لقائنا الأول في الرباط، الذي كنتُ اقترحتُ فيه أن نحقق فكرةَ عددٍ خاص من مجلتنا للشّعْر السعودي الجديد، فكان يرحمه الله في مستوى التزامه وكلمته.

دَعْنِي أقُلْ لَكَ إِنني أُعْجِبتُ - وأنا أتجول في الرياض، في رفقةِ صديقٍ سعودي عزيز تعرفتُ عليه خلال زيارتي الأولى - بالتحول الواضح الملموس في الشارع السعودي وفي حياة الناس اليومية. الظاهر أن ما يحدث هناك عندكم ينتمي إلى المستقبل كما آمُلُ، ولا تلائمه سِوَى قصيدة النثر تحديداً... وربما الرواية أيضاً.