أخبارنا

حين ناداني اللطف من بين العتمة

بقلم 🖌 : فهد بن إسماعيل السبعي

كانت جائحة كورونا كريحٍ عاتية، عصفت بكل ما بنيته حجراً حجراً، حتى لم يبقَ لي من حالي إلا أطياف التعب والخذلان. تكالبت عليّ الهموم، وتعسر الرزق، وبهتت الدنيا في عيني حتى صرت أرى الأبواب كلها مغلقة. اعتكفت في بيتي لا أزور أحداً، حتى والديّ لم أعد أخرج إليهما حزناً وكمداً، أهرب من نظرات الشفقة، وأختبئ خلف جدار الصمت.

كنت بالأمس أرى مردود عملي وتوفيق الله في تجارتي، وكنت أظن أن الأيام قد زانت لي، لكن فجأة توقفت العجلة، وجفّ المورد، وخيّم الصمت في حياتي.

وفي لحظة الانكسار تلك، لم أجد أمامي إلا خياراً واحداً: أن أنهض.
نفضت عن نفسي غبار الوهن، ومسحت عن قلبي غبار القنوط، وقلت لنفسي: ما دام فيك نفس، فالله لم يغلق الأبواب بعد.

بدأت أعمل في كل ما أستطيع، بحثت عن رزقٍ أستر به نفسي وأهلي، لكني وجدت أن أعمال منطقتي لا تكفي، ولا تحقق المردود الذي يعينني على الاستمرار.

وفي تلك الأيام، جاءني اتصال من أحد تجار المنطقة، رجل بيني وبينه من المعروف والودّ الشيء الكثير، لكني كنت أزيح بصري عن شاشة الهاتف كلما رأيت اسمه. لم أرد عليه، لا جفاءً ولكن خجلاً… خجلاً من أن يظن أنني أطلب منه شيئاً.
لكنه لم ييأس، اتصل بوالدي، ثم بأخي، وقال لهما: “قولوا لفهد يجي، يمكن الله يجعل على يده فرج.”

رضخت لإلحاح والدي، وذهبت إلى هذا الرجل الطيب. جلس معي بابتسامته المطمئنة، وقال كلماته التي ما زالت ترن في أذني إلى اليوم:

“يا فهد، اذهب إلى الرياض، ستجد هناك ما يسرك.
لا أريدك أن تعمل، أريدك أن ترتاح.
أريدك أن تغيّر جوك، أن تلتحق بنادٍ رياضي، وسأرسل لك عشرة آلاف ريال شهرياً.
منها تسكن وتأكل، وترسل لأهلك ما يعينهم. فقط غادر… وسترى كيف يبدل الله حالك.”

كانت كلماته بلسمًا وضعه الله في وقتي الأصعب. أخذت منه خمسة آلاف ريال على استحياء، وذهبت إلى بنده أملأ ثلاجتي بكل ما لذّ وطاب — كأنني أودّع مرحلة من حياتي.

ثم جلست أرتب حقيبتي.
وزوجتي إلى جواري تحبس دموعها، وبنتاي الصغيرتان
تناولانني الملابس وهما لا تدركان أن كل قطعة تُطوى على وجع الفراق. كانت دموعنا تختلط على أطراف القماش — دمعة خوف ودمعة أمل.

شحنت سيارتي مع شركة البسامي بعد أن ملأتها بأربعين كيساً من الحناء، وعشرين كيساً من السدر، وانطلقت إلى الرياض.
وما إن وصلت السيارة حتى أعلنت عن بضاعتي في موقع “حراج”، وبدأت أبيعها بنفسي.
كنت أوصل الطلبات بيدي، وأبيع الأكياس بدبل سعرها، وأضيف عليها أجرة التوصيل.
وبفضل الله، استرجعت رأسمالي وربحت، فكانت تلك التجارة الصغيرة أول بصيص نور بع
د العتمة.

ثم التحقت بوظيفة في شركة الأمن الصناعي.
وكنت كلما رأيت شاباً يسأل عن عمل أو يبحث عن فرصة، طلبت منه سيرته الذاتية.
وفي المساء، أجمعها وأذهب إلى المكتبة على نفقتي الخاصة، أطبع مائتي نسخة من كل سيرة ، وأشتري مائتي ملف لكل سيرة ، ثم أعتكف في الليل أرتبها واحدة تلو الأخرى، وأوزعها في اليوم التالي على حراسات المصانع وبواباتها.

كنت أفعل ذلك خالصاً لله، لا أنتظر شكراً ولا مقابلاً.
وكم من شخصٍ توظف على يدي، والله لا أعرفه، لا اسمه ولا وجهه، لكني كنت أعلم أن الله لا يضيع إحسان المحسنين.

ثم تركت تلك الوظيفة، وانتقلت إلى شركة أخرى و الله لم أتقدم عليها و لا أعرف عنها شيئاً و لكن ساقها الله لي سوقاً حتى توظفت فيها .. بل أحد أبناء صاحب الشركة يقول لي ” أسرع توظيف “

و إلى اللحظة يسوق الله لي أشياء و الله لم أدبر لها فاللهم لك الحمد و لك الشكر ..

وفيها استقطبت من زملائي رجالاً أعرف فيهم الوفاء والإبداع، منهم رفاق دراسة، ومنهم من التقيته مرة واحدة. لكني كنت أؤمن أن من يملك الإخلاص، يثمر أينما وُضع، وأن من يعمل لله، يُبارك الله في كل ما يعمل.

ورأيت بأم عيني أن التوفيق لا يُشترى، ولا يُهدى، بل هو ثمرة صدقٍ ونيّةٍ طيبة، وخدمةٍ خالصةٍ لله عز وجل ثم للناس .

فمن سعى في حاجة أخيه، سعى الله في حاجته،
ومن أعان الناس، أعانه الله،
ومن كان للآخرين عوناً، كان الله له عوناً في كل شدة.

وهكذا علمتني الحياة أن اللطف لا يأتي إلا حين تضيق كل السبل،
وأن الفرج لا يُفتح إلا حين ترفع يديك لله خالصاً مخلصاً له سبحانه

فلا مجال لليأس، ولا مكان لفقدان الأمل.
قد تنسى الناس معروفك، لكن الله لا ينسى.
وما بين دمعة الفقد وبسمة الفرج، هناك درسٌ لا يُشترى:
أن من يزرع خيراً، سيجنيه، ولو بعد حين.

تعليق واحد

  1. من يصنع الخير لا يعدم جوازيه
    لا يذهب العرف بين الله والناس

    جزاك الله خيرا وكتب الله لك الأجر وزادك الله من فضله فأنت نموذج مشرف للشباب الطموح من شبابنا
    وكريم خصال قل وجودها في هذا الزمن
    أسأل الله تعالى أن يحفظك ويحفظ لك والديك وكل عزيز لديك ويعطيك حتى يرضيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى