
في تلك العصرية الهادئة ، عدتُ مع والدي من المسجد بعد صلاة العصر، وكان هواءُ ذلك الوقت يدور في فناء البيت بخفةٍ باردة، يكسر حرّ النهار دون أن يعكّر سكون المكان، فيملأ الفناء جواً مريحاً تُحبّه النفس بعد طول نهار.
وما إن دخلنا حتى وجدنا والدتي قد أعدّت لنا برّاد شايٍ محبوك، له رائحة تشبه دفء الأمهات وبركة أيديهن. فجلسنا تحت ظلّ الحوش الوارف، ذلك الظلّ الذي يلفّنا بردائه الهادئ كأن المكان يفتح لنا حضنه، وأخذنا نحتسي الشاي، وفي كل رشفة كنّا نشعر بأن ثِقَل اليوم ينسحب من صدورنا شيئاً فشيئاً.
ولم يطل بنا المجلس حتى قال أبي بصوته الذي يحمل هيبة السنوات:
“هيا … قوموا للمزرعة.”
نهضنا، وحملنا كيس الحب إلى حوض الهايلوكس موديل ستٍ وثمانين، تلك السيارة التي حفرت في العمر طرقاً من الذكريات. فتح أبي الكيس، ومدّ يده يُقلب الحبوب بين أصابعه، حبوبٌ حمراء نقية كأنها ذهب خالص، ثم أعادها إلى الكيس وربطه وقال بخشوع الواثق: “بسم الله.”
أخي إلى جانبه، وأنا في المرتبة الخلفية، أرقب الطريق وأشعر كأن الهواء يسرّح طفولتي على امتداد الطريق ..
وما إن اقتربنا من المزرعة حتى بدت الحرّاثة واقفة تنتظر، كأنها فرسٌ أشهب يتهيأ لساعة الوثوب. نزلنا، وركبتُ على المُخرش من الجهة اليمنى وأخي من اليسرى و بيننا سطل الحبّ و كأننا نحتضن أخاً نخشى عليه من السقوط ، بينما وقف أبي على الزبير يشير للسائق:
“ابدأ من هنا… واعمل من هنا.”
ثم رفع يديه، رفعَ رجلٍ يعرف الأرض ويهاب سِرّ ترابها. أخذ شيئاً يسيراً من الحب، نثره على الأرض وقال بلهجته الخاشعة التي لا تُخطئ إخلاصها:
اللهم هبْ لنا و للشابرين و الطيور النافرين و الضعوف المساكين
ثم أشار للسائق بالانطلاق، قبل أن يلتفت إلينا ليلقي تلك الحكمة التي علقت في القلب قبل الذاكرة:
“يا جهلة أي يا غلمان … اذروا ذرى الحق”
أي أعطوا الأرض حقها من البذر لا تُكثرون… ولا تُقلّلون. فإن كثرة الحب تضعف السنابل، ونقصه يقلّل خيرها. الأرض العثّرية ما تقبل الزايد.” أي من البذور
ثم شرح لنا كيف أن الإفراط في البذر يُضعف السنابل ، وأن التفريط فيها يترك الأرض خاوية، وكيف أن المزارع إن أراد علفاً لدابته فلا يضره كثرة الحب في التليم.
ضحكنا أنا وأخي يومها، نتهامس ونقلد نبرة أبي، غير مدركين أن تلك الكلمات كانت بذرةً يلقيها في صدورنا، لا في الأرض وحدها.
مرت السنوات… وكبرتُ حتى بلغت التاسعة والعشرين الآن ، فعادت بي ذاكرتي إلى تلك اللحظة.
وتأملت قول أبي:
“اذروا ذرى الحق”
فوجدتها ليست وصية للمزرعة وحدها، بل منهج حياة.
تعلمت أن لكل شيء مقداراً…
أن الأرض إن أُعطيت فوق حقها خنقت زرعها، وإن بُخل عليها خانت سنابلها.
هكذا هو العمل…
وهكذا هي الصداقة…
وهكذا هي الحياة برمّتها.
الإفراط يفسد، والتفريط يهدم،
ولا صلاح لأي شيء إلا بميزانٍ دقيقٍ بين الزيادة والنقصان.
وتذكرت حينها قول الشاعر الدكتور حسن ضائحي وهو يصف البذر ومقاديره ، حيث قال :
حتى إذا النجمُ دوينَ الراس
باكرها بثيرةٍ رواسي و قاس فيها البذر بالمقاسي
كأنما كان يعيد صدى حكمة أبي، ويصوغها في شعرٍ يليق بجلالها.
واليوم…
حين أسترجع تلك اللحظة ، عرفت كيف نُعطي كل شيءٍ حقه:
العمل، والود، والاهتمام، والوفاء، واحترام الذات والناس.
وأن من ضبط ميزانه، استقام طريقه، وأثمرت أيامه، كما تثمر الأرض حين تُعطى حقها.
وهكذا…
كانت تلك اللحظة في المزرعة درساً عظيماً، زرعَه أبي في قلبي،
فأنبت في داخلي عمراً من الفهم…
وحكمةً لا تزال تُثمر كلما تذكرتها.
- لجنة كرة القدم المُصغَّرة بمنطقة جازان تعقدُ لقاءً عاماً مع اللجان العاملة في الميدان ومنظِّمي البطولات
- تعليم مكة ينفّذ برامج متنوعة احتفاءً باليوم العالمي للطفل
- وزير الاستثمار: الولايات المتحدة أكبر مستثمر أجنبي في المملكة.. الفالح: إطلاق اتفاقيات جديدة بين السعودية وأميركا بمئات مليارات الدولارات.
- لجنة كرة القدم المُصغَّرة بمنطقة جازان تعقدُ لقاءً عاماً مع اللجان العاملة في الميدان ومنظِّمي البطولات
- الشؤون الإسلامية بجازان تُنفّذ (177) فرصة تطوعية بأكثر من 13 ألف ساعة لخدمة بيوت الله خلال الربع الثالث لعام 2025م


