مقالات

الشجعة بجبل الحشر

الشيخ: عبدالله بن علي قاسم آل طارش الفيفي

إنك لا تعرف المكان كما ينبغي، وتلم بجميع جوانبه من خلال زيارة واحدة،  فلا بد من المكث في هذا المكان، والتردد عليه أكثر من مرة، ومخالطة اهله واستقاء المعلومات الموثقة منهم، فمن خلال ذلك تتعرف أكثر وأكثر، وتتكشف لك جوانب لم تتنبه لها من قبل بنفسك، كانت أول زيارة لي إلى مركز الشجعة، بجبل الحشر الذي هو احد مراكز محافظة الدائر، في منطقة جازان، قبل أكثر من أربعين سنة، وبالتحديد في حوالي عام 1403هـ، وكانت هذه الزيارة حينها مجرد نظرة عابرة، واطلالة بسيطة محدودة، من اعالي هذه البقعة، ولكنها كانت في يوم يغلفه الضباب، الذي يحد من الرؤيا بشكل كبير، فلا يتجاوز مدى النظر الامتار المعدودة.

كانت رحلة قصيرة، في رفقة والدي، فضيلة الشيخ القاضي علي بن قاسم الفيفي، قاضي محكمة فيفاء حينها (رحمه الله)، قام بها تلبية لدعوة كريمة من فضيلة الشيخ القاضي علي بن أحمد الفيفي، قاضي محكمة بني مالك حينها (رحمه الله)، عندما كان ينتدب في ذلك الوقت إلى مركز الحشر، لعدة أيام من كل شهر، لإنجاز بعض الأعمال الشرعية والقضايا المهمة فيها، فصحبتهما في هذه الزيارة، بل كنت قائد سيارتهما فيها، كانت الطريق حينها مع بدايات شق الطرق في هذه الجبال، وكانت طرق صعبة جدا ووعرة وشاقة، لمحدودية المعدات، وقلة الإمكانيات والخبرات، في تلك البدايات الأولى، فهي عبارة عن طرق ترابية ضيقة، لا تخضع لأي من معايير السلامة، كانت الرحلة تبدأ من مركز الدائر، تمر عبر وادي جوراء، وتمر بعرق، إلى صدور وادي جوراء، لتصعد منها في ضلوع جبل الحشر، حتى تنفذ مباشرة في الأعلى في نيد المسلم، ويهبط من هناك إلى الأسفل، حتى يصل إلى مستوى النقطة الموجودة الآن في بداية عقبة الصلالة الحديثة، التي تهبط اليوم إلى ريع مصيدة، كانت الطريق تلك صعبة جدا، شديدة الانحدارات، خطرة المنحنيات، لا يوجد فيها أي معايير للسلامة المعتبرة، ولا تقدر على اجتيازها إلا السيارات القوية، رباعية الدفع (التايوتا)، ولا بد أن يكون السائق ماهرا متمرسا، لأنك لا تصل إلى قمتها إلا بعد معاناة كبيرة متناهية الخطورة.

  بعد هذه النقطة في نيد المسلم، تتغلغل بين غابات العرعر، والمدرجات الزراعية، والبيوت المحدودة، ولكن بصعوبة أقل نسبيا من سابقتها، لانبساط الارض وخلوها من العقبات، كان طريقا واحدا ضيقا، ينتهي بك في نهاية ما بعد منطقة مقبورة، التي كان بها السوق الأسبوعي، وفيها مدارس البنين، والمستوصف والبريد، وبيت الشيخ سلمان بن سالم الحريصي (بن طلة) شيخ شمل قبائل آل حريص الجبل حينها (رحمه الله)، ومن خلفها على قمة المنحدر تجد مقر مركز امارة البلدة، حيث لم تفتح بعد العقبة القائمة اليوم (الشقبة) إلى عمود وما بعدها، وأمام السوق في الغرب يوجد خط فرعي وحيد، يتجه منها إلى منطقة الشجعة، حيث دعينا لعبوره والاطلاع على ما بعده، في صحبة أمير المركز حينها، وشيخ الشجعة الشيخ علي بن حسن جابر الصهيفي (رحمه الله)، وفي صحبته بعض وجهاء الشجعة.

اجتزنا هذا الطريق بصعوبة متناهية، لوعورته حينها، وكثرة الانزلاقات فيها، بسبب الأمطار حينها، والضباب والرطوبة، وكون التربة فيها طينية غير مستقرة، لنصل في نهايته على اطلالة نيد الطيار، لننظر من هذا المكان إلى الاسفل، من بين الغيوم والضباب الكثيف، وبين غابات اشجار العرعر الملتفة، لذلك لم نحظى برؤية شاملة واضحة، ولكنها كانت كالحلم الجميل، تركت في النفس أثرا طيبا وغامضا، وكونت حلما مشوشا لا تجد له تفسيرا، إلا الرغبة المتأججة الداعية إلى معاودة زيارة المكان لاحقا، وفي وقت يكون أفضل وأكثر مناسبة، ليسهل التعرف على كنه هذا المكان، وهذه الجبال والقرى المتوارية خلف الضباب.

ورغم ترددي الكثير فيما بعد على جبال الحشر، بما يتجاوز عشرات المرات، بحكم عملي في البداية مندوبا لتعليم البنات في فيفاء، ومشرفا على مدارس البنات في بني مالك، حيث كان لي شرف المشاركة في افتتاح أول مدرسة ابتدائية للبنات في جبال الحشر، التي افتتحت في عام 1406هـ، في جهة مقبورة بجوار مركز الامارة، إلا أنه للأسف لم تتح لي الفرصة لزيارة جبل الشجعة مرة أخرى، ومرت السنين وغادرت العمل، وغادرت المنطقة بكاملها، إلى أن حانت الفرصة المقدرة لتحقيق هذا الحلم المتواري، في عام 1445هـ، بعد اكثر من اربعين سنة، عندما كنت في ضيافة الصديق الغالي، الاستاذ محمد بن عبدالله الغزي، محافظ فيفاء سابقا(حفظه الله)، الذي يقضي مواسم الصيف من بعد تقاعده في جبال الحشر، ويملك فيها منزلاً خاصاً به، وله فيها زوجة من ابناء هذه البلدة، فأكرمنا واصطحبنا بعد تناول الغداء، برفقة عمه الشيخ سلمان بن اسعد الحريصي (حفظه الله)، في جولة تضمنت اطلالة على جبال الشجعة، وهنا تحركت الذكريات، وتأججت المشاعر، فقد راينا واكتشفنا فيها الكثير مما عرفناه سابقا، ثم يسر الله لنا لاحقا وبعد بضعة اسابيع، معاودة زيارتها تلبية لدعوة كريمة، من الاخ الغالي احمد بن سلمان يحيى الصهيفي (حفظه الله)، احد ابناء هذه الجبال الجميلة، ولذلك لم افرط في تلبية هذه الدعوة الكريمة، والزيارة الغالية، حيث استضافنا في بيته الواقع في وسط جبل الشجعة، في بقعة رأس الوقيع.

كانت بالفعل تأكيدا للزيارة السابقة، دعتنا للتطلع والتعرف أكثر على هذا المكان الجميل، وفيما بعد حان الموعد الأهم والأكبر، الذي تحقق في يوم الأحد الأغر الموافق 1/3/1447هـ، للزيارة التفصيلية والأشمل في ضيافته مرة أخرى، والتي وعدنا في بدايتها ليحفزنا على الإجابة، أن نقوم خلالها بجولة شاملة، نطلع على كامل الشجعة وقراها أو معظمها.

صليت فجر ذلك اليوم في جامع النفيعة، بأعلى جبال فيفاء، لأنطلق بعدها مباشرة إلى جوة آل شراحيل، لأصحب منها رفيق الرحلة، الاستاذ احمد بن جبران الشراحيلي (أبو حمد) حفظه الله، فقد طلب منا مضيفنا التبكير بالحضور، لكي نتمكن من القيام بهذه الجولة الاستثنائية، ونتعرف من خلالها على كامل جبال الشجعة وما جاورها، وبالذات مع هذه الأجواء المميزة، التي اعقبت نزول الأمطار الغزيرة في هذه الأيام، مع بداية فصل الخريف، الذي يوافق هذا الشهر اغسطس، وكان آخرها هطول أمطار ليلة البارحة، التي استمر نزولها إلى قبيل صلاة الفجر.

   التقانا مضيفنا في أعلى جبل الحشر، في (نيد الوصاد) موقع السوق الأسبوعي، ولقينا في صحبته ضيفه وصديقه اللواء متقاعد فهد بن سعود البليهد حفظه الله، والشاعر المبدع سلمان بن يحيى مبجر الحريصي حفظه الله، وبعد استراحة قصيرة انطلقنا لخوض تجربتنا، والقيام بالجولة الموعودة، لننطلق جميعا في سيارة مضيفنا الجيب (تايوتا لاندكروزر)، التي يعتمد عليها في طرق هذه الجبال،  وقد اخذنا مسارنا في اتجاه الشمال لنصل إلى مقبورة، في مسافة لا تتجاوز الكيلو فقط، وكانت هي سابقا حاضرة جبل الحشر كما اسلفنا، واتجهنا منها إلى الغرب في طريق معبد، يتفرع عن الطريق الرئيسي الذي يخترق جبال الحشر، سرنا في هذا الطريق لمسافة تقارب الكيلوين، مررنا بالعديد من البقع، والمنبسطات الزراعية، والبيوت المتناثرة، لنصل في نهايته إلى مطل الطيار، مكان مشرف على كامل جبال الشجعة، ومن فوقه قمة جبل الشجعة المسمى (الشباب)، بغابات العرعر الكثيفة التي تميزه.

  من هنا من الطيار يتفرع امامنا الطريق إلى فرعين، واصلنا سيرنا بالخط الرئيسي في جهة اليسار، ولم يلبث أن انتهى هذا الطريق المعبد بعد اقل من كيلو، لنواصل السير في طريق ترابي سهل في بدايته، ولكن كلما سرنا فيه ازداد صعوبة ووعورة، اتجهنا فيه إلى جهة الشرق، لنهبط به بين البيوت المتناثرة والمزارع في عمق الشجعة، لنصل بعد فترة يسيرة إلى قرية اليمانية، وفي ذراع هابط منها نجد مبنى مدرسة اليمانية القديمة، المدرسة الابتدائية الأولى للبنين في هذه الجبال، وبجوارها في الأسفل قليلا، مررنا بمسجد الشهيد (يحيى بن حسن مفرح الصهيفي) رحمه الله، أحد شهداء الحرم المكي من ابناء هذه القرية، ونتجاوز ذلك هبوطا في تعرجات شديدة، وملفات صعبة، تحتاج في بعضها إلى العودة إلى الخلف، حتى تستطيع السيارة الالتفاف الكامل، لضيق الطريق فيها، حيث وصلنا إلى قرية القمة، الذي تطل منها على بداية وادي صلا الغربية، ثم بعدها نهبط إلى قرية الدحرة، ومنها نزولا إلى ما يسمى صوامل، الذي يطل منها يسارا وأدي صلا الغربية، ومن اليمين وأدي صلا الشرقية، الذي يتجه شمالا ليصب في وادي عمود من محافظة الريث، وبعدها سرنا على حافة الجبل، لنصل إلى شفا بقعة تلاعو، في خط شبه مستوى، تتخلله قليل من الارتفاعات البسيطة والانخفاضات السهلة، لنصل في نهاية الطريق بعد ما يقارب الكيلو الواحد، إلى مكان ممتد ممسوح، ينتهي فيه الطريق الرئيسي، ويبدأ من بعده خط ضيق يهبط إلى البقع الغربية، حيث توقفنا في هذا المكان الاستراتيجي، لنطل منه جهة الغرب على الفقارة، ومنجد التابعة لمحافظة هروب.

ففي الشرق ترى كامل جبل الشجعة، ممتدا امامك ويعلو فوق رأسك، وبينهما في الشرق في الأسفل وادي صلا، الممتد من الجنوب إلى الشمال، بشعابه وهضابه وقراه.

فعلى ضفة الوادي تحتنا مباشرة ثاهر مقمع، واعلى منها جنوبا مجموعة من القرى والبقع، على امتداد هذا الوادي وضفافه، ومن ذلك قرية الطينة، وبيت العتمة، وبيت الشريانة، وبيت العلو، وترى في الأعلى على سفوح الجبل، كل القرى التي سبق وأن مررنا منها قبل قليل.

وهي مرتبة من اليمين إلى الشمال، ومنها قرية الدحرة، والقمة، واليمانية، وشمال هذا القرى ترى قرية الغمور، التي فيها مقر بيت شيخ شمل قبائل آل الصهيف، الشيخ محمد بن علي الصهيفي حفظه الله، وفيها الجامع والمدارس (مجمعات ابتدائية ومتوسطة وثانوية بنين وبنات)، وترى المعقورة، حيث مقر مركز الأمارة، ثم رأس الوقيع، الذي يقع فيها بيت مضيفنا، وترى قرية الشامية، التي تتميز بالعديد من المطلات، ومنها مطل المشنن، والمحرص، والمبداية، والبطاح، ومرهز، والنخرة، ثم ضحي الشجعة، وفيها نيد الفصع، ومسهايل، ومرغو، وقرية النفق، ووادي النفق، الذي يسيل في وادي الجوة، وفي الوسط قرى النجايف، وقرية الردهة، وقرية المليس، وقرية الحرفش، وفي اسفل بقعة تلاعو التي توقفنا فيها غربا، ما يسمى بالضيعة، وفيها قرية البزيخ، والمثول، والعنقة، والجبهة، ووادي الغمر، الذي يسيل إلى وادي قصي، واستمتعنا بالمكان، والمناظر والرفقة، وبعد ما مكثنا في هذا المكان الجميل ما يقارب الساعة، عدنا من حيث اتينا، مقصدنا بيت مضيفنا، وقد قارب وقت دخول صلاة الظهر، وحان موعد الغداء.

كانت بالفعل رحلة وجولة ممتعة، اطلعنا خلالها على زوايا وخبايا هذا الجبل الرائع، الجميل بأجوائه واهله ومناظره الفاتنة، يحوي الغابات البكر، والمدرجات الساحرة الغنية الخصبة.

 وتتناثر بينها البيوت القديمة بأصالتها.

والحديثة بروعة تصاميمها، فالأرض خصبة تتنوع اشجارها ومزروعاتها، تجد فيها التكامل في كل منتجاتها، تزرع فيها الذرة الطويلة، والدخن، والشعير، والبر، والدجرة، والقشد، والدبة، والفواكه المتنوعة، من المانجو، والفركس (الخوخ).

 والليمون، والبرتقال، والرمان.

ويزرع فيها منذ القدم وما زال البن الاصيل، ما يعرف باسم (العديني)، فالزراعة منتشرة في كل الأنحاء من الجبل، وتشاهد اكثرها خصوبة، في كل من بقعة الغلوق، ووادي النقر، ووادي الغمور، فهي في مجملها ارض خصبة متكاملة، تتميز بجمال أرضها، وفي كرم اهلها وحسن تعاملهم، وفي نشاطهم ومواصلة عطائهم، تجدهم يمارسون مهنة الزراعة والرعي، ويعملون في تربية النحل، ومنهم الكثير منتشرون في معظم مناطق المملكة، يعملون في أجهزة الدولة المختلفة، حفظها الله وأدام عزها.

احببت من خلال هذا العرض الموجز، التعبير عن انطباعي الشخصي، والمشاركة البسيطة بالتعريف بهذا الجزء الغالي من مملكتنا الحبيبة، التي ما زالت مجهولة للكثيرين، ومن واجبنا التعريف بها، وابراز جمالها وما تتميز به، وعرض شيء مما ينقصها، من الخدمات، وما يسهل سبل الحياة فيها، ويأتي في مقدمة ذلك في هذه الجبال، حاجتها إلى شق الطرق، وفي توسيع الموجود منها، والمسارعة التي تعبيدها، وعمل الحواجز والعبارات على جوانبها، فهي من اكبر العوائق اليوم امامها، نسأل الله أن ينيلها الخير والتطور والنماء.

  وإلى اللقاء بمشيئة الله في جولة أخرى، وفي مكان آخر، فبلادنا تستحق منا الكثير، واقل شيء هو التعريف بها، وابراز ميزاتها، والجمال المكنون في جنباتها.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محبكم/ عبدالله بن علي قاسم آل طارش الفيفي

الرياض  في 15/3/1447هـ

أحدث المقالات

‫2 تعليقات

  1. وفقك الله يا أبا جمال وسددك وجزاك الله خير الجزاء وتقبل الله أعمالكم ونفع بعلمكم وجهودكم.وفعلا تلك الجهات بحاجة ماسة إلى طرق معبدة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى