رحلة مع د. غيثان بن جريس في كتابه (القول المكتوب في تاريخ الجنوب)
كانت بداياتها بجمع رسائل ودراسات، ووثائق نادرة ومخطوطات لمنطقة عسير، وصدر من الموسوعة الجزء الأول في عام 1426هـ/2005م، ثم امتدت الفكرة إلى أن صدر الجزء الثاني 1432هـ/2011م، ثم استمر في مزيدٍ من التدفق والطباعة لهذه الموسوعة، حتى وصلت إلى الجزء التاسع والعشرين في عام 1445هـ/2023م، ولما وصلت عشرة أجزاء قدم الباحث والأستاذ محمد بن أحمد معبِّر كتابه (سيرة كتاب) احتفاءً بصدور عشرة أجزاءٍ منها، وكتب عن مؤلفها في كتابه (مواكب الأقلام) وكتابه (مؤرخ تهامة والسراة) وكتابه (الرحلات والرحالة في الجنوب السعودي، في مؤلفات د. غيثان بن جريس) وكتابه (وثائق غيثان بن جريس الخاصة) في أحد عشر مجلداً.
فكانت هذه الموسوعة وعاءً واحداً مجموعاً من أوعيةٍ شتى، متوفرة للباحث بكل سهولة، فمن لم يجدها ورقياً، فحتماً سيجدها إلكترونياً في موقعه الرسمي، وحيث أنها تتوافر في هذه الموسوعة معلوماتٌ تاريخية كثيرة، ودراسات ميدانية، ودراسات علمية، وتحقيقات تاريخية، وكتابات لمؤرخين ورحالة، وتدوينات لمثقفين ومهتمين، وكلهم يسعى جاهداً في خدمة تراثهم التاريخي والوطني، مؤمنين بأن التاريخ لن يحفظه إلّا التدوين، ونقله من أوعية الصدور إلى أوعية السطور، التي تحفظ مهما طال الزمن.
فأخذنا د. غيثان في رحلة علمية تاريخية تراثية حضارية ثقافية في هذه الموسوعة في مناطق عدة، ومرَّ بنا على القرون الغابرة، من قبل صدر الإسلام، وما بعده، إلى هذا العصر الحديث، في ربوع المملكة العربية السعودية، ما بين الحجاز ونجدها، وتهامة وسراتها، والسواحل وسهولها،
ونحن معه تلاميذٌ خلف أُستاذهم، يسمعون فتنشرح صدورهم، لما يتلوه عليهم، فشرحَ لنا التاريخ الزمني، وحدثنا عن السياسات والأحداث التي وقعت فيها، ووضع لنا خطوط الطول والعرض للأبعاد الجغرافية، وأخذنا في جولة سياحية مع المعالم المكانية والتراثية،
ووضَّحَ لنا بعضاً من الثقافة المعرفية والحضارية، واستثمر عقول أبناء تلك المناطق فيما يخدم دراساته العليمة، وتعاون معه من كلِّ منطقة روَّادها، ليوضح لنا بالدليل المفصل من أقلام أبناءها، وعرَّجَ بنا على الأسواق التاريخية، والأسواق الحديثة المحلية، لنعرف صادراتها ووارداتها، وحكى لنا عن بعض الأعراف والتقاليد، التي كان يفخر بها الآباء والأجداد،
وحصد لنا كثيراً من المنتوجات الزراعية في تلك المناطق بجميع أشكالها وأصنافها، وأطيب ثمرها وألذَّ ما تنتجه مزارعها، لنستظلَّ بظلها، ونأكل من ثمرها، ونشرب من عذبِ عيونها، وأهدانا من الطائف وردها، ومن بيشة تمرها، ومن جازان فلُّها، ومن مكة طيبها، ومن القنفذة جمال ساحلها، ومن عسيرٍ عمقُ تاريخها،
وأحضر لنا من كل مائدةٍ أشهى ما فيها، وأزكى ملذاتها ومشاربها، وحضر بنا إلى ألعابها الشعبية، وفنونها الترفيهية، وألبسنا من عجائب اللباس والزينة، مما يعدُّ تراثاً وفخراً للأجداد، ثم أجلسنا أمام الرحّالة لنستمع إلى ما كتبوا وما دوَّنوا عن مناطقنا،
وصفَّهم طابوراً حسب ترتيبهم في القرون والتدوين، وتنزه بنا في حدائقها ومرافقها السياحية، وكشف لنا عن بعض الأنظمة والقوانين في المجتمع القبلي، وفصَّل لنا التطور التعليمي، وبين لنا حالاتٌ من الزمن الذي كانت تقبع تحت سراديبه الأجيال الماضية، في ظلمات الجهل، والحروب القبلية، وغاراتٌ على بعضهم من العوز والفاقة، وعرَّب لنا كثيراً من مفردات اللهجات العربية المستخدمة التي لا زالت إلى الآن،
وفرَّق لنا بين الماضي والحاضر، يعتزُّ بماضيه ويفخر بحاضره وتطوّره، وأصَّل لنا الأسر وانتماءاتها القبلية، وطافَ بنا في مشارق الأرض ومغاربها، وأطلعنا على الثروة الحيوانية المستهلكَة، وسار بنا البحر عرضاً وطولاً، وعرَّفنا على الثروة السمكية، وأبهرنا بالعجائب والغرائب في أماكن مختلفة من الجبال والوهاد، والأودية ومجاري السيول، وأغوار العيون، وعذوبة الأنهار،
وتغنى لنا بالشعر الفصيح والشعبي، وحدَّد لنا قواعد اللغةِ والأدب، الذي تسير عليه تلك الشعوب والأمم، وأخرج لنا من كل منطقةٍ أعلامها، وروادها، ومؤثريها، وقاماتها العلمية والتاريخية والأدبية والشعرية، ودلفنا معه إلى كثير من المناطق ووضح لنا المعالم الدينية، وأطلعنا على كثيرٍ من الوثائق القديمة والحديثة، ورسم لنا تاريخ البلاد بخرائطها، وحدد حدودها، ليأصل فيها الانتماء الوطني، والحسَّ المجتمعي، والاهتمام العلمي، والتزوُّد المعرفي، والبحث التاريخي الأصيل،
وحثنا على البحث والاستقراء، وحذرنا من التكاسل والدعة، وكثرة الفراغ المقيت، وختم لنا هذه الرحلة الطويلة التي تقع في (29 مجلداً) بالصور الفوتوغرافية المعبِّرة، والجميلة، التي التقطها بعدسته، ليعيد للنفس سرورها وأنسها.
كتبه
عيسى بن سليمان الفيفي
15 / 5 / 1445هـ
رحلة مع د. غيثان بن جريس في كتابه (القول المكتوب في تاريخ الجنوب)
