
بعيدًا عن مقاعد الدراسة
مع نهاية كل عام دراسي، يترقّب الطلاب من مختلف المراحل قدوم الإجازة الصيفية بشوقٍ وحنين، وكأنها الحلم المنتظر بعد شهور من الدراسة والامتحانات والانشغال المتواصل، ومما لا شك فيه أن الإجازة تمثل فرصة حقيقية للراحة النفسية والجسدية، والتقاط الأنفاس بعد عام مليء بالتحديات، غير أن الإشكالية تكمن في الطريقة التي يتم بها التعامل مع هذه الإجازة، بين من يراها وقتًا للراحة فقط، ومن يراها فرصة نادرة لا تُعوّض لتطوير الذات وتنمية المهارات.
ففي عالم يتغير بسرعة غير مسبوقة لم يعد التعليم محصورًا بين جدران المدرسة أو فصول الجامعة، بل أصبح رحلة مستمرة، متاحة في كل وقت ومكان، ولا سيما مع توفر الإنترنت وانتشار المنصات التعليمية الرقمية، فقد وفرت هذه المنصات محتوى ثريًا في شتى المجالات، يتيح للطلاب تعلم ما يشاؤون، متى شاؤوا، وبالأسلوب الذي يناسبهم؛ من تعلم لغات جديدة، إلى احتراف برمجة، إلى اكتساب مهارات في التصميم، والتصوير، والتفكير الإبداعي، كل ذلك أصبح ممكنًا ببضع نقرات.
وفي هذا السياق، يمكن القول أن الإجازة الصيفية تمثل مساحة مثالية للتعلم خارج الإطار التقليدي، فبدلًا من قضاء أسابيع طويلة في الراحة التامة، أو الانشغال الزائد بالتسلية، يمكن استثمار جزءٍ من هذه الإجازة في تطوير الذات، وليس بالضرورة من خلال الالتزام ببرامج أو دورات صارمة أو خطط دراسية مرهقة، بل يكفي تخصيص وقت بسيط يوميًا لشيءٍ مفيد: قراءة كتاب، تعلم برنامج جديد، ممارسة مهارة عملية، أو حتى الاستماع إلى بودكاست تثقيفي.
ومن المهم الإشارة إلى أن التعليم في الإجازة لا يعني إلغاء الترفيه أو تجاهل أهمية الاستجمام، بل على العكس، فالدمج بين التعليم والترفيه هو ما يصنع تجربة متوازنة وممتعة، فالتعلم من خلال اللعب، أو من خلال الرحلات والمخيمات التعليمية، أو حتى من خلال التطوع والمشاركة المجتمعية، يمكن أن يكون أكثر تأثيرًا من التعليم الأكاديمي البحت، كما أن هذه الأنشطة تزرع في النفس قيمًا عالية مثل المسؤولية، والانضباط، والتعاون.
ولا نُغفل هنا أهمية تطوير المهارات الشخصية خلال الإجازة، والتي تُعدّ في بعض الأحيان أكثر تأثيرًا من المواد النظرية، فإتقان المهارات الناعمة؛ مثل: مهارة إدارة الوقت، أو التواصل أو مهارة القيادة، وغيرها، مثل: مهارة التحدث أمام الجمهور، أو القدرة على العمل ضمن فريق، كلها مهارات مطلوبة بشدة في الحياة الجامعية والمهنية، ويمكن اكتسابها ببساطة من خلال المشاركة في دورات تدريبية قصيرة، أو الانخراط في أنشطة مجتمعية، أو حتى عبر منصات التواصل الاجتماعي بشكل ذكي وموجّه.
أما من الناحية النفسية، فإن استغلال الإجازة بطريقة إيجابية يسهم في تعزيز الشعور بالإنجاز، ويقلل من الشعور بالفراغ والملل الذي يصيب كثيرًا من الشباب في هذا الوقت، كما أن هذا الاستثمار في الذات يمنح الطلاب ميزة تنافسية لاحقًا، سواء في مراحل التعليم العليا أو في سوق العمل، فلا شك أنه لا يستويان من استغل بعض إجازته فيما ينفعه ويفيده، ومن قضاها كاملة في النوم والراحة التامة.
ورغم كثرة الخيارات وتنوعها، يظل التحدي الأكبر هو القدرة على التنظيم ووضع خطة واضحة، ولو بسيطة، لما يريد الطالب إنجازه خلال الإجازة، فلا حاجة لأن تكون الخطة معقدة أو مملوءة بالتفاصيل، بل يكفي أن تكون واقعية، قابلة للتنفيذ، وتجمع بين المتعة والفائدة.
وختامًا، الإجازة ليست فقط فسحة للراحة، بل هي بوابة لفرصٍ غير محدودة لمن يرغب في استثمارها بذكاء، ويمكن لكل طالب أن يجعل من هذه الفترة نقطة تحول حقيقية في حياته، بشرط أن يدرك قيمتها، ويتحرر من فكرة أن التعليم يرتبط فقط بالمقاعد الدراسية أو القاعات الجامعية، فالمتعلم الحقيقي هو من يرى في كل وقت وكل مكان فرصةً للتطور والنمو.
بعيدًا عن مقاعد الدراسة
كتبه : يحيى بن سليمان العُمري
مكة المكرمة ٨ / ١٢ / ١٤٤٦هـ