مقالات

القرابة: حين تموت الأخلاق وتُدفَن الرحمة

كتبه : محمد بن سالم بن سليمان العبدلي الفيفي

في زمنٍ تَزدادُ فيه الضَّغائنُ، وتبهتُ فيه القِيَمُ والأخلاقُ، وتَطغى فيه المناصِبُ والألقابُ على كُلِّ القِيَمِ الحميدةِ، هذا زمنٌ تُصبِحُ فيه الروابطُ العائليةُ – التي خُلِقَت لتكونَ رحمةً ومودَّةً وقُربى – تُستعمَلُ أحيانًا أداةً للسيطرةِ والتعالي وهَضمِ الحقوقِ.

ففي بعضِ البيوتِ لم تَعُدِ الأُخوَّةُ جسرًا من المودَّةِ والصِّلةِ، بل أصبحت ميدانًا للغُرورِ وإثباتِ الذاتِ، حتّى غَدَتِ القَرابةُ مجرَّدَ صِفةٍ بيولوجيّةٍ خاليةٍ من معناها الإنسانيِّ وقِيَمِها الرَّبانيّةِ.

حين تَفقِدُ القَرابةُ الرَّحمةَ، يَتحوَّلُ البيتُ إلى ساحةِ صِراعٍ، ويَغدو القريبُ خَصمًا يَتربَّصُ، لا سَندًا يُستَنَدُ إليه.

نَرى أحيانًا أُختًا تُجرِّدُ أُختَها من الاحترامِ والتقديرِ، وأخًا يَسلُبُ أخاهُ ما في يده، فالأخُ والأختُ هنا يَتعامَلانِ باستعلاءٍ يُخفي عُقدةَ نَقصٍ عميقةٍ، فتُسقِطُ على مَن حولَها من الإخوةِ نَزعةَ السيطرةِ والتعالي والتكبُّرِ لِتَشعُرَ بتفوُّقٍ زائفٍ.

ومع مرورِ الأيّامِ، لا تَلبَثُ القِيَمُ أن تتآكَلَ، وتُصابَ العلاقاتُ الأُسَريّةُ بالتسمُّمِ العاطفيِّ، حتّى يُصبِحَ الصَّمتُ خيارَ النُّبلاءِ، لا ضَعفَ العاجزينَ والجُبناءِ.

إنَّ ما نَشهَدُه في بعضِ البيوتِ من هذه الصِّفاتِ هو تَصدُّعٌ أخلاقيٌّ أكثرُ مِنه خِلافٌ عائليٌّ.

فالذين يُربُّون أبناءَهم على الكِبْرِ والغطرسةِ والأنانيّةِ باسمِ الثِّقةِ، أو على التسلُّطِ وظُلمِ الآخَرينَ باسمِ الحزمِ، هم يَزرَعون قَسوةً وغِلظةً وجَفاءً تَمتدُّ سُمومُها في الأجيالِ القادمةِ.

وليس المُؤلِمَ في هذا أن يُخطِئَ القريبُ، بل المُؤلِمُ أن يُخطِئَ وهو يرى نَفسَه على صوابٍ مُطلَقٍ، لا يَسمعُ إلّا صوتَه، ولا يَرى إلّا صورتَه فقط.

حين تُصابُ القلوبُ بالغُرورِ، والأخلاقُ بالكِبْرِ والتعالي، تُصبِحُ القَرابةُ عبئًا لا نِعمةً.

وحين يَغيبُ الإنصافُ والعَدلُ، يَضيعُ معنى “الأُخت” و”الأخ”، ويَحُلُّ مكانَهما حسابُ المصالِحِ والمناصِبِ والألقابِ والأدوارِ.

ولأنَّ الإنسانَ الكريمَ العارِفَ باللهِ حَقَّ المعرِفةِ لا يَبيعُ كرامتَه تحت أيِّ مُسمّى مهما كانتِ الأسبابُ، بل يَختارُ الابتعادَ بهدوءٍ دون جَلبةٍ تُذكَرُ، مُؤمنًا أنَّ الدَّمَ لا يُبرِّرُ الإهانةَ والتسلُّطَ وسوءَ الخُلُقِ، ولا القَرابةَ تُلزِمُ بالخضوعِ والانصياعِ.

لَسنا هنا نَدعو إلى القطيعةِ، فصِلةُ الرَّحِمِ واجبةٌ بنصِّ القرآنِ والسُّنّةِ، بل نَدعو إلى إعادةِ النَّظرِ في مفهومِ صِلةِ الرَّحِمِ بحسبِ ما قرَّره القرآنُ والسُّنّةُ؛ أن تكونَ قائمةً على الاحترامِ والتقديرِ لا على الاستغلالِ والتربُّصِ، على الرِّفقِ والرَّحمةِ لا على الرِّياءِ والسُّمعةِ.

فالرَّحِمُ الحقيقيُّ ليس مجرَّدَ صِلةٍ نَسبيّةٍ أو جَسديّةٍ، بل صِلةٌ إنسانيّةٌ أخلاقيّةٌ تَحفَظُ الكرامةَ وتَغرِسُ الطمأنينةَ.

وفي النِّهايةِ علينا أن نُدرِكَ أنَّ صِلةَ الرَّحِمِ لا تَعني الخُضوعَ للظُّلمِ، ولا تَستوجِبُ تِكرارَ الأذى بحُجَّةِ القَرابةِ.

الدَّمُ وحدَه لا يَصنَعُ الأُخوَّةَ، بل المروءةُ والاحترامُ المتبادَلُ.

لقد آنَ الأوانُ أن نُعيدَ تعريفَ الأُخوَّةِ في سِياقِها الإنسانيِّ النبيلِ:

أن تكونَ سكنًا لا سيفًا، سَندًا لا سُلطَةً، مُشارَكةً لا مُنافَسةً.

فالأسرةُ التي يَختطِفُها الكِبْرُ تتحوَّلُ إلى رَمادٍ بارِدٍ، مهما تَلألَأت أمامَ الناسِ بأقنِعةِ المظاهرِ.

ولعلَّ أجمَلَ أشكالِ القوّةِ هي تلك التي تَختارُ الصَّمتَ حين يكونُ الرَّدُّ انحدارًا، وتَختارُ البُعدَ حين يكونُ القُربُ إذلالًا.

فالصَّبرُ هنا ليس ضَعفًا، بل وَعيٌ عميقٌ بأنَّ الكرامةَ أثمَنُ من أيِّ رابطةٍ تُدنِّسُها الأنانيّةُ.

القرابة: حين تموت الأخلاق وتُدفَن الرحمة

كتبه :
محمد بن سالم بن سليمان العبدلي الفيفي

‫2 تعليقات

  1. مقال رائع وعميق كتبه قلم واعٍ ومبدع. لامستم فيه جوهر الحقيقة بصدقٍ وأسلوبٍ بليغ، فعباراتكم تنبض بالحكمة والإنصاف، وتدعو لإحياء القيم الرفيعة في زمنٍ تاهت فيه الرحمة. أحسنتم وأجدتم يا أستاذ محمد، بورك قلمكم وفكركم النبيل.

  2. قلمٌ راقٍ ينزف وعيًا وصدقًا، يصوغ الحقيقة بحروفٍ تلامس القلب وتوقظ الفكر، فبورك هذا القلم الذي كتب فأنصف وأوجع ببلاغةٍ عميقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى