المعلم بين الأجر والشكر

الحمدلله
الخطبةالأولى
عبادَ الله، فاتقُوا اللهَ، نعيشُ اليوم مَعَ أعظمِ مِهنةٍ عرَفَتْها البشريةُ، وَمِن وحيها استمرتِ الحياةُ الإنسانيةُ، إنها: مِهنةُ التعليم الخالدةُ ووظيفةُ التدريس الماجدة، كيف لا تكونُ أعظمَ مِهنةٍ وهيَ تركةُ الْأَنْبِيَاءِ وإرثُ العُلماء؟! مِنْهَا تُصنَع الحضاراتُ، وبها تتقدمُ المُجتمعاتُ، مِنْهَا تنطلقُ الأُمَمُ، وبُها يُصعَدُ إِلَى القِمَمِ، مِهنةٌ تُهذِّبُ النُّفوسَ، وتُزكِّي السُّلوكَ، وتُنمِّي الإِيمَانَ، وتُورِثُ الإحسانَ.
بالعلم يُحفَظ الدِّينُ مِنَ التطرُّف والتمييع والغُلُوِّ والتضييع، وبالعلمِ تُحفَظ المُجتمعاتُ مِن الخُرافات والأباطيل والإرجاف والتضاليل، بالعلمِ تُحفَظ الأُسرُ مِن التشتُّت والانحراف والجموح والانجراف، بالعلم يُحفَظُ الوطنُ مِن الأفكار المُنحرِفة والمناهج المُضلِّلَة، فما أعظمَ أثرَ العلمِ عَلَى أهلِه، وما أخطرَ شُؤمَ الجهل عَلَى حزبِه!
• وقد أثبتَ الواقعُ فِي سائر المُجتمعات عَلَى اختلاف توجُّهَاتها وأديانها وأفكارها: أنهُ بقَدْرِ ما يكون لدَى المرء مِن تعليمٍ بقَدْر ما يكون فردًا فاعِلًا ومُثْمِرًا فِي كُلِّ خيْرٍ، وسدًّا مَنيعًا عَنْ كُلِّ شَرٍّ، وقد أثبَتَ الواقعُ أيضًا: أنهُ بقَدْر ما يكون لدى المُجتمعات مِن مُستوَى تعليمٍ جيِّدٍ بقَدْر ما تكون آمِنةً مُطمئنةً راغدةً، فلا يكثُرُ الجهلُ فِي بلَدٍ إِلا وكان الفقرُ والخوفُ مُلازمًا لأفرادِه.
أَيُّهَا المُعَلِّمُ، هنيئًا لك هذَا الطريق الذِي سخرهُ اللهُ لك، هنيئًا لك هذَا العمل الذِي ساقهُ اللهُ لك، هنيئًا لك هذَا الميدان الذِي يسرَهُ اللهُ لك، هنيئًا لك هذه الحسنات الجارية وهذِه الأُجورُ المُضاعَفة، هنيئًا لك قول النبِيِّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ: «إِن اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتى النمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ الناسِ الْخَيْرَ».
أَيُّهَا المُعَلم: لقد هيَّأ اللهُ لك مِن أسباب الخير ما لَمْ يُهيِّئْهُ لغيرك، تُعَلِّم الجاهلَ، وتنصحُ العاصيَ، وتُوجِّهُ المُقصِّرَ، وتُعينُ الفقيرَ، وتعطفُ عَلَى اليتيم، وتكشفُ الموهوب، وتُشجِّعُ المُبادر، وتدفعُ المُتكاسلَ، وتصبرُ عَلَى الشقِيِّ، وصدق مَنْ قَالَ: “كادَ المُعَلِّمُ أن يكونَ رسولًا”؛ لأنهُ يأمرُ بالفَضائل، ويُحذِّرُ مِن الرذائل، يُربِّي النُّفُوس، ويعمرُ العقولَ، يُربِّي النُّفُوس بالإيمان، ويعمرُ العقولَ بالعلم، فاحمَد اللهَ عَلَى نِعَم الله، وانفُضْ غُبارَ الكسل، وجدِّد النِّيةَ مَعَ الله، وما خاب مَنِ اتَّجَرَ فِي سبيل الله.
أَيُّهَا المُعَلِّمُ، لَا بُد أن تستشعرَ عظمةَ ما أنتَ فيه، وما طُوِّقْتَ بهِ مِن أمانةٍ فِي عُنُقِك، فبيْنَ يدَيْك أعظمُ ثروة، وتحت سُلطانِك أغلَى كنزٍ، إنهُم أبناءُ المُسْلِمِيْنَ، فاللهَ اللهَ بِحُسْنِ الرِّعاية، أَيُّهَا المُعَلِّم، إِن مُهِمتَك ليست بالراتبِ والمال، بل هي رسالةُ إيمانٍ، وأمانةُ جيلٍ، وعِزُّ وطنٍ، وحضارةُ أُمةٍ، فإن أحسنْتَ البذرَ طابَ الحصادُ، أَيُّهَا المُعَلِّمُ، إِن كانَ التاجرُ يوقِفُ الأموالَ فِي سبيل الله فأنت تُوقفُ العقولَ النيِّرَةَ والنُّفوسَ المُؤمنةَ، وهي رأسُ كُلِّ خيْرٍ وأساسُ كُلِّ صلاح.
• أَيُّهَا المُعَلِّم، التربيةُ هي مُهِمةُ المُعلِّمين جميعًا بغضِّ النظَرِ عَنْ التخصُّصِ أَوْ العلم الذِي يُدَرس.
• أَيُّهَا المُعَلِّم، أعانك اللهُ فأنت رَجُلُ الميدان الْأَوَلُ، فأنت أولُ مَنْ يرصدُ المُخالفات، ويطلِعُ عَلَى التغيُّرات، ويُبصِرُ التحوُّلات التِي يَمُرُّ بها جيلُ اليوم، فَكُن مُتفائِلًا مُستبشِرًا ومُصلِحًا وناصحًا.وعليك بالحلم والصبر والصدق
• أَيُّهَا المُعَلِّم، إِن للقدوةِ أثرًا فِي نِفوسِ المُتعلِّمين، فكُن قُدوةَ خيرٍ فِي كلامك وصمتك وهيْئَتِك، وفي صحيحِ مُسلِم: «مَنْ سَن سُنةَ خَيْرٍ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا فَلَهُ أَجْرُهُ وَمِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»، عجبًا لأمرِكَ أَيُّهَا المُعَلِّم تَحرِقُ نفسَك؛ لِتُشعِل غيرَك، يا لَهُ مِن إيثارِ بالِغ وكرمٍ سابغ، ولله دَرُّ شيخِ القُدْس إذ قَالَ فِي وصفِك:
يا شمعةً فِي زوايا الصف تأتلقُ
تُنيِرُ دربَ المعالي وهي تحترقُ
لا أطفأ اللهُ نورًا أنت مصدرُهُ
يا صادقَ الفجر أنت الصبحُ والفلقُ
أيا معلّمًا يا رمز الوفا سَلمَتْ
يمينُ أهل الوفا يا خيرَ مَن صدقوا
الخُطبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلهِ عَلَى إحسانِه، والشُكر لَهُ عَلَى توفيقِه وامتنانِه،
أَما بَعْدُ:
عباد الله، لَما كان المُعَلِّمُ يحملُ أعظمَ رسالة، ويُؤدِّي أَجَل الأدوار فِي المُجتمَع، كانَ حقُّهُ التقدير والاحترام والاعتناء والحفاوة، فلَا بُد أن تغرسوا فِي أعماق أبنائكم ليسَ احترام المُعَلِّم فقط، بل حُب المُعَلِّم، نعم حُب المُعَلم، فالمُعَلمُ ليسَ نِدًّا أَوْ عدوًّا، بل هُوَ الوالِدُ الحاني، والمُرشِدُ المُتفاني، والمُربِّي الفاضل، والمُصلِحُ المُخلص.
إِن العلاقةَ بين المُعَلم وتلميذِه ليسَت علاقةَ نِدِّيةٍ، وليست علاقةً مادِّية، بل هي علاقةُ محبةٍ وتربيةٍ وانتماءٍ وافتخار، ولقد أورثت تلك المحبة المُتبادلة بين المُعَلم وطُلابِه أروعَ الأمثلة فِي الاحترام والإجلالِ والهيبة، فَهذَا الإِمَامُ أبُو حنيفةَ رَحِمَهُ اللهُ يتحدثُ عَنْ احترامِهِ لشيخهِ حماد، فيقول: "ما مَدَدتُ رِجلِي نحوَ دارِ أُستاذِي حماد إجلالًا له، وكانَ بين داري ودارهِ سبعُ سِكَك، وما صليتُ صلاةً مُنذ ماتَ حماد إلا استغفَرتُ له مع والدَي".وَقَالَ الإِمَامُ أحمد عَنْ شيخهِ الشافِعِيِّ: "ما بِتُّ مُنذ ثلاثين سنةً إِلا وأنا أدعو للشافِعِيِّ وأستغفرُ لَهُ
واعلموا أن مَن يتمرَّد عَلَى المُعَلمِ فِي مدرسةٍ، فسوف يتمردُ عَلَى الوالدِ فِي البيت، وعلى رَجُلِ الأمن فِي الشارع، بل سوف يتمردُ عَلَى المُجتَمَع بأسرِه؛ لأنهُ إذا لَمْ يُؤدِّ حقَّ مَنْ لَهُ حقٌّ عليه، فَمِن باب أَولى ألا يعرفَ حقًّا لأحَدٍ.
• ثُم اعلموا أن المُعَلِّم إذا لَمْ يجد الاحترام والتقدير والهيبةِ المرجوةَ، فسوفَ ينعكسُ ذلكَ عَلَى أدائِهِ وعملِه، مما يورِثُ لديه الكسلَ والتقصيرَ فِي أداء رسالتهِ العظيمة، فلا يَنصحُ للطالب، ولا يجتهدُ فِي المنهج، فتقعُ الكارثةُ، وينهدمُ البناءُ مِن أصلِه.
وقد قَالَ الشاعرُ:
إن المعلمَ والطبيبَ كلاهما
لا يَنصحانِ إذا هُما لم يُكْرَما
فاصبرْ لِدائكَ إن أهنتَ طَبيبَهُ
واصبرْ لِجهلِكَ إن أهنتَ مُعَلمَا
جزيل الشكر والدعاء للمعلم، وجميل الثناء، بأن يجعل عمله مدخرًا مثقَّلًا في ميزانه، وأن يُجازى في الدنيا بالرفعة والذكرى، وفي الآخرة بالنعيم والحُسنى.