أعلام ومشاهير

الشيخ القاضي: علي بن قاسم آل طارش الفيفي

إعداد الشيخ :عبدالله بن علي قاسم آل طارش الفيفي ـ أبو جمال

الشيخ القاضي: علي بن قاسم آل طارش الفيفي

ولد مع بداية انضمام جبال فيفاء الى الحكم السعودي الفتي المتوثب، فدرج مع طموحاتها واحلامها وامالها، إلى أن اصبح بفضل الله وتوفيقه أحد شخصياتها المهمة المؤثرة فيها، شارك بكل جهوده وعلمه وقدراته في الرفع من مقام بلدته، حتى تواكب في الرقي بقية مدن ومناطق المملكة العربية السعودية، فنالت الخير العميم والفضل الكبير، الذي توليه هذه الدولة المباركة الجميع، ولم يغادر هذه الحياة الدنيا إلا وقد قرت عينه لما يرى بلدته ومجتمعه عليه، وقد خطت خطوات كبيرة وموفقة في سلم الرقي والتقدم، ونالت الشيء الكثير والكبير مما يؤمله، زادها الله رفعة وتطورا ورقيا، وبارك في جهود كل العاملين المخلصين، ورحمه الله رحمة واسعة وغفر له، واجزل له الاجر والمثوبة.

كان ذا شخصية متميزة، حاد الذكاء، قوي الإرادة، إذا عزم على شيء لا يتركه حتى ينجزه، فلا يشغل نفسه بكثرة التفكير في العواقب، بل يسارع في عمل ما أنقدح في ذهنه، دون تقاعس أو تخاذل أو خور، وإذا بدت صعوبات لا يستسلم، بل يحاول ويحاول إلى أن يصل إلى ما عزم عليه، بل ويفرض شخصيته القوية على من حوله، فهو رجل مؤثر، وقيادي حازم،  ويتوقع أن كل من حوله لا بد أن يسايروه، ويبلغوا مثل ما قد بلغه، مادامت الفرص المتاحة واحدة، مع اعتباره للفوارق الفردية، التي يحسن بالإنسان أن يعدلها ويرفع من شأنها..

 انه فضيلة الشيخ الوالد القاضي :

علي بن قاسم بن سلمان آل طارش الخسافي الفيفي

رحمه الله وغفر له.

الشيخ القاضي: علي بن قاسم آل طارش الفيفي

والده الشيخ :قاسم بن سلمان آل طارش الخسافي رحمه الله، كان على قدر لا باس به من التعليم، يقرأ القران الكريم، وعلى وعي كبير بأهمية التعليم، فكان يدفع اولاده للدراسة، ويحثهم على الاجتهاد في طلب العلم، فيفرغهم من مشاغل الدنيا، ولا يحملهم من المشاق ما يصرفهم عنه، رغم حاجته الشديدة لمساعدتهم، وتحمل وصبر على غربتهم وبعدهم عنه في سبيل ذلك، رغم ما كانت عليه الاسفار من الصعوبات، وما هي عليه الطرق من المخاطر والمعوقات، وانعدام الأمن وكثير من وسائل الخدمات والمواصلات، وانقطاع التواصل والاتصالات، فتفقد اخبار المسافر من ساعة مغادرته، فنالوا الحظ الاوفر من العلم والنجاح، وقرت عينه بهم عندما حققوا ما يؤمله وزيادة، رحمه الله وغفر له وتجاوز عنه، وكتب له الاجر العميم، في جنات النعيم.

وامه الفاضلة: سلامة بنت سالم آل غرسة الخسافي رحمها الله، ام حازمة صابرة، ومربية فاضلة، كانت لها الادوار المؤثرة في حياة ابنائها، تدفعهم للمعالي والترقي في طلب العلم، وتكتم عواطفها امامهم، حفاظا على قوة عزائمهم، وحتى لا تثبطهم في مسيرهم، أو تفت في عضد أي واحد منهم، عندما تظهر امامهم الجزع من فراقهم، فكانت لهم السند والقوة، وزرعة فيهم الصبر والجلد وقوة التحمل، رحمها الله وغفر لها وتجاوز عنها.  

ولد لهذين الفاضلين في بيتهما الرثيد، في وسط ذراع منفة، من شرق الجبل الاعلى من فيفاء، في حوالي عام 1348هـ، (المسجل في بطاقته 1350هـ)، وكان اكبر اولادهم الاحياء، حيث جاء بعد ولدين لهما لم يعيشا, فأولياه عنايتهما الخاصة، وربياه تربية متوازنة صالحة، فنشأ نشأة سوية معتدلة، على كثير من الخلق والدين، وقوة الشخصية والارادة، واختارا له طريق العلم والفلاح، وشجعاه على سلوكه، وصبرا على فراقة وغربته وصابرا، حتى قرت عيناهما به بعد حين، وهما يريانه في اعلى مستويات الفضل والفضيلة.

 كان من صغره ذو شخصية متميزة، حاد الذكاء قوي الارادة والشخصية، معتد بنفسه وبقدراته الذاتية، ظهر ذلك جليا فيما بعد، في تحصيله العلمي في فترة وجيزة، وانتاجه الفكري والمعرفي، وفي عمله الوظيفي، وفي حياته العامة والخاصة، فكان يستوعب دروسه ويتفوق فيها، إلى أن فاق أقرانه وتفوق على الكثير منهم، وقد توسموا فيه النجابة من سنه المبكرة.

تعليمه:

 ألحقه والده في البدأ بمدراس التعليم المتاحة حينها، فدرس في معلامة الفقيه علي بن حسين آل مدهش الخسافي، ولكن لصغر سنه وضعف بنيته، شق عليه الوصول إلى مقر هذه المعلامة، الواقعة في بيت الوادي البعيد عن بيتهم، مما جعل والده يسعى عند ابن جارهم المتعلم، الشيخ أحمد بن فرح الابياتي، في تخصيص جزء له من وقته، يعلمه فيه القران الكريم، فبقي يتلقى منه لما يقارب العام، وصل فيها إلى سورة مريم، ثم لأحداث جرت اضطر إلى الانتقال إلى جهة النفيعة،

وفيها التحق بمعلامة الفقيه حسن بن أحمد آل خفشه الأبياتي، الواقعة في بيته (شيحة)، في وسط بقعة العذر، واكمل فيها القرآن وخاضه لأكثر من مرة، وصعد في تلك الفترة إلى فيفاء، فضيلة الداعية الشيخ عبدالله بن محمد القرعاوي رحمه الله، واسس في عام 1363هـ، اول مدرسة له في جبال جازان، في منطقة النفيعة بفيفاء، في طرف السوق الرئيسي، وبجوار مركز الامارة،

والتحق بها وتلقى فيها كثيرا من العلوم التأسيسية، في القران والحديث والعقيدة والنحو، ودرس فيها على يد الشيخ القاضي محمد بن يحيى القرني, وكان المعلم الرئيسي في هذه المدرسة، ثم طلب الشيخ القرعاوي بعد مضي عامين، من معلمها الشيخ  القرني ، أن يختار من طلابه المبرزين، من يصحبه إلى المقر الرئيسي لمدارسه في صامطة، فكان هو من ضمن من اختارهم من هولاء الطلاب.

 تلقى في صامطة العلم مباشرة، من فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد القرعاوي، ومن فضيلة الشيخ العلامة حافظ بن أحمد الحكمي، وكثير من مشايخ العلم في هذه المدارس،

ومن ابرزهم كما يذكر الشيخ محمد بن أحمد الحكمي، والشيخ محمد بن إبراهيم جردي، والشيخ شيبان بن علي عريشي، والشيخ حسين بن عبدالله الحكمي، والشيخ ناصر بن خلوفة طياش، والشيخ القاضي حسن بن زيد النجمي، والشيخ القاضي حسين بن محمد النجمي، والشيخ القاضي منصور بهلول مدخلي، والشيخ عثمان حملي، والشيخ أحمد المنصوري اليماني، والشيخ إسحاق بن بشري الهرري، رحمهم الله جميعا.

  واتجه بكل كيانه ورغبته في هذا الاتجاه المبارك، من تحصيل العلوم والنهل من معينها، واقبل بكل جهوده ورغبته في طلب العلم والتزود منه، ولازم مشايخه، وثنى ركبتيه عندهم، وكان اكثر من لازم منهم الشيخ حافظ الحكمي، فقد تنقل معه ولازمه اينما توجه وانتقل، فقد رافقه في صامطة وفي ضمد والسلامة العليا وبيش وغيرها، وتعلم وثابر وجاهد واجتهد، وتحمل الغربة والسفر والفاقة والجوع،

حتى نال بفضل الله وتوفيقه حظاً وافرا وكبيراً من العلوم والمعارف، ما كان منها في علوم القرآن الكريم، والحديث والفقه والأصول واللغة والأدب، ولما أحس منه شيخه فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد القرعاوي، بالنضج وأنه وصل الغاية والدرجة العالية في التحصيل العلمي، ولما قد ناله وبلغه وتملكه من آلته وتمكنه فيه، منحه عن استحقاق وجدارة إجازته العلمية المعتبرة.

  لقد بذل للعلم نفسه ونذرها له، متعلما وعالما وناشرا له، مارس التعليم بنفسه في مدرستي الشيخ القرعاوي، في قرية رملان التابعة لدرب بني شعبة، ثم في مدرسة النفيعة بفيفاء، التي كان قد تخرج منها قبل ذلك، وبعد ما تولى القضاء الشرعي عام1372هـ في فيفاء، اسند اليه الشيخ القرعاوي الاشراف المباشر على مدارسه في فيفاء وبني مالك، وفوضه متابعتها والتوسع في افتتاحها، ولم يتوانى في هذا المجال، بل حرص على ان تصل لكل محتاج لها، حتى انه بلغ عددها في فيفاء عشرون مدرسة،

اثنتان منها لتعليم البنات، وكانتا اول مدرستين من هذا النوع في فيفاء، وكذلك بلغ عدد المدارس في جبال بني مالك، خمس وعشرون مدرسة، واستمر يتابعها ويشرف عليها، إلى أن اغلقت هذه المدارس (مدارس الجنوب) في عام 1379هـ، عندما ابتدأت وزارة المعارف في نشر مدارسها النظامية الرسمية، وفي تلك الفترة كان يقصده في بيته كثير من طلبة العلم، للتلقي منه ولينظم لهم بعض الدروس العلمية، في الفقه والحديث والتفسير والنحو وغيرها.

  وفيما بعد بسنين وقد استقر به المقام في مكة المكرمة، وقد خرج من عزلة المكان، ومن تراكمات المسؤوليات الرسمية والاجتماعية، تواصل معه كثير من طلاب العلم الشرعي، كانوا يأتون اليه في بيته مباشرة، ومنهم من يتواصلون معه عبر الاتصالات، من داخل المملكة ومن جميع انحاء العالم، ليقرؤوا عليه ويستفيدوا من علمه وشروحاته، ويحرص معظمهم على الحصول على إجازة علمية منه، ومن اسباب الحرص على نوال هذه الإجازة العلمية، ما تمثله من اهمية اعتبارية لطلبة العلم قديما وحديثا،

ومن هذا الأسباب باختصار (حرص العلماء وطلبة العلم على المحافظة على طريقة علماء سلف الأمة، من حيث السند والرواية والسماع، والمحافظة عليها حتى لا تندثر، وشيوع وانتشار العقيدة الإسلامية السلفية الصحيحة في أنحاء العالم، ولكونه رحمه الله من علماء العقيدة السلفية، الذين تلقوا العلم الشرعي الصافي الخالص، من منابعه الصافية الخالصة من البدع والخزعبلات، وهي العقيدة التي كان عليها سلف الأمة، ولحصوله على الإجازة العلمية في الرواية، بل كانتا إجازتان علميتان،

احداهما من فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن محمد القرعاوي (رحمه الله)، والأخرى من الشيخ العلامة القاضي محمد بن هادي الدرابة الفضلي (رحمه الله)، وهما إجازتان متصلتا السند إلى أئمة الحديث، إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم لانتشار كتب فضيلة الشيخ العلامة حافظ بن احمد الحكمي (رحمه الله)، بين طلبة العلم في أنحاء العالم الإسلامي، وكون الشيخ من العلماء الذين تتلمذوا مباشرة على يده، وقرأوا عليه كتبه، وتعتبر إجازته إجازة عالية السند، خاصة إذا كانت في رواية مؤلفات الشيخ حافظ (رحمه الله)، ولذلك كانوا يحرصون على الحصول عليها)، وكان يوليهم اهتماما خاصا، باذلا لهم وقته وجهده وعلمه، وقد أعد نموذجاً متكاملا لهذه الإجازة، يحوي سردا بتسلسل مشايخه ومن تلقى منهم، ويوجد نص هذا النموذج في كتابه الإرشاد إلى طريق الرواية والإسناد، وهو على النحو التالي:

( بسم الله الرحمن الرحيم ـ الحمد لله الذي حمده من اجلّ الرغائب، والتوفيق له من أعظم المطالب، وأسمى المواهب، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد بن عبدالله القائل: فليبلغ الشاهد الغائب، فإنه رب مبلغ لمن هو أوعى له، وعلى آله وأصحابه البررة الأطايب، الذين تسنموا أعلى المناصب، وأرقى المراتب، وعلى كل من سار على نهجهم، واقتفى أثرهم، ممن صانوا لنا معالم الشرع والدين من المثالب، حتى وصلنا صافيا نقيا كأعذب المشارب.

أما بعد:

فإنه لما منّ الله علي بتلقي العلم عن مشايخ أعلام، جهابذة فخام، شرفت بالأخذ عنهم، والاقتباس من فيض نورهم، والنهل من معين علمهم، قراءة وسماعا واقتفاء لآثارهم، وسيرا على نهج ما تلقوه من مشكاة النبوة من الهدى والنور عن مشايخهم، وبعد أن أحرزت نصيبا من العلم، أجازني بعضهم بالرواية عنهم، ونقل ذلك إلى من يأتي بعدهم، ثم رغب إلي بعض إخواني وأبنائي وتلامذتي أن أجيزهم بذلك، ليصلوا سندهم بسند أولئك الفضلاء الأمجاد، من أهل الجد والاجتهاد، ليكون لهم الشرف الأسمى،

والحظ الاسنى، باتصال إسنادهم بخير العباد، صلى الله عليه وسلم إلى يوم التناد، وذلك لان الإسناد من خصائص هذه الأمة المرحومة ومميزاتها إلى يوم المعاد، ولذلك فقد حققت لهولاء الراغبين رغبتهم، ولبيت لهم طلبتهم، مع اعترافي بالقصور، وقصر باعي عن بلوغ شأو أولئك البحور، ولكنه من باب التشبه بهم، والاقتداء بنهجهم، والسير على منوالهم، وأملا في أن احشر في زمرتهم، لقول الرسول الأكرم والمربي الأعظم ، صلى الله عليه وسلم :

“من تشبه بقوم فهو منهم” فقد أجزتهم أن يرووا عني مؤلفاتي، ودواويني الشعرية، ورسائلي، وفتاوي، ومقالاتي، ومحاضراتي، وأن يرووا عني مؤلفات شيخي الجليل، والعصامي النبيل، حافظ بن احمد بن علي الحكمي، المتوفى سنة 1377هـ رحمه الله تعالى، التي تلقيتها عنه مناولة، وقراءة، وسماعا، وإملاء، وأن يرووا عني ما أجازني به شيخي العلامة، القدوة الفهامة، الشيخ عبد الله بن محمد بن حمد القرعاوي المتوفى سنة 1389هـ رحمه الله تعالى، لما حوته إجازته من شيخه أحمد الله بن أمير القرشي الدهلوي،

المزبورة في كتابي السمط الحاوي، عن أسلوب الداعية المصلح عبد الله القرعاوي، وما أجازني به شيخي العلامة القاضي محمد بن هادي الفضلي، قاضي محمكة بني جماعة، المتوفى سنة 1399هـ رحمه الله تعالى، مما أجازه به شيخه العلامة الإمام الحسن بن يحيى بن علي القاسمي الضحياني في إجازته الموسومة بسبيل الرشاد، إلى طريق الرواية والإسناد، وما اشتملت عليه من المرويات عن شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني، فيما أخذه عن مشائخه المتصلة بسلاسل الإسناد، من مصنفات أهل الإسلام في سائر البلاد، مما أثبته في مؤلفه الشهير بإتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر، وممن أجزتهم بذلك الطالب النجيب “……..”

وفقه الله تعالى لأوفر نصيب، وأوصي كل من أجزتهم ونفسي، بتقوى الله تعالى في السر والعلن، وأن يتحروا الدقة في النقل والتحرز من الزلل، والإلمام بما تدعو إليه الحاجة من علمي الرواية والدراية، ومراجعة الكتب المصنفة في فن الاصطلاح، وما يتعلق من ذلك بضبط الألفاظ المشكلة في متون الأحاديث ونحو ذلك مما يتوج العمل بالنجاح، والله سبحانه الموفق والمعين، والهادي إلى سواء السبيل).   

   وفي سنواته الاخيرة وقد كبر سنه، واعترت جسده كثير من الامراض والادواء، ولم يعد يقوى على مغادرة  بيته إلا للضرورة القصوى، وكثر غيابه عن مكتب المحاماة، وقلت مقابلاته للناس إلا ما ندر، فكان بعض أبنائه المقيمين معه في مكة، يرتبون المواعيد المناسبة لمن يرغب مقابلته، من طلبة العلم الحريصين على ذلك، وكان بعضهم يحضر ليقرأ عليه طلبا للإجازة، وبعضهم يتواصلون معه عبر الاتصال الهاتفي، ويتابعه آلاف الطلاب حول العالم عبر الغرف الصوتية، فكان قد خصص له وقتا محددا في كل يوم لمدة ساعة أو ساعتين، إلى أن عجز نهائيا عن مواصلة ذلك، وقد بلغت الإجازات العلمية المرصودة حوالي ثلاثمائة إجازة، عن طريق الاخ الشيخ خالد بن علي حفظه الله، في كل من السعودية والكويت وقطر والبحرين واليمن والعراق وعمان والاردن وسوريا والمغرب وموريتانيا ومصر وتونس والجزائر وباكستان والهند وبورما وبنغلاديش.

   وفي بلدته حرص كل الحرص على تعميم التعليم في كل الانحاء، من بنين وبنات، بكل مراحلها وتنوعاتها، وتهيئة اسباب افتتاح مدارس التعليم العام بنين وبنات، بتشجيع الاخرين على تهيئة المباني المناسبة، وبعضها يشارك معهم بنفسه في ايجادها، ولا تخفى جهوده في بدايات تعليم البنات، وفي افتتاح المعهد العلمي، وكانت له بصماته القوية والواضحة، في كل مجالات الحياة في مجتمعه، كان قياديا ناجحا، ومحفزا قويا، وموجها ومساندا لكل من حوله، للوصول إلى هدف واحد وغاية، تتمثل في خدمة بلده، والرفع من مكانتها، فقد خدمها في كل جوانب الحياة، وكان لسان حالها، المفصحِ عن احلامها ورغباتها، والكاشف عن همومها، والمجلي لأحزانها وادوائها، عرّف بها، وابرز جمالها، ومكنون تراثها، حتى لمعظم ابنائها، الذين يجهلون كثيرا من اخبارها، ونقب وبحث عن كل ما يتعلق بتاريخها، وعن عراقة ماضيها واصالتها، وسجل انساب قبائلها، واسماء اسرها المباركة، وخلد تاريخها ومكانتها وتراثها، وحتى انه عرّف بفنونها والعابها الشعبية، وسجل امثالها والحكمة في اقوالها.

  وكانت له ادواره المشهورة المشهودة، في كل ما فيه خدمة اهله وبلده، ولم يكن من أصحاب النظرة المحدودة، والعنصرية القاصرة الممقوتة؛ فبجانب ما كان يوليه لأهله وبلدته من العناية والاهتمام، فلا يبخل أو يغمط حق الآخرين من جيران بلدته، ولم يقف جامدا أو حجر عثرة دون وصول الخير إليهم، بل كان يعينهم ويوجههم ويساعدهم، ويبذل نفسه وماله ليصل بكل المحيط من حوله إلى كامل الخير، بل كان لسان لكل هذه المناطق الجبلية، فلا تكاد تجد مسمى ساق الغراب يفارق عباراته، ومطالباته وكلماته وأشعاره، وفي تجلية حالهم وايضاح كل ما ينقص جهاتهم، من الخدمات والمرافق الضرورية أسوة بغيرهم، رحمه الله وغفر له وكتب له ثواب ما عمل وما قدم .

  كان عاشق للاطلاع، ومحب للقراءة، لا تكاد تجده في خلوة إلا والكتاب رفيقه، يقرأ في كل مجال، وفي كل فن وعلم،  ويفهم ويستوعب، في العلوم الشرعية، واللغة العربية، والآداب والشعر، والتاريخ والعلوم الاجتماعية، والعلوم الطبيعية، ومكتبته عامرة بكل جديد، بل مكتباته فكانت لديه مكتبة ضخمة في فيفاء، انتقلت معظم كتبها بعد انتقاله من فيفاء، إلى بيتي بالنفيعة، وذلك بناء على توجيهه وحرصه على عدم هجرها، واستفدت منها ايما فائدة، وفي مكة كوّن له مكتبة أخرى ضخمة، فقد كان يحرص بشكل لافت على اقتناء كل جديد، وعلى اقتناء المراجع وأمهات الكتب، في كل العلوم الشرعية، والأدب، والتاريخ، والسير، والرحلات، وكل الفنون، وهي هواية ملازمة له من بداية حياته المبكرة،

وقد كان في هذه البدايات، مع ندرة الكتب، يستنسخ بيده ما يجده منها، وكان الوحيد الذي استنسخ معظم مؤلفات شيخه، فضيلة الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله، وكان يكتبها بخط جميل متقن، ويتفنن في صناعة الأحبار النادرة، التي يصنعها بنفسه من موجودات البيئة، فيدخل عليها الألوان الجذابة من الأحمر والغامق والأزرق؛ تتزين بها كتاباته وتعليقاته، حتى إن كثيراً من كتب شيخه حافظ، عندما فقدت لم توجد إلا لديه فقط، منسوخة بخط يده الجميل، وهذه المكتبة الرئيسية في فيفاء، اهداها فيما بعد لمكتب التعليم بفيفاء، وقد خصصوا لها مشكورين، مكانا مناسبا ومهيأ في مركزه، (مركز الشيخ علي بن قاسم آل طارش)، الواقع في داخل مبنى مكتب التعليم.

   وعندما صدرت الموافقة الملكية، في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات الهجرية، على طباعة كتب فضيلة الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله، في المطابع الحكومية بمكة المكرمة، اختار معه مجموعة من طلابه النجباء، كان هو واحد منهم، ممن يثق بهم وبإدراكهم ونباهتهم، ليعينوه على مراجعة بروفات كتبه،

في صورتها النهائية قبل طبعها، وقد بقوا معه لأجل ذلك أشهرا في مكة المكرمة، وكانت تجربة عظيمة استفاد منها كثيرا، واطلع على اشياء جديدة في خدمة العلم، ونمّت لديه ملكة وأصول الكتابة والتأليف، مما شجعه لاحقا على طرق هذا الباب واقتحامه، عندما اكتملت لديه أدواته ومادته، فانطلق بكل ثقة ومعرفة يوثق ويؤلف، فكانت لديه مخرجات نافعة ومفيدة، منها الرسائل القصيرة، والكتابات الاجتماعية والأدبية والتاريخية، نشر معظمها في بعض الصحف والدوريات، من مثل مجلة المنهل واليمامة وقافلة الزيت (أرامكو)،

وبعض الصحف كالجزيرة والرياض وعكاظ والندوة وأم القرى والمدينة، وكان له أسلوب أدبي وعلمي رائع، يستوعب كل جوانب الموضوع الذي يكتب عنه، ولا يغفل جانب على حساب جانب آخر، بل يعرضها مكتملة، في عرض شيق ممتع، على مقولة (السهل الممتنع)، وكان الاستاذ القدير عبدالقدوس الانصاري رحمه الله، صاحب مجلة المنهل، قد خصّص  له بابا ثابتا في مجلته، كان يكتب من خلاله عن تاريخ فيفاء، وأنساب اهلها وعاداتهم وتقاليدهم، وكل ما يتعلق بنواحي الحياة فيها، وكتب في كل المجالات العلمية والأدبية، وفي الشعر وفي اللغة والأدب والتاريخ، وفي العلوم الشرعية، وشارك في كل ما يدور حوله من حراك علمي وادبي،

وما يثار من موضوعات علمية أو أدبية أو اجتماعية، مدعماً أقواله وآراءه بالأدلة من القرآن والسنة وأقوال العلماء،  ويرجح ما يحتاج منها إلى ترجيح، ويبدي وجهة نظره فيما يعرض بوضوح تام، وبدون مواربة أو تردد، يدعمه في ذلك تمكنه من الأدوات المطلوبة، وتحصيله العلمي الكبير،

وصفاء ذهنه وتوقد فهمه، له ادواره ومشاركاته المتعددة، في كل الأنشطة النافعة، انسان ايجابي متطور متنور، لا يقف عند حد أو اطار معين، الف الكتب وقدم البحوث، في كل الفنون وكل نواحي الحياة، ولديه حصيلة كبيرة من هذه المؤلفات والمقالات التي طبع بعضها، وبعضها الآخر ما زالت مسودات، نسال الله أن يعين على طبعها، ، وهي على النحو التالي :

  1. الطيف العابر ديوان، طبع عام 1403هـ.
  2. الحوار المبين عن أضرار التدخين والتخزين، ديوان طبع عام 1403هـ.
  3. السمط الحاوي عن أسلوب الداعية القرعاوي، طبع عام 1410هـ.
  4. ومض الخاطر، ديوان طبع عام 1413هـ.
  5. باقة من التراث الشعبي بفيفاء، طبع عام 1416هـ.
  6. الربا وأنواعه، طبع عام 1416هـ.
  7. التقويم الزراعي لأهل فيفاء وما جاورها، طبع عام 1416هـ.
  8. تحقيق رسالة مفتاح دار السلام بتحقيق شهادتي الإسلام، للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله، طبع عام 1416هـ.
  9. القضاء بين النظرية والتطبيق، ضمن محاضرات ألقيت في النادي الثقافي الأدبي بمكة المكرمة طبع عام 1421هـ.
  10. باقة شعر من إشعاع فكر، ديوان طبع عام 1421هـ.
  11. تخليد الوفاء لأهل فيفاء الشرفاء بتدوين وقائع الاحتفاء، طبع عام 1421هـ.
  12. واجب الشباب، طبع عام 1421هـ.
  13. تقنين الأحكام الشرعية، طبع عام 1421هـ.
  14. الحكمة المستشفة، من اصطفاء محمد صلى الله عليه وسلم خاتماً للرسل، ورسولاً إلى الناس كافة، من مكة المشرفة، طبع عام 1421هـ.
  15. تحقيق مخطوطة حكم التطليقات الثلاث إذا وقعت في وقت واحد، للشيخ أحمد بن علي عبدالفتاح الحازمي، طبع عام 1425هـ.
  16. الإرشاد إلى طريق الرواية والإسناد، طبع عام 1425هـ.
  17. فيفاء بين الأمس واليوم، طبع عام 1423هـ.
  18. الحكم القبلي في فيفاء قبل الحكم السعودي، طبع عام 1423هـ.
  19. ديوان الخطب (مخطوط )
  20. مجموعة مقالات، وبحوث وفتاوي، ومحاضرات، وأمسيات شعرية، ورحلات، بعضها نشر، وبعضها لم يزل مخطوطا .
  21. وله مقابلات وكتابات صحفية، وخطب منبرية دينيه واجتماعية، ومشاركات في المناسبات الرسمية.

كان رحمه الله كشكولا في كل فن، وله ادواره الواضحة، وبصمته وابداعه القوي ، رحمه الله وغفر له، واتخذ العديد من وسائل التعليم والاصلاح، ومن اهمها وانجحها وسيلة الخطابة المنبرية، التي تعتبر من اعظم الوسائل واجلها في التعليم المباشر، وفي تبصير الناس وتوجيههم، وركز عليها كثيرا في تعليمهم وتوعيتهم، وفي تصحيح  كثير من الأوضاع، وفي معالجة كثير من السلبيات، والتوجيه إلى الصالح من امور الدنيا والآخرة، وقد مارس الخطابة على فترات طويلة من عمره، تقارب الستين سنة أو اكثر،

فقد قام بها صغيرا مع بداية تعليمه، لحاجة المجتمع حينها إلى من يخطب بهم في الجمع والاعياد، لقلة وعدم توفر المتعلمين بين الناس، وكانت لديه من تلك السن المبكرة، القدرة والجراءة على القيام بهذا الأمر، فكان يتقن القراءة بشكل جيد، مع سعة الفهم وحسن التعبير، اضافة إلى ثقته التامة بنفسه، وجراءته على مواجهة الناس، وفي التحدث امامهم، ثم تدرج في القيام بهذه الوظيفة الاصلاحية المهمة، فعندما كان طالبا في مدارس فضيلة الشيخ عبدالله القرعاوي رحمه الله في بيش،

وجهه عندما آنس منه درجة مناسبة في العلم، بالذهاب إلى قرية رملان، بدرب بني شعبة، ليعمل فيها مدرسا وإماما وخطيبا في مسجدهم، فكان يعلمهم ويصلي بهم الجمع والأعياد، وكذلك عندما كلفه بالعمل معلما في مدرسته بفيفاء، قام مع التدريس بالعمل إماما وخطيبا لجامع النفيعة، وكان هو جامع المركز الرئيسي، ثم لما عين فيما بعد قاضياً  للبلدة، قام  بإمامة هذا الجامع الكبير، ويخطب بهم فيه الجمع والأعياد، واستمر على ذلك حتى انتقل من فيفاء، في فترة تزيد عن خمس وثلاثين سنة، ولما استقر به المقام في مكة المكرمة عام 1406هـ، واصل قيامه بالإمامة فيها، في جامع حي العدل بالغسالة، واستمر مواظبا على الامامة فيه، لما يقارب عشر سنوات، وكان يستغل دوره كخطيب للجمعة، في تبيين الحق وامور الدين، والنصح والارشاد للناس فيما ينفعهم، وتعليمهم والتوجيهات الهادفة لهم، وفي الأمر بالمعروف والنهي المنكر، والتنبيه إلى المخالفات التي قد تقع، وفي التحذير من عواقبها المحتملة، وكل ما يلزم من النصح والإرشاد والتوجيه،

وكل ما يهم المجتمع خاصة وعامة، وكان يعالجها بموضوعية وروية، ويخاطب المتلقي أيا كان  بما  يفهمه ويستوعبه، بأسلوب بسيط غير متكلف، يناسب العالم والمثقف والعامي، ويدركه الكبير و الصغير، فيبّسط الأمور ليفهمها الكل دون إخلال أو نقص، وينتقل بالسامع من المحسوسات المدركة إلى الغاية المستهدفة، وتوصل إلى ذلك من خلال الخبرات المتراكمة، والممارسات الطويلة القوية، مع ما يتمتع به من علم غزير وفهم سليم، وترقى بمجتمعه من خلال ما يقوله ويفعله، إلى مستويات عالية من الفهم والإدراك،

حتى انك لتتعجب عندما تناقش كثيرا منهم، وما تجدهم عليه من فهم واستيعاب، ومعرفة والمام بكثير من مستجدات العصر، واطلاعهم الواعي لمشاكل العالم، وما ذلك إلا من خلال ما يتلقونه من محيطهم، ولابد أن يكون له دور في بعض هذه الجوانب التوعوية، من خلال خطبه وأحاديثه وممارساته.

كانت لا توجد الكثير من الخطب المنبرية المناسبة، ولا يوجد بين الناس من لديه القدرة على صياغتها، وانما هي بعض مطبوعات قديمة متوارثة، غالبها الفت في عصور قديمة، اما من العهد المملوكي أو العثماني، يداخلها كثير من التكلف والسجع والمحسنات، وينقصها العلم النافع والمفيد للناس،

وما يستفيدون منه وما يعالج مشاكل ومتطلبات حاضرهم، حتى أن معظم الخطباء يتغنون بها عند القائها، في اسلوب ممجوج ركيك يحجب عورهم وعورها، وهو إلقاء روتيني قد ورثوه وساروا عليه، يعتبرونه اداء لأسقاط واجب لا غير، لا يخرج منها المتلقي بكثير نفع أو فائدة،

ولكن هذا هو الموجود بين ايديهم وجهدهم، وليس في اليد حيلة أو وسيلة للتغيير، حتى انهم ظنوه الحق الواجب الذي لا يصح تغييره، ولذلك عندما ابتدأ يصوغ خطبا تناسب الحال، وطرق مواضيع تهم الناس في حياتهم الحاضرة، اضطر إلى التدرج معهم في ذلك حتى يجد القبول،

لأنه واجه كثيرا من التعنت وعدم القناعة،  بل وحورب بكثير من التعليقات اللاذعة من البعض، لظنهم وايمانهم انه لا يصح من الخطب إلا ما ورثوه منها، وما قد ساروا عليه خطبائهم، فأصبحوا ينظرون إلى هذه الخطب بقداسة وتبجيل معين، ولا يعترفون بغيرها بل يعتبرونه نوعا من الترهات، حتى قال قائلهم عن خطبه المستحدثة : (إن هذه لم تعد خطباً، بل هي كلام عابث، يجمعه لنا من الصحف والجرائد)،

بل وتوجس بعض كبار السن من العوام، وظنوا أن صلاتهم لن تجزيهم في هذه الحالة، ولكنه مع ذلك واصل في التجديد، واستمر على  نهجه الذي اختطه، إلى أن اتضح لهم مع الوقت صحت ما ذهب إليه، وأحسوا بالفائدة التي يخرجون بها من الجمعة، من خلال ما يسمعونه من هذه الخطب، مما جعلهم يقبلون عليها بكل ارتياح، ويغيرون نظرتهم التقليدية وبكل قناعة، بل قلده فيها وتبعه معظم أئمة المساجد الاخرى، واقتدوا به في هذا المنحى، وكان بعضهم يطلب منه شيئاً من خطبه ليلقيها بدوره في مسجده، واصبح دور خطبة الجمعة موافقا للغرض الذي فرضت من اجله، وقد اجتمع لديه كثير من هذه الخطب، من خلال عمله خطيبا لسنوات طويلة،

وبلغت المئات إن لم تكن بالآلاف، خطب متنوعة تعالج كل جوانب الحياة، وتحتوي على المفيد النافع، وتعالج كثيرا من الأخطاء والادواء، في جميع جوانب الحياة المعاصرة، وكان في آخر حياته يحرص على ترتيبها وتنقيحها وفهرستها، لتخرج للناس مجموعة في كتاب مناسب، مع العلم أن خطبه لم تكن قاصرة على  خطب الجمع والأعياد، بل كان خطيبا في كثير من المناسبات الاجتماعية، وكان لسان مجتمعه المعبر في الاحتفالات العامة والخاصة، وأمام الضيوف والمسئولين، رحمه الله وكتب له اجر ما قدم وثقل بها في موازينه.

اعماله الوظيفية:

وجه جلالة الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله، الشيخ عبدالله القرعاوي رحمه الله، بترشيح من يتوسم مناسبتهم للقضاء من طلابه، فاختار المتفوقين وكان واحد منهم، وصدرت الموافقة الملكية على تعيينهم قضاة في المحاكم الشرعية، حيث صدر قرار تعيينه في عام 1372هـ، وكيلا للمحكمة الشرعية بفيفاء، ثم صدر في العام التالي 1373هـ، تثبيته قاضياً في نفس المحكمة، وكانت حينها معظم هذه المحاكم في بداية تنظيمها، والعمل القائم في معظمها بسيط واجتهادي، فليس لمعظمها مقار رسمية معتمدة، ولا تتوفر لها السجلات والقيود، وإن وجدت فليست مفعلة كما ينبغي، وإنما تسير الاعمال حسب اجتهادات القاضي وخبراته،

فاذا كان القاضي منظم ومجتهد تنظمت محكمته، والعكس بالعكس، وعندما استلم العمل في هذه المحكمة، لم تكن امامه فيها مرتكزات لمن سبقوه يسير على منوالها، رغم أن المحكمة لها ما يقارب عشرين عاما قبله، فكان لزاما عليه أن يعمل باجتهاده الشخصي، على ترتيب وتنظيم اعمالها، ويبتكر له طريقة ناجحة ثابتة، وفي نفس الوقت عليه أن يثبت مكانته كقاض ناجح في مجتمعه، وبالذات وما زال صغير السن في معايير قضاة ذلك الوقت، ولكونه يعمل في بلده وبين أهله وجماعته، وقيل(من عرفك صغيراً احتقرك كبيراً)،

فبذل كثيرا من الجهد والجد والاجتهاد لإثبات مكانته المعتبرة، ثم في تنظيم اعمال المحكمة، وابراز دورها كمؤسسة مهمة في حياة الناس، والعمل على تغير كثير من مفاهيم المجتمع عنها، وحتى أمام المسئولين ومشايخ البلدة، فالناس تحترم القاضي كمنصب ديني له التقدير والاحترام، لكن ما يقوم به في المحكمة من احقاق الحق، وفي مناصرة المظلوم، ورفع راية الحق والعدل بين الناس، فقد كانت شبه مهمشة بين الناس، لأنهم لم يشاهدوها حقيقة قائمة بين أيديهم من قبل، فلذلك سعى جاهدا إلى كل هذه الغايات الاساسية، وكان في مقدمتها توفير مقر مستقل وثابت للمحكمة؛ لأنه لم يكن لها مقر من قبل،

بل كان القاضي يجلس للخصوم حيثما وجدوه، اما في بيته أو في المسجد أو في مركز الإمارة، ثم قام على تفعيل السجلات والقيود والمضابط الورقية، ويثبت فيها كل الاعمال والخصومات والقضايا، لتكون مرجعيات مرصودة ومسجلة، وعلى هذا الاساس ومع الوقت أصبح للمحكمة وللقاضي دور مؤثر معترف به في المجتمع، ويحسب للمحكمة ألف حساب فيما هو من اختصاصها، وبرزت للمظلومين وطلاب الحق حصناً حصينا يلجؤون إليه، ويجدون فيها الحماية والإنصاف والحق، وتعطيهم حقوقهم ويشعرون بالقوة والعدالة المستحقة.

تمرس في القضاء وكسب الخبرة والثقة، وكانت له أساليبه العظيمة في القضاء، التي توصل إليه من خلال خبراته وممارساته، ولما يتمتع به من ذكاء وسعة علم واطلاع، فكانت أحكامه قوية ومقعدة، قد استوعبت كل نقاط القضية وجوانبها واركانها، وتنزيل الحكم بما يتوافق مع مقتضيات العدالة، مما يندر معه أن يكون عليها اعتراض أو نقض مقبول، لإصابتها الحقيقة وعين الصواب، وكان يتروى في احكامه بما يجلي كل غموض، وكانت طريقته تتدرج من عرض الصلح ما امكن، والاجتهاد في إنهاء المشكلة بالتراضي بين الأطراف، فإن لم يجدي ولم يجد تجاوبا أو قبولا، فحينها يفتح مضبطة لدعوى الخصوم، تحرر فيها دعاويهم واجاباتهم وبيناتهم،

ثم يستمع ويناقش ويستوضح، إلى أن تتضح الدعوى كاملة له، وتبين الحقيقة بجلاء امام ناظريه، وقد كانت من بعض اساليبه الذكية، في انه إذا احتد النقاش بين الخصوم، تركهم يواصلون جدالهم، وتغافل عنهم بطريقة لا يتنبهون إليها، ويشعرهم أنه مشغول عنهم بالكتابة أو بغيرها، وأنه بعيد عنهم لا يسمعهم، وإذا ما خفت حدة النقاش منهم أو من بعضهم، استثارهم بسؤال عابر وكانه غير مقصود، ليواصلوا بوحهم وابداء حججهم، ومن خلال هذا النقاش والحوار، ومن تعاتبهم احيانا،  تتبدأ بعض الحقائق من فلتات اللسان من هذا أو من ذاك، فقد يفصحون أو يفصح بعضهم عن بعض المكتوم عن غير قصد، (كاد المريب أن يقول خذوني)، ويكون اثنائها قد رصد شيء من هذه النقاط يناقشهم فيها، ويقررهم ببعض ما قالوا بأنفسهم، مما لا يستطيعون التنصل عنه، فتتضح في الغالب القضية ويحكم فيها بما يناسبها، وهناك طرق كثيرة واساليب ذكية مماثلة يستخدمها، انما هذا كنموذج واحد، مما جعل الكل يرضون عن احكامه وعدالته وانصافه.

سأله احدهم في احد الجلسات الخاصة، عندما قال له أراك يا شيخ في كثير من الاحيان قد عرفت المشكلة، وقررت الحكم، ولكنك تؤجل ولا تفصح وتطوّل في المسألة، وتتأكد من أمور وتطلب بيانات في اشياء شبه واضحة، فيا ترى لماذا تفعل كل ذلك ؟، فأجابه ضاحكاً : أرأيت الجزار إذا أراد أن ينحر ثوراً، ألا تراه قبل أن يقدم على ذلك،  كيف يربّط الثور ويحكم وثاق رجليه ويديه، حتى إذا تأكد من كل ذلك نحره، قال بلى، قال فلماذا تظنه يفعل كل ذلك، فأجابه لأن الجزار يضمن أن الثور لن يقاوم ويرفس برجليه فيلحق به شيء من الضرر، قال إذا فاعلم إن القاضي يفعل كل ذلك واكثر، فلا يحكم حتى  يثبّت الخصوم ويحكم قيودهم، وتكون بالطبع هذه القيود معنوية، فهي ما يصدر من اعترافات من قبلهم، فتكون مستمسكا يقيدهم بها، ليصدر حكمه وقد استسلموا له تمام الاستسلام، فإن لم تكن هذه الاعترافات قوية، فلن يرضوا ابدا بقبول الحكم، وقد يقاوم الواحد منهم ويلحق الضرر بالقاضي ومن حوله.

عمل قاضيا في محكمة فيفاء لأكثر من اربع وثلاثين سنة، كانت ما بين عام 1372وإلى عام 1406هـ، وفي هذه الاثناء وفي حوالي عام 1405هـ، كلف بجولة تفتيشية على بعض المحاكم، شملت جميع محاكم الطائف، ومنطقة الباحة، ومنطقة عسير، ومنطقة نجران،  تكللت بحمد الله بالتوفيق والنجاح، وكانت دليلا على مدى ما وصل إليه من الثقة به، وبما يملكه من الخبرة الراقية المعترف بها، وقد ترقى في عام 1406هـ على درجة قاضي تمييز، ليعمل في محكمة التمييز في المنطقة الغربية (مكة المكرمة)، وفيها شغل رئيس الدائرة الحقوقية الثالثة، واستمر يعمل فيها لمدة ثمان سنوات، انتهت في عام 1414هـ، حينما تم احالته على التقاعد، بعد خدمة بلغت مدتها اثنتان واربعون سنة.

وبعد تقاعده حصل على رخصة محاماة، وفتح له مكتب للمحاماة في مكة المكرمة، وجد واجتهد في تنظيمه واداء مهامه على افضل وجه، في عمل اللوائح في الدعاوي والاعتراضات، وفي الاستشارات، وفي المرافعات، والقيام بالوكالة عمن يطلب منه ذلك في أي مكان، ونال شهرة واسعة من خلال نجاحاته المتوالية في معظم مناطق المملكة، وتوسعت اعماله وتشعبت، واستعان بكثير من الموظفين والكتاب، وواصل العمل فيه إلى اعتلت صحته في اخر عمره رحمه الله.

   وبعد تقاعده ايضا رشح عضوا في مجلس منطقة جازان، وعمل فيها مدة عضويته اربع سنوات، واجتهد على أن يكون فيها عضوا فاعلا نافعا، كتب الله اجر كل ما قدمه، ورحمه وغفر له وتجاوز عنه.

حالته الاجتماعية :

تزوج في حياته اكثر من زوجة، وجمع بين كامل النصاب، واستبدل زوجاً بزوج، ينشد في معظم ذلك الذرية الصالحة، وقد منحه الله كثيراً من ذلك، حيث بلغوا أولاده ممن هم على قيد الحياة عند وفاته،  ثمانية واربعون ولداً، منهم اثنين وعشرين ابنا، وستة وعشرين بنتا، وكثير من الأحفاد والأسباط.

وبلغ من تزوج بهم ثمان، وهن كل من (عافية بنت سالم الظلمي، ومريم بنت يحيى الثويعي، وفاطمة بنت سليمان الخسافي، ومريم بنت حسن الأبياتي، ومريم بنت حسن المثيبي، وآمنة بنت عبد الله اليماني، ومريم بنت محمد الثويعي، وخيرة بنت حسن العبدلي) رحم الله من مات منهن وحفظ بحفظه الباقيات.

والابناء هم: (عبدالله، ومحمد، وعبد الرحمن، وفيصل، وحسن، واحمد، وخالد، ومنير، ونبيل، وفهد، وابراهيم، وحافظ، وعبد الرحيم، وعمر، وعبد الصمد، وانور، وسعود ، وحسام، ووائل، وتركي، ويوسف، وعبد المجيد).

والبنات هن: (سلامة، ومحسنة، وعافية، وعائشة، وامنة، وزهراء، وفايزة، ولطيفة، ومنى، وجوهرة، ووفاء، وسلوى، وزينب، وهدى، وعفاف، وامينة، وجميلة، وسناء، وبشرى، ودلال، وريم، ونهى، وطيف، وشذى ، واسماء، وتسنيم).

 رحم الله من مات منهم وحفظ بحفظه الباقين وبارك فيهم، وجعلهم بارين لوالديهم.

وفاته:

لقد عان كثيرا من الامراض في سنواته الاخيرة من عمره، حتى اقعده ذلك وحبسه في بيته، إلى أن توفي رحمه الله وغفر له، في اليوم الاول من شهر رمضان المبارك، من عام 1440هـ، في مكة المكرمة، وصلي عليه في المسجد الحرام، وتم دفنه في مقبرة الشهداء بمكة المكرمة، رحمه الله رحمة واسعة، وغفر له وتجاوز عنه، ورزقنا بره وصلته، وجمعنا به وبكم وبكل من نحب في جناته جنات النعيم .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محبكم/ عبدالله بن علي قاسم آل طارش الفيفي ــ ابو جمال

أعلام ومشاهير

  الرياض في 1443/9/29هـ

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى