مقالات

سيرة المهندس: محمد بن موسى احمد الابياتي الفيفي

إعداد الشيخ :عبدالله بن علي قاسم آل طارش الفيفي ـ ابو جمال

سيرة المهندس: محمد بن موسى احمد الابياتي الفيفي

  ما اجمل أن يتخصص الانسان في ما يحبه ويعشقه، ولد وتربى ونشأ في بيئة زراعية، وانغمس في هذه البيئة، ومارس العمل فيها بكل انواعه، كان من طفولته المبكرة يتتبع اباه يحرث ويعزق ويقلع، وكم قام بمساعدته في اشياء كثيرة من ذلك، وكانت اول منطلقاته وخطواته في هذه الحياة، فاستنشق عبق التربة، وروائح الزرع والثمار، إلى أن عشقه وادمنه، وتذوق طعم منتجات مزرعته في مراحل نضجها الأولى، وتعلق قلبه بالأرض وخدمتها والاستفادة منها، وعندما استعرض تخصصات الجامعة ليدرس فيها، لم يستهويه منها غير كلية الزراعة، التي التحق بها بعد أن جرب غيرها، لميوله الداخلي وحبه الكبير في التوسع في معارفه عنها، وبالفعل اطلع من خلال دراسته فيها، على الاصول الصحيحة والقواعد الاساسية في الزراعة، واحبها وزاد عشقه لها، فتوسعت مداركه في علومها، وكل المعارف الجديدة المتعلقة بها، وبعد تخرجه لم يعمل إلا في ما يخدمها، حيث عمل في البنك الزراعي بفيفاء، وتدرج في مراتبه حتى اصبح هو مدير هذا البنك، وكم قام بجولات في عدد من المزارع التابعة لنطاق مسؤوليات عمله، وكم اطلع على كثير من التجارب والتطويرات المتبعة في كثير منها، ثم هو عمل على تطوير قدراته ومعلوماته، بالقراءة والاطلاع وبالتجارب الذاتية والممارسة، وانشأ له مشتلا زراعيا خاصا به بجوار منزله، يطبق فيه كثيرا من التجارب والدراسات والبحوث، وفي استزراع كل جديد والتعرف عليه، من خلال متابعة نموها وخصائصها، ودراسة كل مراحل نموها وآفاتها وما يتعلق بها، وتوج كل ذلك برصد وتسجيل الغطاء النباتي في المحيط من حوله، حيث يقوم بنشاط استكشافي علمي لا يتوقف، منفردا وفي اشتراك مع  مجموعة من المهتمين امثاله، وقد توفر لديهم كما علمت مادة قيمة في هذا المجال، يعملون على اخراجها في موسوعة علمية متكاملة، سيكون لها مردودها الايجابي الكبير، والنفع العام في خدمة العلم والوطن والبشرية، وستكون ولا شك مرجعا علميا مهما بفضل الله وتوفيقه، وعودا على بدأ اقول (ما اجمل أن يتخصص الانسان في ما يحبه ويعشقه)، وفقه الله وسدده، وزاده علما وفضلا وتوفيقا.  

انه المهندس :

محمد بن موسى بن أحمد أسعد جبران يزيد سليمان ال مذهنة الابياتي حفظه الله ووفقه.

والده هو الفاضل موسى بن احمد اسعد آل مذهنة الابياتي حفظه الله، وهو ابن الشيخ القاضي احمد بن اسعد آل مذهنة، على قدر لا باس به من التعليم، فقد عاش يتيما بعد موت والده القاضي رحمه الله، فلم يستفد من علمه وتدريسه، ولكنه تعلم فيما بعد على حسب المتوفر منه حينها، واصبح ملما نسبيا بشيء من القراءة والكتابة، وحفظ بعضا من اجزاء القرآن الكريم، ثم انغمس في الحياة ومشاغلها، وطلب الرزق فيها، وعمل في مهنة اسرته ومجتمعه الاساسية الزراعة، حيث له مزرعة صغيرة خاصة به حول منزله، ثم مارس شيء من التجارة البسيطة، والمحدودة في زمنه، التي تقوم على جلب بعض احتياجات الناس الضرورية، يجوب كغيره من التجار الاسواق في محيطه، داخل المنطقة وخارجها، ليبيع ويشتري في بعض السلع المطلوبة، كالملبوسات والحلي البسيط والاغذية وغيرها، ولم يكن مختصا في نوع معين منها، وكان كثير ما يتردد على مكة المكرمة للحج والعمرة، ويجلب معه منها كثيرا من السلع والبضائع، وبالذات الاقمشة وبعض الحلي المطلوب بكثرة في مجتمعه، ولكن عمله الاساسي والاهم كان في الزراعة، ينشد من كل ذلك الرزق الحلال، وفي تنمية موارده، وفي تحصيل ما يلزم بيته واسرته واولاده من المتطلبات المعيشية، حفظه الله ووفقه.

 وكان في اموره حازما، ويولي تربية اولاده كثيرا من الحرص والعناية، مع فسحة من الحرية حيث لا يفرض على الواحد منهم اتجاها معينا، ولكنه يسعى جاهدا إلى توجيههم وارشادهم، ويحرص على حفظهم في خط مستقيم، وتمسكهم بالصلاح والتقوى والايمان، والمحافظة على أمور دينهم وحسن اخلاقهم، وأن ينالوا قسطا من العلم والترقي فيه، حفظه الله وكتب له اجر ما عمل وقدم.

واما امه فهي الفاضلة نعمة بنت حسين جبران آل معسف الابياتي حفظها الله، ابنة الوجيه الشيخ حسين بن جبران رحمه الله، امرأة حازمة، وربة بيت فاضلة، ومربية ناجحة، اهتمت كثيرا بتربية اولادها، والعناية التامة ببيتها واسرتها، تكدح وتعمل ليلا ونهارا في وظيفتها المتعلقة بتامين الحياة المريحة والمنعمة لكل افراد هذه الاسرة، نموذج للمرأة الكادحة في هذه البيئة، اغدقت عليهم الحنان والرعاية والتوجيه والدعاء، حفظها الله وختم لنا ولها بالإيمان والصلاح.

 ولد لهذين الفاضلين في بيتهما البوادح، وسط بقعة العذر من الجبل الاعلى من فيفاء، في 1/7/1380هـ، وكان ترتيبه بين اخوانه في الولادة الثالث، فتربى في هذه الاسرة وبين هذين الفاضلين، الذين تعاهداه واخوانه بالرعاية التامة، ونشئاهم على الاخلاق الفاضلة، والتربية المثالية الراقية، وكان من مقومات محيط البيت وجود المسجد في فنائه، الذي كان احد اساسيات حياتهم واعمدة تربيتهم، وارتبطوا به والفوه وتعودوا التردد عليه، واداء العبادة لله وقراءة القران الكريم فيه.

 كانت حياة الناس في هذا الماضي القريب بسيطة، تسير على روتين ونهج معين، على بقايا مما ورثوه من ماض عريق وتليد، والناس قريبون من بعضهم لظروف حياتهم الصعبة، يعيشون في مجتمعات ريفية بدائية، يغلب على أهلها الطيبة والمحبة والألفة والتواصل، متراحمين متواصلين، يصف شيئا من ذلك بقوله (كنا نطوف صغارا معظم بيوت بقعة العذر، بمناسبة وغير مناسبة، فالجميع مجتمع متقارب متحاب)، ويذكر جيرانا سكنوا بينهم لفترات من خارج مجتمع البقعة، ومنهم المعلم الفقيه عبدالله بن شريف حسن العبدلي رحمه الله، الذي سكن لفترة حينها في بيت العذر، الذي عرفت به كامل البقعة (بقعة العذر)، وهو احد بيوت اسرتهم اهل البوادح من آل مذهنة، وكان هذا المعلم في ذلك الوقت يعلم القران الكريم، ومبادئ القراءة والكتابة، في معلامة تحت شجرة إبراية (جميز) في نيد الدارة، ويذكر ايضا من جيرانهم الأستاذ الفلسطيني مطيع عاشور رحمه الله، المعلم حينها في المدرسة الابتدائية الاولى بالنفيعة، وقد تزوج من فيفاء وسكن فيها لسنوات عديدة، واستقر بعض الوقت في بيت (العَزْوَرْيَة) المعروف من بيوت آل مغوي، ولذلك هو عاش في هذا المجتمع المتقارب، وتربى من صغره على محبة الناس، وفي التعايش مع الجميع، وفي تقبل كل احد وعدم التنكر للغريب.

 ولما كانت مهنة الناس تعتمد في الغالب على الزراعة، التي تتناسب مع بيئتهم وارضهم، وتوارثوها من ازمنة موغلة في القدم، فهي مهنة صعبة وتحتاج إلى كثير من الصبر والتحمل، واكثر ما يعانيه المزارع هو عند انقطاع الامطار، أو تأخر نزولها عن اوانها، فتتأثر بذلك كل حياتهم، لأنها تصيبهم في مقتل كما يقال، مما يضطرهم احيانا إلى البحث عن البدائل، وبعضهم يجبر على الانتجاع إلى اماكن افضل، تتوفر فيها المياه وفيها المراعي لدوابهم، التي يعتمدون عليها بشكل مباشر في رزقهم ومعاشهم، ومما يذكره عن هذا الجانب في صغره المبكر قبل الدراسة، عندما ضرب الجفاف معظم جبال فيفاء، وعان الناس كثيرا من شح المياه وندرتها، حتى كانوا يجلبونها من اودية جورا وضمد، تحضرها النساء بالقرب فوق ظهورهن لساعات طويلة، فلما طال الوقت وزادت المشقة، حتى لم يعد بمقدورهم تأمين مياه الشرب، أو في توفير علف لحيواناتهم، وبالذات البقر التي يدور عليها معظم معاشهم، ومنها الغذاء للجميع صغارا وكبارا، ولذلك اضطر الاب في البحث عن بعض الحلول، إلى أن قرر الانتقال بكامل أسرته إلى مكان انسب، فاستحسن الانتجاع إلى بقعة الرجيف، الواقعة في سهل جبل آل الثويع، فهي قريبة نسبيا من وادي غيلان، حيث وجد له سكن في بيت هناك يسمى (البُقْعَـة)، بيت صغير لا يتجاوز الغرفتين، وملحق به صغير في الخارج اتخذوه مطبخا، فخصصوا احدى الغرف للبقرة التي كانت عماد معيشتهم، ومعها عدد بسيط من النعاج، واستوعبت الغرفة الاخرى بقية افراد الاسرة، وكانت جميع هذه الغرف دون أبواب، انما يسدون ابوابها عند النوم ببعض العيدان والأشجار الشائكة، لتمنع عنهم الضباع والحيوانات المفترسة، وتملكوا حمارا لنقل أغراضهم، وكلبا للحراسة عند البيت، ولصد القرود عن المزرعة التي منحهم اياها صاحب البيت، اعطاهم جزءا منها شِـرْكا، لهم نصف غلتها وله النصف الاخر، واعطاهم جزءا آخر (بِـرْزا)، أي لهم جميع غلته، فاشتغلوا فيها جميع أفراد الأسرة، كعادتهم متعاونين في كل امورهم وشؤون حياتهم، الكل يعمل فيما يناسب سنه وقدراته، ولما كان حينها صغيرا فقد كانت مهمته حراسة المزرعة من القرود، ويستعين على هذه المهمة بالكلب، فيبقى طول النهار يراقب من (المِحْـمَايَة)، مكان مشرف على جميع المزرعة، وسارت معهم الامور على خير ما يرام، فقد اثمر عملهم وجهدهم، وانتجت المزرعة محصولا وفيرا، امتلئ بفضل الله بيتهم بحبوب الدخن والغرب، مما فضل عن نصيب صاحب المزرعة.

  وعاشوا في هذا المكان بين جيران في غاية الكرم والمروءة، واستمروا لما يقارب العام، حتى نزلت الامطار بفضل الله على منطقتهم، وعم الخير ديارهم، وقرروا حينها العودة إلى منزلهم الاصلي، فالمزارع حينها يتعب ويكدح، فهي المصدر الوحيد للرزق امامهم، ويتكرر المشهد السابق كثيرا في ذلك الزمن، لأنه لا يوجد امامهم خيارات اخرى كما هو الحال اليوم، حيث يذكر واقعة مماثلة حدثت لهم بعد سنوات، وهو يدرس حينها في الصف الخامس الابتدائي، اضطرتهم إلى الانتقال مرة اخرى من بيتهم، والاستقرار في جهة الحليحل في اعلى جوة آل سلمان، وسكنوا في بيت (الجَمِيْمَة)، بجوار مسجد جامع الحليحل، ومن عجائب القدر كما يقول، أنه سبق وسكن في هذا البيت جده القاضي أحمد بن أسعد رحمه الله، في حالة مشابهة لما هم عليه اليوم، فبعد أن اجدبت ارضهم انتقل القاضي إلى بعض معارفه في وادي الجنية ببني مالك، ولما علم به الشيخ مسعود بن أحمد الخسافي (صاحب الحليحل)، طلب منه الانتقال إلى جواره، واعاره بيت الجميمة ومزرعته، ليسكن فيه ويستصلح هذه المزرعة، وكان امامهم في الصلوات، وخطيبهم في صلاة الجمعة في جامع (الجميمة)، بل ومن العجائب أن القاضي استشهد فيما بعد بسنوات داخل هذا المسجد، رحمه الله وغفر له.

    سكنوا هم في هذا البيت (الجميمة)، وكان بيت كبير من جزأين، مربع ودائري متلاصقين، وله فناء واسع، واعطاهم صاحبه جزءا من مزرعته، يستفيدون من كامل محصولها، و جزءا آخر يكون لهم نصف محصولها وله النصف الاخر، وارتاحوا في هذا البيت وفي هذا الجوار الطيب، وبتوفر الماء لهم في بير الحليحل المجاور، أو من بير (سالم بن شريف الشراحيلي)، القريب في وادي الجوة، ولم يتأثر إلا هو لاضطراره للانقطاع عن المدرسة طوال العام، فقد ابتعد عنها كثيرا، ولا يستطيع الوصول اليها من هذا المكان،  ولكنه كعادته عمل عضوا مساعدا في أعمال البيت والمزرعة، واحيانا يكلف بالذهاب إلى سوق الداير لجلب بعض الاحتياجات الضرورية، واستقروا في هذا المكان إلى أن انزاحت الغمة، بعد ما يقارب العام، ثم عادوا من جديد إلى بيتهم، واستأنف دراسته من جديد.

  وقد توسعنا في هذا الجانب، لنبين صعوبة حياة الناس المعيشية حينها، وإنها لم تكن سهلة ولا ميسورة، وكل هذه العوامل لا شك صقلت شخصيته، وتعلم منها الكثير والكثير، بل وقد يكون لها الدور الاكبر في عشقه للزراعة.

  تعليمه:

  أول ما بلغ السن المناسبة للدراسة، الحقه والده بمعلامة الشيخ عبدالله بن شريف العبدلي رحمه الله، التي افتتحها في نيد الدارة، تحت شجرة ظليلة (جميزة) كانت في موقع مبنى الشرطة اليوم، درس فيها القرآن الكريم والقراءة والكتابة، اثناء عطلة المدرسة الابتدائية الصيفية، وكانت الكتابة (كما يذكر) تتم على لوح صغير من الخشب، مصبوغ بالأسود، والقلم قطعة مستطيلة من قصب الرَّيَـع، مبرية الرأس كالريشة، واما الدواة فهي خليط من مادة النورة الابيض ينقع في شيء من القطن، واداته ثمرة من شجرة تسمى الفجاج (العنقب)، ثمرة خشبية صلبة تقطع من الرأس ثم يفرغ اللب من داخلها، ثم تستعمل لحفظ مادة النورة السائلة، وللمعلومية فهذه الشجرة (الفجاج) شبه منقرضة من فيفاء، بل ولم يعد لها وجود في جميع انحاء المملكة، سوى شجرة واحدة في فيفاء، يسعى وبعض متعاونين معه من اهل الاختصاص إلى استعادة استزراعها.

  لم يبقى طويلا في هذه المدرسة، فهي مؤقتة لفترة الصيف فقط، لذلك ما إن بدأ العام الدراسي حتى سجله والده في مدرسة فيفاء الابتدائية بالنفيعة، وقد سبقه اخوه الاكبر علي رحمه الله في الالتحاق بهذه المدرسة، وكانت هي المدرسة الوحيدة حينها في فيفاء، ومعظم معلميها من المتعاقدين، من الجنسية الفلسطينية والاردنية، وكانوا جفاة في تعاملهم مع الطلاب، فيهم الغلظة الشديدة، والبعد عن اساليب التربية السليمة، ويكثرون استخدام الضرب المبرح، على اتفه سبب من دون رحمة، وعلى ما يبدو انه كان الاسلوب السائد في التربية في ذلك التاريخ وما سبقه, والامور في بداياتها الصعبة، حتى أن الطلاب كانوا يجلسون على الارضيات مباشرة، يفترشون ما يسمى بالحنابل، وقد تأقلم مع الدراسة وجد واجتهد، فكان يحقق النجاح في نهاية كل عام، ولما نجح من الصف الرابع وانتقل إلى الصف الخامس، لم يستطع مواصلة دراسته ذلك العام كما المحنا سابقا؛ لأن اسرته انتقلت إلى جهة الجوة (الحليحل)، بسبب انقطاع الامطار عن معظم فيفاء، وجفاف الابار وانعدام الكلأ للأبقار، وكانت مسافة بعيدة جدا لا يستطع الحضور للمدرسة منها، حيث حاول جاهدا لأسابيع فصعب عليه ولم يستطع المواصلة، فغاب بعدها نهائيا عن المدرسة، حتى يقول أنه في احد الليالي سمعوا من ينادي على أبيه، فلما صعد فوق سطح البيت ليسمع من المنادي، إذ هو احد جيرانهم يبلغه بما سمعه من اخرين في اعلى الجبل، يبلغونه برسالة صوتية من مدير المدرسة، الاستاذ علي بن فرحان رحمه الله، يطلب منه ضرورة حضور ولده إلى المدرسة غدا، لأن هناك مفتشين من ادارة التعليم في جيزان سيحضرون للمدرسة، ولكنه لم يستطع الحضور لبعد المسافة، وانقطع ذلك العام نهائيا عنها.

 مع انتهاء سبب انتجاعهم عن بيتهم، وعودة الحياة الى طبيعتها بنزول الامطار وانتهاء الجفاف، عادة الاسرة إلى منزلها من جديد، واستأنف هو دراسته مع بداية العام الدراسي، طالبا في الصف الخامس، ووجد زملائه قد تجاوزه وهم في الصف السادس، ومع ذلك فقد ساير الوضع وسعى إلى تعويض ما فاته، وسارت به الايام على خير ما يرام، فنجح في نهاية العام بتفوق،  وكذلك الحال في العام التالي له في الصف السادس، نهاية المرحلة الابتدائية، التي تعتبر حينها ذات قيمة عالية، بسبب قلة التعليم، وفشو الامية بين معظم الناس، ولأهميتها كانت تعقد اختباراتها امام لجنة خاصة في صبيا، وترد أسالتها من الوزارة في الرياض، وكان الطلاب يحضرون إلى هذه اللجنة حسب موعدها، ومما يذكره عن ذلك الحدث الذي لا ينساه، انهم عند قرب موعد الاختبارات، نزل جميع طلاب الصف السادس من الجبل، والتقوا في سوق عيبان، السوق الاسبوعي في يوم الخميس، وكان السوق اقرب نقطة تصل إليها السيارات، ولا تتوفر إلا في يوم السوق، وركبوا في احدى السيارات (شاص)، وكانت بالنسبة له أول مرة في حياته يركبها، وتحركت بهم السيارة بعد الغداء، في طريق ترابي وعر صعب المسالك، يتبع السائق فيها الاماكن السهلة، في بطون الاودية وعلى حواف التلال المجاورة، فتضاعف عليهم التعب، بعد أن انهكهم السير من الصباح نزولا من الجبل، وزاد الامر بطول الانتظار للسيارة تحت اشعة الشمس الحارقة في عيبان، وزادت اوجاعهم مع هذه الحركات العنيفة، والاهتزازات الشديدة داخل هذه السيارة، والغبار المتصاعد من حولهم من كل الجوانب، حتى أنهم ينفضون أكوامه من على ملابسهم، مما جعل احواله صعبة، واشتد عليه الإرهاق والتعب، إلى أن اصابه الغثيان الشديد، وذرعه القيئ حتى لم يستطع صده، واستمر به الحال وزادت معاناته طول المسافة، إلى أن وصلوا صبيا، بعد اكثر من اربع ساعات، انقطع فيها حيله وضاقت عليه نفسه، ولم يصدق أنهم قد وصلوا سالمين إلى مبتغاهم بعد كل هذا العناء.

   وفي صبيا استأجروا لهم سكنا بسيطا، عبارة عن عشة لدى المعزبة (عَمْرِيَة)، وكان هو السكن الوحيد المتوفر طيلة فترة بقائهم للاختبارات، لأنه لا يوجد افضل منها في تلك الفترة، وكان المحيط من حولهم يعج بالناس من كل مكان، فلم يكن جوا مناسبا للمذاكرة ومراجعة الدروس، كانوا ينطلقون في الصباح الى قاعات الاختبارات، المخصصة في احد المدارس القريبة، وقد تلقوا كثيرا من التنبيهات التوصيات بأخذ الحيطة، والتمسك بالانضباط داخل القاعة، وعدم الالتفات وكثرة الحركة، وأن عليهم أن ينقلوا صورة جميلة عن مجتمعهم وعن مدرستهم، فيقول (كنا نجلس في صالة الاختبار وكأن على رؤوسنا الطير، لا نكاد نتحرك او نتلفت)، وساروا على هذا النهج طوال أيام الاختبارات، فإذا ما انهوا الاختبار عادوا مباشرة إلى سكنهم، وكانت حياة قاسية صعبة، وحر شديد لم يتعودوا عليه، ولا يتوفر لهم ما يخففه عنهم، فلا يوجد مكيفات ولا مراوح.

   كانوا حينها مجموعة لا باس بها، يذكر منهم (فرحان بن شريف الخسافي، وفرحان بن يحيى الخسافي، وموسى بن مصلح الأبياتي، وموسى بن حسن الداثري، وموسى بن حسن المثيبي، وأحمد بن يحيى العبدلي، وحسين بن يحيى الخسافي، وسالم بن يحيى الظلمي، ومحمد بن سليمان العمري، ومحمد بن مسعود الخسافي، ومسعود بن سالم الظلمي) رحم الله من مات منهم وحفظ بحفظه الباقين، ولم يصدقوا أن انتهت هذه الاختبارات ليعودوا مباشرة إلى فيفاء، وبنفس الطريق والطريقة التي حضروا بها، ولكن مشاعر الفرح والسرور كانت تغمرهم، وقد اعقب ذلك انتظار مرهق لإعلان النتائج، التي كانت تذاع حينها من الإذاعة الرسمية، وقد جاءت بحمد الله مبشرة بالخير، حيث نجحوا جميعهم، وعمت الفرحة كامل المجتمع من حولهم، حتى أن كثيرا من الناس اطلقوا الأعيرة النارية ابتهاجا بهم، وتعبيرا عن فرحتهم الغامرة بما تحقق لهم.

   مع بداية العام الجديد التحق بالمرحلة المتوسطة، التي احدثت في ذلك العام، مشتركة في مبنى المدرسة الابتدائية، وفي هذه المرحلة تغيرت بهم الظروف إلى الافضل، عندما تسنم قيادة المدرسة في ذلك الوقت الأستاذ الأديب حسن بن فرح رحمه الله، وكان حينها في قمة العطاء والنشاط والتجديد، حتى أنه قاد كامل المجتمع من خلال هذه المدرسة، واستقطبهم من خلال ما يقدمه طلابها من الانشطة المتعددة، من مسابقات وانشطة واحتفالات موسمية، وتغيرت بذلك كثير من المفاهيم والافكار في المجتمع إلى الافضل، وصححت كثير من السلبيات المتراكمة، وهولاء الطلاب كانوا محور هذه العملية أو معظمها، وكانوا على قدر كبير من الابداع والفهم والوطنية الصادقة، ولا شك أن لقيادة المدرسة الدور الاكبر في توجيه الدفة لكل اصلاح، فشاعة الجودة والنقلة التنافسية، وارتفع التميز في العملية التعليمية في فيفاء بكاملها.

  انسجم هو بكل ما تعنيه الكلمة في هذه المدرسة، وحصّل النجاح والتفوق المطرد في نهاية كل عام، يتنقل فيها من فصل إلى آخر كل عام، إلى أن أكمل المرحلة المتوسطة بنجاح، وتم له ولزملائه بفضل الله وتوفيقه في نهاية هذه المرحلة، بشرى افتتاح أول مدرسة ثانوية في فيفاء، حيث تم الموافقة على فتحها استثناء، بناء على جهود الاستاذ حسن بن فرح رحمه الله، وتعاون خاص من ادارة التعليم بجازان، بقيادة مديرها الاستاذ محمد بن سالم العطاس حفظه الله، (لأنه لم يكن ينطبق عليها ضوابط الفتح حينها) وكان هو وزملائه من اوائل طلابها، لذلك لم يضطروا بتوفيق الله إلى الاغتراب كمن سبقهم من الاجيال، بل  واصلوا دراستهم في هذه المرحلة بين اهاليهم، وسار هو على نفس نهجه السابق من الجد والاجتهاد، إلى أن تخرج بتوفيق الله من هذه المرحلة، في نهاية العام الدراسي 1399/1400هـ ، وهو يحمل شهادة الثانوية العامة (علمي).

الدراسة الجامعية:

 ما إن حصل على الشهادة الثانوية حتى تطلعت نفسه إلى مواصلة دراسته الجامعية التخصصية، وكانت فرص الدراسة الجامعية حينها محدودة، انما توجد في بعض المناطق الكبيرة، فاتجه إلى مدينة الرياض، و تقدم فيها لطلب القبول في جامعة الملك سعود، ولم تكن لديه الخلفية الكاملة عن التخصصات ولا حتى عن الكليات، كمعظم الطلاب المستجدين في تلك الازمنة، وبعضهم ما زال إلى اليوم، فالكثير يجهلون الاقسام والتخصصات، وانظمة الجامعات، فالتحق تبعا لبعض رفقائه في كلية العلوم، وتخصص في قسم النبات، وتم قبوله وابتدأت الدراسة مع بداية العام الجامعي، ولكنه مع انتهاء الفصل الدراسي الأول منها، شعر بعدما الانسجام مع هذا التخصص، وكانت حينها قد توسعت دائرة معارفه، وتعرف نسبيا على بقية الكليات واقسام الجامعة، واكتشف أن ضالته في كلية الزراعة، ودون تردد سارع لطلب التحويل إليها، ولما كان من شروط القبول فيها، اجتياز دورة في اللغة الإنجليزية، لمدة فصل دراسي في مركز اللغات الأوروبية والترجمة، فقد بادر إلى استكمل هذا الشرط، وتم انتقاله بعدها طالبا في كلية الزراعة، تخصص قسم البساتين، واستأنف حينها مسيرته من جديد، ولكن في مجال يميل إليه ويرغبه، بعد أن ضحى بعام دراسي كامل لنقص المعلومة لديه، ولكنه الان شعر بالارتياح التام، ولم يلتفت إلى ما فات من الوقت، في سبيل ما تحقق له بعدها من النتائج، بل بالعكس وجد خلال هذه التجربة كثيرا من المكاسب، والفوائد الجمة التي اضافها إلى رصيده المعرفي والفكري، وسارت معه الامور بعدها كما يحب ويرضى، ولم يعكرها إلا صعوبة الوصول إلى مقر الكلية، حيث كان موقعها في حي عليشة داخل المدينة، وسكن الطلاب على طريق الدرعية، ولكنها تسهلت مع توفر حافلات نقل الطلاب ذهابا وايابا، ووجد كثيرا من اللذة في دراسته التي وافقت ميوله وطموحه، ومضت به الشهور والاعوام وهو يترقى في دراسته، ويتفوق فيها فصلا بعد آخر، وانقضت السنين عجلى، وهو في صعود وترقي، إلى أن تخرج بتوفيق الله في نهاية الفصل الدراسي الأول عام 1406هـ، حاملا شهادة البكالوريوس في الزراعة تخصص البساتين.

  والتحق بعدها مباشرة بالعمل الوظيفي، باحثا زراعيا في البنك الزراعي، وما إن انقضى العام الأول في هذا العمل المتوافق مع تخصصه، حتى تم الحاقه مع بعض زملائه في العمل، في بعثة متخصصة إلى جامعة أريزونا في الولايات المتحدة الأمريكية، تلقوا فيها برنامجا عن البنوك الزراعية، وكذلك دورة في شركة الأنابيب الوطنية.

     وفي ما بعد وعلى مدى سنوات خدماته الوظيفية، التحق بالعديد من الدورات والبرامج التطويرية، بلغت ما يقارب ست وثلاثين دورة، في مجالات مختلفة في تخصص عمله، وفي الجوانب الادارية والتنظيمية، تلقاها في معهد الإدارة العامة، وفي معهد الخليج للتدريب، ومعهد نيوهورايزون، وبعض الدورات التي تقيمها وزارة الزراعة، وحضر ايضا كثيرا من الندوات وورش العمل، المتخصصة في المجال الزراعي، وهذه الدورات والبرامج باختصار هي :

  1. دورة الحاسب الآلي والمستفيدين، معهد الإدارة العامة في 6/10/1411هـ .
  2. دورة تنمية المهارات الاشرافية، معهد الإدارة العامة في 4/6/1413هـ .
  3. دورة تقويم الأداء الوظيفي، معهد الإدارة العامة في 6/11/1420هـ.
  4. دورة تنمية مهارات التنظيم، معهد الإدارة العامة في 16/1/1423هـ .
  5. دورة جمع وتبويب البيانات الإحصائية، معهد الإدارة العامة في 6/10/1424هـ .
  6. دورة تطبيقات الحاسب الآلي في الأعمال المكتبية، معهد نيوهورايزون في الرياض، بتاريخ  31/3/2007م.
  7. دورة اعداد التقارير، في معهد الادارة العامة في 18/4/1428هـ.
  8. دورة تنظيم وثائق المكتب، معهد الإدارة العامة في 2/5/1428هـ .
  9. دورة البريد الالكتروني والإنترنت في المكتب، في معهد الإدارة العامة في 18/10/1428هـ.
  10. دورة العرض والتقديم باستخدام الحاسب الآلي، معهد الإدارة العامة في 14/11/1428هـ.
  11. دورة خاصة في صلاحيات نظام القروض، والنظام المالي، وشؤون الموظفين، شركة النظم الالكترونية في 6/1/1430هـ .
  12. دورة صلاحيات نظام القروض الزراعية، صندوق التنمية الزراعية في 6/1/1430 هـ.
  13. دورة تنظيم المواعيد وجدولة المهام بالحاسب الآلي، معهد الإدارة العامة في 25/2/1430هـ.
  14. دورة مقدمة في برنامج SPSS ، معهد الإدارة العامة في 21/10/1430 هـ.
  15. دورة المؤشرات الإحصائية الوصفية، معهد الإدارة العامة في 5/11/1430هـ.
  16. دورة الارقام القياسية، معهد الادارة العامة في 2/1/1431هـ.
  17. دورة العرض والتقديم باستخدام الحاسب الآلي، معهد الإدارة العامة في 15/2/1431هـ.
  18. دورة استكشاف ومكافحة الجراد الصحراوي، مركز ابحاث الجراد بجدة في 17/5/1431هـ.
  19. دورة الانحدار الخطي، معهد الإدارة العامة في 16/3/1432هـ.
  20. دورة المعاينة الإحصائية، معهد الإدارة العامة في 18/6/1432 هـ
  21. دورة إدارة الوقت، معهد الادارة العامة في 6/2/1433هـ.
  22. دورة إدارة الاجتماعات، معهد الادارة العامة في 28/10/1433هـ.
  23. دورة تقييم دراسات الجدوى للمشاريع, معهد الإدارة العامــة في 29/5/1435هـ .
  24. دورة التعامل مع الآخرين في بيئة العمل، معهد الطويل في 17/8/1435هـ .
  25. دورة حل المشكلات واتخاذ القرارات، معهد الطويل في 5/11/1435هـ .
  26. دورة إعداد دراسات الجدوى الاقتصادية للسوق، معهد الإدارة العامة في 2/1/1436هـ.
  27. دورة المهارات المتقدمة في إعداد التقارير، معهد الطويل في 9/1/1436 هـ.
  28. دورة تقويم الأداء الوظيفي، معهد الطويل في 3/11/1436هـ .
  29. دورة التعامل مع الآخرين في بيئة العمل، معهد الخليج للتدريب في 15/11/1436هـ.
  30. دورة الاستثمار الفعال للوقت، معهد الخليجي في 12/1/1437هـ.
  31. دورة إعداد دراسات الجدوى الاقتصادية، معهد الادارة العامة في 1/8/1437هـ.
  32. دورة إدارة البنوك، معهد البنوك الأمريكية بالرياض في 16/1/2018م.
  33. دورة أساسيات صناعة الاستزراع المائي، المجموعة الوطنية للاستزراع المائي في محافظة الليث في 18/2/2018م.
  34. دورة التحليل القانوني للقرارات الإدارية، معهد الإدارة العامة في 11/1/1439 هـ
  35. دورة توزيع العمل، معهد الإدارة العامة في 18/5/1438 هـ
  36. دورة إدارة المعلومات الشخصية ((Outlook، معهد الإدارة العامة في 5/2/1439هـ.

العمل الوظيفي:

   بعد تخرجه مع نهاية الفصل الدراسي الأول في عام 1406هـ، لم ينتظر حضور حفل التخرج، بل بادر إلى تقديم أوراقه لطلب التوظيف، وتم قبوله حسب تخصصه باحثا زراعيا على المرتبة السابعة، في مكتب البنك الزراعي، وتم توجيهه للعمل في البنك الزراعي بفيفاء، الذي باشر فيه من تاريخ 23/5/1406هـ ، وكان حينها هو الباحث الزراعي السعودي الوحيد بالمكتب، وكان مدير المكتب في ذلك الوقت الاستاذ عبدالله بن موسى الحازمي رحمه الله، ومدير فرع البنك الزراعي بجازان الاستاذ حسن بن علي الحازمي، وبعد أن امضى سنة كاملة في هذا العمل، تم الحاقه وبعض زملائه من مختلف فروع ومكاتب البنوك في مناطق المملكة، في دورة خارجية متخصصة، في الولايات المتحدة الامريكية جامعة أريزونا، وعاد بعد نهايتها إلى ممارسة نفس عمله السابق في البنك، ولم يلبث طويلا حتى انتقل مدير المكتب الاستاذ الحازمي إلى مدينة صبيا، فتم تكليفه بالعمل مديرا بدلا عنه، واستمر يؤدي عمله هذا بكل تفان واجتهاد، إلى أن تمت ترقيته في عام 1414هـ على المرتبة الثامنة، في البنك الزراعي في مدينة تبوك، ولكنه تردد في البداية وبقي حائرا، هل يقبل بهذه الترقية أم يرفضها، لأسباب منها بعد المسافة، وأنه سيفارق والديه وأهله وأولاده، ولكنه في النهائية حزم امره وعزم على القبول، بعد سماح والديه واهله وتشجيعهم له، لكون هذه الترقية قد تأخرت عليه كثيرا، فقد مضى عليه في مرتبته السابعة اكثر من ثمان سنوات، ولا يدري هل تأتي الترقية مرة اخرى ومتى إذا ما رفضها الان، وان اتت اين سيكون مقرها، فلذلك لم يكن أمامه خيار إلا القبول بها، حيث اتجه لتبوك للمباشرة على هذه الترقية، وفيها تمسكوا بها ولم يخلوا طرفه لكي يعود، مما اضطره إلى البقاء لديهم لمدة سنة كاملة، التي يشترطها نظام الترقيات، ومع أنه عان كثيرا طوال هذه العام، ولكنه عدى بسلام، ولم يخلو الامر من المكاسب المتعددة، ومنها التعرف على اناس جدد، واماكن وخبرات مختلفة، وعاد بعدها من جديد إلى مكتب البنك الزراعي بفيفاء، الذي اعيد تكليفه مرة اخرى بإدارته، وبقي فيه من بعدها لم يغادره نهائيا، إلى أن بلغ سن التقاعد النظامي المقرر، في تاريخ 1/1/1440هـ، بعد خدمة استمرت ثلاث وثلاثين سنة ونصف، قائما بأعمال مدير البنك، وكان مسمى وظيفته كبير أخصائيين زراعيين، على المرتبة الثانية عشرة، وفقه الله واجزل له المثوبة والاجر.

  وعمل خلال هذه الفترة جاهدا على الارتقاء بالعمل، وفي تسهيل امور الناس، وتوسيع خدمات البنك، حيث استطاع بتوفيق الله ضم عدة مناطق شملتها هذه الخدمات، ومنها جبال الحشر وآل تليد، التابعة لمحافظة الداير، ومحافظة العيدابي، والمراكز التابعة لها، ومركز القصبة، التابع لمحافظة العارضة، وكان يسعى دوما إلى اغتنام كل فرصة تتاح له، للعمل على نقل معاناة الناس وتطلعاتهم، وإيصالها إلى من بيدهم الحل والعقد فيما يتعلق بخدمات هذا البنك، والاجتهاد في شرح ظروف المنطقة واختلافها عن كثير من مناطق المملكة، بسبب طبيعة ارضها الجبلية وتضاريسها الصعبة، وايجاد الحلول المناسبة لكل ما يعترض من اشكاليات، وبالذات في بعض ما يقره مجلس إدارة صندوق التنمية الزراعية من أنظمة الجديدة، فيسعى إلى مخاطبة المسؤولين في الصندوق بما يراه مناسبا، وفي البحث عن الحلول الملائمة لها، وكمثال عندما الغيت القروض على المدرجات الجبلية، قام باجتهاد شخصي في اعداد عرض لخادم الحرمين الشريفين، وحضر به إلى احدى اجتماعات المشايخ مع محافظ فيفاء، وبعد أن شرح لهم المشكلة، وعرض عليهم ما قد اعده في هذا الشأن، سارعوا إلى توقيع هذا المعروض شاكرين له ومقدرين، وبعد رفعه لولاة الأمر، تمت الموافقة على إعادة القروض إلى ما كانت عليه، وفي الاكتفاء بالوثائق المؤقتة دون اشتراط الصكوك، وكذلك الحال عندما قيدت القروض بشرط أن لا تقل مساحة المزرعة عن (15000م 2)، وبعد تنسيقه مع المشايخ لرفع شكوى لمدير عام الصندوق، الغي هذا الشرط ومنحت القروض على أي مساحة مناسبة، وهذا سهل كثيرا على الناس في الاستفادة من البنك وخدماته.

     ومن بعض المعوقات التي سعى جاهد لتذليلها، عندما تمت موافقة مدير عام البنك الزراعي، على اقتراح هيئة تطوير وتعمير فيفاء، في وجوب التنسيق التام بينهما، وأن لا يخرج باحث زراعي من البنك إلا ومعه باحث زراعي من الهيئة، وهذا الاجراء عقد عمل البنك، وتسبب في تأخير وتعطيل مصالح المزارعين، لأن المواعيد التي يضعونها في الهيئة بعيدة جدا، فلديهم كثير من الاعمال خلاف ما يشاركون به البنك، ثم لا يكون لهم دور في خروجهم مع الباحث الزراعي، ولذلك عندما رحل صاحب هذا المقترح من الهيئة، وحل محله آخر اكثر تفهما ومرونة، قام بزيارته وشرح له بإسهاب ما يترتب على هذا الاجراء من معوقات، وأنه لا يوجد حاجة من الاساس في التنسيق بينهما، لأن لكل من الجهتين اختصاصها وانظمتها، فاقتنع بما سمع، وطلب منه أن يكتب له ذلك بشكل رسمي، وبناء عليه تم الغاء هذا الارتباط، ولكنه ما إن ابلغ بذلك مرجعه، ورفع من قبلهم إلى مدير عام البنك الزراعي، غضب من هذا التصرف، وتسأل لماذا لم يرجع إليه فيه، بصفته هو صاحب قرار الموافقة السابق، وكان المفترض أن لا ينهى الأمر إلا بموافقته شخصيا، ولكنه مضى الامر، وكان اجتهادا منه نافعا، تحقق به عودة المرونة إلى عملهم، والسهولة في اتخاذ الاجراءات دون تقييدهم بطرف آخر لا علاقة له.

   وهناك كثير من الامور تحتاج إلى المعالجة، والسعي إلى البحث عن الحلول لها، وتبسيط الاجراءات فيها، وتسهيل التعامل مع المستفيدين، والحاضر يرى ما لا يراه الغائب، مع عدم تجاوز الصلاحيات المنصوص عليها نظاما، والمسؤول المباشر لا يصل إلى كثير من هذه الاصلاحات إلا بعد اكتسابه للخبرات، وفي ثقته التامة بنفسه وفهمه وقناعة بما يقوم به، والايمان بأن الغاية هي خدمة المواطن بأسهل الطرق، والسعي الجاد لتحقيق رغبة ولاة الامر في هذا الشأن، وانجاز كل ما ينفع المستفيد دون ابطاء أو تعقيد، وعملا بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ( اللهم من ولي من امر امتي شيئا فشق عليهم فأشقق عليه، ومن ولي من امر امتي شيئا فرفق بهم فأرفق به).

   وكطبيعة العمل الميداني، الذي يتطلب من الموظف الخروج من مكتبه، ومباشرته شخصيا الاطلاع على المواقع على الطبيعة، ودراسة معاملاتها على الواقع، والنظر في مدى انطباق شروط الاقراض عليها، وفي هذه الزيارات قد تواجه الباحث كثيرا من المواقف المختلفة، منها ما يكون صعبا ومحرجا، ومنها ما يكون على غير ذلك، وهي في غالبها امور عادية، ينسى معظمها في وقته، وقد يبقى منها شيئا بسيطا يعلق بالذاكرة، ومما يذكره في هذا الصدد، أنه اثناء زيارته لبعض المزارع للكشف عليها، وكان برفقته سائق المكتب (سليمان بن مفرح السلماني)، وهو سائق متمكن وخبير، فيقول عندما اقتربنا من بعض هذه الموقع، طلب منا مرافقين لنا كانا معنا في السيارة النزول، بعد أن اشارا لنا على اتجاه الطريق المؤدي للموقع، ولكن ما إن سرنا قليلا حتى اكتشفنا سبب نزولهما، فالطريق ابتدأ يضيق، ويضطرنا إلى العبور من فوق اخشاب وضعت لتسندها من الجهة الخارجية، التي تمر فوق منحدر سحيق، لا يكاد يرى قعره، ولذا لم يعد امامنا خيار للتراجع إلى الخلف، ولكن الله سلم وحفظنا وتمكنا من العبور إلى الجهة الاخرى، والوصول إلى هذه المزارع، واكملوا عملهم في رسم الكروكيات المطلوبة، وتحديد أماكن إنشاء المدرجات الزراعية عليها، وفي تقدير التكلفة الإجمالية لبنائها، ثم رجعا من نفس الطريق بحفظ الله وتوفيقه، وامثال هذه المواقف كثيرة ومتعددة، ويذكر موقفا شخصيا آخر في جانب مختلف، يدل على براءة الناس وتبسيطهم للأمور، وهي عندما تقدم احد مشايخ القبائل العريقة، يطلب منحه قرضا زراعيا، وكان شخص وقورا كبيرا في السن، ويحظى باحترام وتقدير الجميع، ولكنه لم يكن يتصور أن الاجراءات الرسمية ستطول بهذا الشكل، وأن الامر يحتاج إلى كثير من الاجراءات، من استكمال المعاملة ورفعها للجهات ذات الاختصاص، والانتظار إلى أن يتم الموافقة على صرف المبلغ، وكثر تردده لمتابعتها والسؤال عنها، وعلى ما يبدو أنه كان بحاجة كبيرة إلى صرف المبلغ أو بعض منه، فيقول : (حضر في احد الايام منفعلا، ودخل الى المكتب، وطلب أن يصرف له مبلغ عشرة آلاف ريال في الحال، لأنه كما يقول محتاج الى شراء شعير وأعلاف للمواشي، ولم يجدي معه أي تعليل أو تبرير بأن دراسة القرض لم تنته بعد، وأنه لا يمكنهم صرف هذا المبلغ قبل الموافقة النهائية عليه، وليست لديهم الصلاحيات في ذلك، ولكنه بقي مصرا على تمسكه بطلبه، ولم يقبل منهم أي عذر، فيقول اضطررت حياء من هذا الشيخ، أن اعده بصرف المبلغ الذي طلبه غدا بمشيئة الله، وفي الغد احضرت له المبلغ من مالي الخاص)، وبالطبع استعاده منه عند استلامه كامل قرضه فيما بعد، والقصص كثيرة في هذا الجانب وغيره، لذلك يجب أن يكون الإنسان في موقع المسؤولية حصيفا، ويحسن التصرف في المواقف بما يليق، وأن يتحلى بكثير من الاخلاق وحسن التعامل مع كل الناس، والتصرف في كل الأمور بما يناسبها، وأن يستغل عمله في خدمة الناس ونفعهم وعمل الخير، وذلك هو الذي يبقى له بعد المغادرة، ويخلد له النجاح والثناء والدعاء وحسن الذكر، مع ما يدخر له عند الله سبحانه وتعالى من الثواب والأجر.

   انجز صندوق التنمية الزراعية في محافظة فيفاء في هذه الفترة، كثيرا مما اوكل إليه من خدمات ودراسات، وصرف أكثر من مائة وعشرين مليون ريال، شملت إنشاء وترميم المدرجات الجبلية، وتربية النحل والماشية، وشراء المعدات الزراعية، وحفر الآبار، وبناء سكن العمال، وسيارات النقل المبرد وغيرها، مع أن البنك كان يعاني كثيرا من المواقف السلبية، ويجد المسؤول فيها الحرج الشديد، وبالذات عندما يقوم بعض المستفيدين في المماطلة عند تسديد القروض المستحقة عليهم، مما يتسبب في تراكم كثير من الاقساط الواجب تسديدها، بل إن بعضهم يغضب ويتذمر اذا ما طولب بسدادها، وينظر الى موظف البنك وكأنه يطالبه بشيء خاص به، ولكن وكما اسلفنا لا بد من الصبر والمداراة، وفي التحمل وحسن التصرف، حسب ظروف كل حالة، وهذا حال الناس في كل زمان ومكان، والله المستعان والموفق.

  عمل واجتهد وثابر، وصبر وصابر، وانتهى كل شيء بأوانه، ونسي كل تعب ومعاناة بوقتها، واكتمل ارتباطه على خير ما يؤمل ويرجو، نسال الله له المثوبة والاجر على ما قدم وخدم، وقد نال التقدير والثناء من كثير ممن قدم لهم خدمات البنك، وسهل لهم استكمال اجراءات معاملاتهم، وكان له دور حيوي في مجتمعه من خلال عمله وواجبه الوظيفي، وحصل على العديد من شهادات الشكر والتقدير من كثير من الجهات، ولكن لم يبقى معه منها الا القليل جدا، فلم يحتفظ منها بالكثير، ومن الموجود معه ما يلي:

  • شهادة شكر على المشاركة في المؤتمر والمعرض الدولي السادس لاتحاد النحالين العرب شركات مملكة النحل.
  • شهادة شكر وتقدير على المشاركة في فعاليات مهرجان البن في جبال جازان محافظة الداير.
  • شهادة شكر على المشاركة في المؤتمر الدولي السادس لاتحاد النحالين العرب جامعـــة الملك ســعود في 17/3/2009 م

   ولعشقه الزراعة، وتخصصه فيها، وممارسته الطويلة لكثير منها، كان اكثر ما يستهويه فيها، التعرف على النباتات بجميع انواعها وخواصها، وكان يجد راحة كبيرة كلما غاص في هذا المجال، وقد مارسها كهواية منذ زمن بعيد، وركز خصوصا على النباتات في فيفاء، وهي بيئة نباتية تعتبر من أغنى البيئات النباتية على مستوى المملكة، وقد اجتمع لديه عشرات الآلاف من الصور لهذه النباتات المختلفة، وهو من اوائل من عثر على نبات الشاهي الأزرق، الذي اكتشفه في جهة المخافة من فيفاء، في حوالي عام 1994م، وقام بجمع بذوره حينها، واستنبتها في مشتله الصغير، قبل أن تبلغ شهرتها الافاق في السنوات الاخيرة.

وعمل في التعاون مع بعض الأكاديميين، في تسجيل نبات الأسبيليا  Aspilia kotchyi لأول مرة في المملكة، وهو من نباتات فيفاء النادرة، وأيضا تم تسجيل شجرة التكح Celtis toka العملاقة، وهناك ست نباتات أخرى نادرة، من نباتات فيفاء يتم تسجيلها حاليا لأول مرة في المملكة، وشارك معه في ذلك كل من الاستاذ علي بن احمد سالم العبدلي والاستاذ عيسى بن علي يحيى المخشمي وآخرون، بل هناك بعض النباتات النادرة لم يتم تعريفها إلى الآن، ولإشباع رغبته في المجال الزراعي، وتحقيق طموحه وهوايته، قام على انشاء مشتل صغير بالقرب من منزله، حشاه (كما يقول) بالعديد من الأشجار والأعشاب، وجمع فيه بعض النباتات النادرة، أو المهددة بالانقراض، ويحتوي على أكثر من (45) نوعا من النباتات، وفقه الله وزاده فضلا وعلما ونفع به. 

الحالة الاجتماعية:

زوجته هي الفاضلة حالية بنت حسين أسعد الخسافي، امرأة صالحة ذات خلق ودين، عابدة صوامة قوامة، قارئة للقرآن لا تفتر، وام ومربية فاضلة حازمة، تقوم على راحة زوجها واسرتها وبيتها، وعلى تدبير شؤونهم، وفي متابعة دراسة اولادها ومذاكرتهم وتفوقهم، وفي تربيتهم وتنشئتهم على الدين والأخلاق الفاضلة، حيث رزقا بتسعة من الولد، ثلاثة ابناء وست بنات، هم على النحو التالي :

١- أحلام ماجستير لغة عربية، ودبلوم تربوي، وعدد من الدورات.

٢- عبداللطيف بكالوريوس طب وجراحة.

٣- ريم بكالوريوس تمريض.

٤- سامي بكالوريوس كيمياء.

٥- علي عسكري، يحمل شهادة الثانوية العامة، والعديد من الدورات العسكرية.

٦- سمية طالبة بالجامعة.

٧- بشرى طالبة بالجامعة.

٨- لمى طالبة بالثانوية.

٩- جنى طالبة بالمتوسطة.

حفظهم الله وبارك فيهم، وادام التوفيق لهم، وبارك فيه وفي جهوده ونفع به، وزاده علما وفضلا، نموذج يفخر به ويشد على يديه، انسان عالم عامل، مخلص فيما يؤمن به ويعشقه، نسال الله له دوام التوفيق والسداد، وان يكثر في مجتمعاتنا من امثاله، وان يعينه ويوفقه وينفع به.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

  محبكم/ عبدالله بن علي قاسم آل طارش الفيفي  ـ ابو جمال

                                               الرياض في 1443/5/29هـ

سيرة المهندس: محمد بن موسى احمد الابياتي الفيفي

توقيع الشيخ

 

‫3 تعليقات

  1. ماشاء الله تبارك الله سيره مميزه تليق بمقام حبيبنا المهندس محمد وله الفضل بعد الله في الكثير مما تم اكتشافه وتسجيله عن نباتات واشجار فيفاء وهو اول من عرف وسجل شجرة الشاي الأزرق وغيرها
    بارك فيه وشكرا للاخ العزيز ابو جمال للاشاره لمثل هؤلاء النخبه المميزه من ابناء فيفاء
    والشكر موصول ل صحيفة بصمه المميزه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى