أرض الأجداد وعقوق الأحفاد
الإنسان كائن حي قابل للتعلم إلى حد لا يصدق، وفيه من المشاعر كم هائل لا يملكه أحد غيره من المخلوقات، وهذا سبب اختلاف أذواق الناس وأراءهم وتصرفاتهم، فتجد منهم الجاهل العاقل والمتعلم الجاهل، والمحصلة النهائية أنه ليس العلم ما يحدد عقل الإنسان أو جهله، فكم من عالم لا يعلم عن دينه وأخلاقه شيئاً، وكم من جاهل ذو دين وخلق.
إذاً ففي النهاية أن عقل الإنسان هو المتصرف في معارفه وإدراكه وفهمه، وليس هذا موضوعي، وإنما أردت بهذا تمهيداً لما سوف أتحدث عنه، لأن موضوع الحديث له علاقة بالعقل والعاطفة وحسن التفكير، وليس العلم والفهم فقط.
قد تجلس في مجلس فيبحر الناس بحديثهم فيه كل مسلك، وقد ترسي سفن بعضهم على شاطئ الوطن ومسقط الرأس، فتجد الكل حينها يثني ويمدح، ويذكر كل فضيلة وينافح عن كل صغيرة أو كبيرة قد تكون سلبية في ذلك الوطن؛ هؤلاء هم أكثر الناس، بل كل الناس، إلا أنك قد تجد نزراً يسيراً لا يكاد يذكر يفعل عكس ذلك.
وهذا ما يجعلك تنظر ملياً إلى عالم معقد بتفاعلات هذا الإنسان، فقد يبدو موقفه تجاه وطنه محيراً ومثيراً للجدل، فهو فراد يُظهر مشاعر عدائية شديدة وتذمر مفرط نحو بلده ووطنه، ومسقط رأسه الذي شهد نشأته، وتربيته، وأيام صباه، وسنين طفولته، ففي الغالب أن الأمر يتجاوز مجرد النقد البناء إلى درجة الكره والازدراء، حيث يتحول الوطن في نظر هذا الفرد إلى مجرد مكان للذم والتحقير والازدراء في كل مجلس.
وهنا أقول: ليس الوطن مجرد مكان نعيش فيه حتى وإن تباعدنا عنه وبهرتنا عنه أوطان أخرى، بل هو جزء لا يتجزأ من هويتنا الذاتية والاجتماعية والثقافية التي لا يستطيع الفرد مهما فعل الانسلاخ منها أو تجاهلها، والسبب لأنها هي المشكّلة لفكره الأول، ومشاعره المبكرة، فإذا تصادم معها لن ينفك يدور في حلقة مفرغة لوحده مبعدتاً له عمن حوله ممن يتناقضون معه في الفكرة والرئي، فيمكن لهذه السلبية أن تؤثر بشكل كبير على المحيطين بالشخص المعني، فهؤلاء الأفراد يحاولون غالباً نقل مشاعرهم السلبية إلى الآخرين، مما يؤدي إلى خلق بيئة محبطة وسلبية وتصادمية، ويتم التعبير عن هذا العداء للوطن من خلال التركيز المستمر على السلبيات وتجاهل أي جوانب إيجابية قد تسهم في تحسين صورة الوطن لدى لأخرين.
لكن حتى وإن كان هناك سلبيات كثيرة قد يشير إليها هؤلاء الأفراد؛ وإن لم تكن بتلك الصورة التي يهولونها ويعظمون من شإنها، فإن الوطن يبقى مكاناً غنياً بالتاريخ والثقافة والجمال الطبيعي، فالمناخ، والتضاريس، والبيئة هي جوانب تسهم إسهاماً كبيراً في تحديد هوية الوطن وتعزيز الشعور بالانتماء لدى الأغلبية العظمى ممن ينتمون إلى هذا الوطن، هذه الجوانب الإيجابية غالباً ما تُهمل من قبل من يحملون مشاعر سلبية محبطة، مما يؤدي إلى صورة مشوهة وغير مكتملة.
وعلى كلٍ فمن الضروري التمييز بين النقد البناء والنقد الهدام، النقد البناء يمكن أن يكون أداة للتغيير الإيجابي، حيث يسعى لتحديد النقاط الضعيفة والناقصة بغية تحسينها، أما النقد الهدام فيقود فقط إلى تعميق الفجوات وتوسيع الهوة، وزرع اليأس والإحباط وتنفير الناس عن هذا الوطن.
ثم ما هو الضرر الذي يعود على هذا الفرد؛ حينما يرى كثير من الناس أن الصحيح هو العودة إلى الوطن وعدم تركه وهجره وعقوقه، لا ضرر، لكنه يحاول إخضاع الناس لفكرته التي يرى أنها الفكرة الصائبة، ويزداد الأمر تعقيداً عندما يرى أن ما يقوله للأخرين من مشاعر سلبية هو نصح وتنبيه وتوجيه لهم بأن ما يفعلونه خطر على حياتهم، ومعاشهم، بل قد يقول ودينهم، وأنهم لا يفكرون التفكير الصائب كالذي يفكر به.
وأقول مرة أخرى: النقد يمكن أن يكون صحياً وذو فائدة إذا ما استُخدم للتغيير والتحسين، لكن الكره الأعمى يقود فقط إلى المزيد من الانقسام والألم، ولعله في يوماً ما، يجد هذا الشخص طريقه ليسمو فوق مشاعره السلبية، وينظر إلى وطنه بعيون ترى كل الألوان، وليس فقط الظلال الرمادية التي اختارها لفترة طويلة.
أرض الأجداد وعقوق الأحفاد
محمد بن سالم بن سليمان الفيفي
كلام جميل .. بارك الله فيك