
في المجتمعات الإنسانية، قديمًا وحديثًا، يوجد قدرٌ ليس بالقليل من الشرور يدمّر الروح ويقتل النفس، مثل الكلمة التي تُطلَق لتشويه إنسانٍ بريء. فهي لا تجرح سمعته فحسب، بل تنزع عنه شيئًا من كرامته أمام الناس، وتزرع في قلوب الأقارب قبل غيرهم ظلالَ الشك. ومع ذلك، يندر أن يسأل أحدٌ نفسه: لماذا نفعل ذلك؟ أو لماذا يستسهل بعض الناس الطعن في غيرهم؟
من أبرز آليات الدفاع النفسي ما يُسمّى الإسقاط، إذ يُسقِط الإنسان عيوبه على غيره ليبرّئ نفسه منها. فمن يعتاد الكذب، يتّهم غيره بالكذب، ومن في داخله فساد، يرمي غيره بتهمة الفساد. إنه نوعٌ من الهروب والتنصّل من مواجهة الذات، واستبدال الألم الداخلي بطمأنينةٍ زائفةٍ عبر اتهام الآخرين بما ليس فيهم. وتزداد خطورة هذا السلوك حين يحدث بين الأزواج بعد الانفصال، إذ يُلقي كلّ طرفٍ بخطاياه على الآخر ليظهر بريئًا أمام نفسه والمجتمع، فينقلب الحبّ الذي كان بينهما إلى ساحةٍ من الإسقاطات، لا بحثًا عن الحقيقة، بل هروبًا من اللوم. ولذلك، فإن النضج بعد الفراق لا يُقاس بكمّ التبريرات، ولا يُوزن بحجم الأقاويل، بل بقدرة الإنسان على الصمت النبيل، وحفظ الودّ القديم دون تشويهٍ ولا شماتة.
وقد جاء في قول الله تعالى: ﴿وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾{النساء:112}.
هذه الآية تُعبّر بعمقٍ عن الإسقاط النفسي في صورته الشرعية، إذ يخطئ المرء ثم يرمي بخطئه غيره. فهو لا يكتفي بارتكاب الذنب، بل يضيف إليه جرمًا آخر هو إلصاق التهمة بالبريء، ليحمل في النهاية وزرين: وزر الفعل، ووزر البهتان. وقد سمّى القرآن ذلك (إثمًا مبينًا)، لأن أثره لا يزول بكلمة اعتذارٍ أو بهديةٍ عابرة، بل يترك ندبةً غائرةً في القلب والسمعة والمجتمع.
قد يبدأ تشويهُ السُّمعةِ بحاقدٍ أو حاسدٍ أو غاضبٍ، وقد يصدرُ من جاهلٍ أو انتهازيٍّ أو متديِّنٍ مغرورٍ، فليس كلُّ مَن يشوِّه عدوًّا، بل قد يكون ناقصًا، أو خائفًا، أو متواطئًا. لكنه يتحوّل إلى ثقافةٍ جماعية إذا وُجدت بيئةٌ تستقبل الشائعات وتتناقلها دون تثبّت. فالمشكلة لا تكمن في “مَن قال”، بل في “مَن صدّق ونشر”. وعندئذٍ يصبح البهتان مرضًا اجتماعيًا معديًا، يُربّي الناس على سوء الظنّ، ويقضي على الثقة التي تُعدّ عصب العلاقات الإنسانية.
ويبلغ الخطر مداه حين لا يقتصر السلوك على فردٍ واحد، بل يُصبح منهجًا أسريًا متوارثًا. فهناك أسرٌ كاملة جعلت من تشويه الآخرين عادةً يومية، تُمارسها كما يتنفسون، يجتمع أفرادها على الكلام عن الناس وكأنهم يملكون مفاتيح نواياهم وقلوبهم. وهنا لا نتحدث عن أشخاصٍ سيّئين، بل عن بيئةٍ تربويةٍ مريضة تُغذّي في أبنائها الشعور الزائف بالتفوّق والأفضلية.
حين ينشأ الطفل في بيتٍ يُردّد فيه الكبار – وخاصة أحد الوالدين أو كليهما – عباراتٍ مثل: “نحن أفضل الناس”، و”الناس يحسدوننا”، و”الآخرون يتمنّون فشلنا”، فإنه يتعلّم باكرًا أن العالم منقسمٌ إلى قسمين:
الأول: “نحن الكاملون”.
الثاني: “هم الناقصون”.
وبهذا يُقتل فيه التواضع، وتُغرس بذرة الكِبر التي ستثمر لاحقًا احتقارًا خفيًا لكلّ من حوله.
وكثيرًا ما يقف وراء هذا الخلل أمٌّ أو أبٌ يعانيان في داخلهما من شعورٍ بالنقص أو الخوف من المقارنة. فبدل أن يُربّيا أبناءهما على السعي الحقيقي نحو التفوّق، يزرعان فيهم وهمهما القائل: “نحن الأفضل، لأننا نحن”. وهي صيغةٌ مدمّرة تُنبت جيلاً هشًّا لا يعرف معنى النقد، ولا يقبل المراجعة، ويعيش متحفّزًا ضدّ كلّ من يختلف معه، لأنّه يرى في الآخر تهديدًا لصورة العائلة المثالية التي تشبّع بها منذ نعومة أظفاره.
والإسلام لا يربّي الإنسان على المقارنة، بل على التقوى، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ {الحجرات:13}.
ويرسّخ في النفس معنى الكرامة بالخُلق والعمل، لا بالانتماء أو الشكل أو النسب. وقد قال النبي ﷺ: “الكِبْر بَطَرُ الحقِّ وغَمْطُ الناس”، رواه مسلم.
أي ردّ الحقّ واحتقار الآخرين، وهما جوهر ما تنتجه هذه التربية المتعالية.
إنّ تشويه الآخرين ليس مجرّد خطأٍ في القول، بل علامةٌ على هشاشةٍ في الروح، وبُعدٍ عن الدين، وعدمِ قدرةٍ على مواجهة الذات. ومن ربّى أبناءه على هذا الطريق فقد علّمهم – وزرع في نفوسهم – أن التفوّق يُصنع بالحديث لا بالعمل، وبالطعن والإساءة لا بالخلق والرحمة. وسيأتي اليوم الذي يكتشف فيه الأبناء أنّ الحياة لا تُكرّم المتعالي، وأنّ المجتمع لا يحبّ المتكبّر، بل يُجِلّ المتواضع الصادق، وأنّ القيم لا تُكتسب بالوراثة والنسب، بل تُبنى بالجهد والتقوى والضمير الحي.
“من يُشوِّه غيره ليبدو نقيًّا، لا يُطهِّر نفسه، بل يكشف عجزه عن مواجهة حقيقتها”.
كتبه :محمد بن سالم بن سليمان الفيفي
- تشويهُ السُّمعةِ وتلميعُ الصُّورةِ
- الكتابةُ بسنارةِ الوجعِ
- سمو ولي العهد: الميزانية تؤكد أن مصلحة المواطن في صدارة أولويات حكومة المملكة وما تحقق من إنجازات كبيرة كان بفضل الله ثم بفضل جهود أبنائها وبناتها
- الساعي وراء الإشارة: حكاية رجل أضاء شاشة الجنوب
- محافظة الليث تجذب أنظار العالم للسياحة البحرية وجزرها الطبيعية



