-A +A
صدقة يحيى فاضل
هناك قيم (Values) إنسانية عالمية، يؤمن بها البشر الأسوياء، وتتعلق هذه القيم بالحياة العامة والعلاقات مع الآخرين، وتتغلغل في أعماق معظم الناس ووجدانهم، وتترسخ مع مرور الزمن. ثم يورثها الأجداد للآباء، ويورثها الآباء للأبناء، والأبناء للأحفاد، وهكذا، على مدار الوقت. إنها قيم تتجاوز قيود المكان والزمان، لتنتشر في كل زمان ومكان، وإن كانت تختلف تفاصيلها من جماعة لأخرى، ومن مكان لآخر، بل ومن وقت لآخر. لكن تظل هذه القيم راسخة في منظومة المبادئ العامة التي يعتنقها البشر، ويؤمن بها غالبية الناس، في كل البسيطة، وعبر الأزمان. ومن أبرز وأهم منظومات القيم الإنسانية التي ينطبق عليها هذا الوصف، هي قيمة «المواطنة» (Citizenship)، وحب الوطن، وما يتفرع عن ذلك من مفاهيم «وطنية»، لعل أبرزها ما يعرف بـ«الوحدة الوطنية».

إن مصطلح «الوحدة الوطنية» (National Unity) هو في الأصل مصطلح سياسي بامتياز، ولكن له أبعاد فكرية وتربوية واقتصادية، واجتماعية، وأمنية كبرى، واضحة. وكثيراً ما يستخدم هذا المصطلح مرادفاً لمصطلح «الانصهار الوطني». كما أن معنى هذا المصطلح ومضمونه يتداخل مع مفهوم «المواطنة» (Citizenship) و«الوطنية» (Nationalism). وتتعدد تعريفات «المواطنة» و«حب الوطن» وإيثاره على ما عداه من أوطان، من جماعة لأخرى، ومن شعب لآخر، بل ومن فرد لآخر. ولكن، وفي كل الأحوال، فإن غالبية البشر – في كل مكان وزمان – يحملون بين جوانحهم محبة للوطن ومسقط الرأس، غالباً ما تفوق محبة أي مكان آخر على وجه الأرض، مهما كان جميلاً ومريحاً.


****

وهذه المحبة لها تبعات، ونتائج... يمكن تجسيدها في ما يمكن أن يسمى بـ«المواطنة»، والتي يمكن أن تعني:

محبة الشخص لمكان مولده ونشأته وعيشه، وتفضيله هذا المكان على كل ما عداه (ما عدا في حالات استثنائية، كأن يتعرض هذا المكان لكوارث، أو مظالم، أو أوبئة، أو ما إلى ذلك) والحنين دوماً إليه، والسرور بالتواجد فيه، والاستمتاع برفقة بعض أهله.

وتنبثق عن هذه المحبة للتراب وللأرض المعنية وساكنيها، عدة «عناصر» (أو قيم متفرعة) لعل أهمها ما يلي:

1- حب الأرض المعنية ومعالمها، وتفضيلها على ما عداها.

2- محبة أهل البلد المعني، وتفضيلهم، والاستئناس لهم.

3- الولع ببعض «قيم» الوطن الأساسية، من دين وتقاليد وأعراف، ورموز حضارية ـ مادية ومعنوية.

4- الدفاع والمنافحة عن الوطن، بكل الطرق الممكنة، وفي كل الظروف.

5- العمل، قدر الإمكان على المساهمة في الرقي بالوطن، والوصول به إلى مصاف البلاد المتقدمة، في كل المجالات.

6- المحافظة على إمكانات البلد، وحماية مكتسباته.

7- الفخر والاعتزاز بالوطن، أرضاً وناساً، ومحاولة إظهاره في أحسن صورة ممكنة.

هذه العناصر، أو القيم المتفرعة (Sup-Values) تشكل مجتمعة قيمة أكبر هي «المواطنة الصالحة»، أو السوية وفي كل مكان. وبالطبع، بما أن هناك «مواطنة صالحة»، فإن هناك أيضاً مواطنة غير صالحة... تتمثل في اعتناق الفرد ـ تجاه وطنه ـ قيماً معاكسة لكل من هذه القيم السبع المتفرعة.

وتترتب على المواطنة، في كل مكان وزمان، حقوق لـ«المواطن»، و«واجبات» عليه. وأبرز حقوق الوطن على المواطن هي أن يحمل المواطن قيم المواطنة، تجاه وطنه، ويفعل هذه القيم في الممارسة. وأبرز واجبات الوطن نحو المواطن هي أن: يوفر له الكرامة والأمن والأمان، وحداً أدنى من العيش الكريم. وكلما حصل المواطن على حقوقه من الوطن، تفانى هو الآخر في القيام بواجباته نحوه، وصلحت مواطنته. والعكس قد يكون صحيحاً.

****

وما ذكر آنفاً ما هو إلا ملخص وجوهر قيمة «المواطنة» العامة... غير أن هذه القيمة الكبيرة، وما يتفرع عنها من قيم، تصطبغ في كل مجتمع بصبغة دينه وقيمه الخاصة والعامة، وتقاليده وأعرافه، بل وظروفه. والدين الإسلامي الحنيف يقر هذه القيم، ويحض على التمسك بها، بل ويضفي مضامين أسمى وأرقى وأجمل عليها، كما هو معروف.

فالإسلام يحض معتنقيه على اعتباره عصمة أمرهم، ويأمرهم بتقديم العقيدة الإسلامية على ما عداها. حتى أن بعض الفقهاء المسلمين يرون أن ولاء المرء يجب أن يكون لدار الإسلام، ولأخيه المسلم وإن تباعد وطنه، وعجم لسانه – بالنسبة له. ولكن الإسلام لا ينكر حب الوطن (وكل ما يترتب عليه) والتعلق بمسقط الرأس. ثم إن واقع العالم اليوم، و«الحدود» (borders) التي قسم إليها، تتطلب أن يكون ولاء الإنسان – مهما كان دينه – لوطنه أولاً، ثم للأوطان التي تنتشر فيها أمته ثانياً. وهذا يجب أن يعني تحبيذ سعي المسلم للاتحاد والتضامن مع إخوته في الدين، وأيضاً أشقائه في القومية، وإخوانه في الإنسانية. فالاتحاد مع الأقربين قوة.

****

أما مصطلح «الوحدة الوطنية» المتداخل مع مصطلح «المواطنة»، فإنه يعني: مدى تلاحم وانصهار وتماسك وتضامن شعب دولة ما، خاصة تجاه ما تواجهه بلاده من تحديات داخلية وخارجية.

وهذا يعني: مدى ترابط وتعاون وتضامن المواطنين فيما بينهم، وفيما بينهم وبين حكومة بلادهم، في فترة معينة، وخاصة في أوقات الشدة، وخلال مواجهة بلادهم لأخطار وتحديات كبيرة. ومعروف، أنه كلما كان مدى هذا التلاحم الوطني قوياً وفعالاً، انعكس ذلك بالإيجاب على بلادهم، داخلياً وخارجياً، وفي الساحتين المحلية والدولية، ودعم من قوة وتطور هذه البلاد. والعكس صحيح غالباً.

****

ومن ذلك، يمكن القول إن من أهم عناصر «الوحدة الوطنية» هي:

– انصهار غالبية الشعب المعني في بوتقة الوطن الواحدة. وهذا يمكن أن يتم عبر تطبيق إجراءات الانصهار الوطني المعروفة، وفي مقدمتها محاربة «العنصرية»، وتنظيم الطائفية.

– تماسك وتآلف غالبية الشعب، في المنشط والمكره، ووقوفهم صفاً واحداً متراصاً للدفاع عن بلادهم ضد كل ما يهددها من أخطار، وعدم القبول بما يضر وحدتها.