مقالات

اللحظة الخليجية الحاسمة !

د. علي بن يحيى بن جابر الفيفي

الحمد لله الذي يحوط عباده بالحفظ ويكلؤهم بالرعاية ، ويمنُّ عليهم بالنصر على أعدائهم المتربصين بهم شراًّ ومكراً وكيداً  ؛ لأنه ﷻ قد جعل حفظ الأمة من كيد أعدائها سنّة من سننه الربانية ، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل ربه ثلاثاً ، قال: 

فسنة الله ﷻ وتقدست أسماؤه أن طائفة من الأمة ستبقى ثابتة على الحق ، ومنصورة على أعدائها حتى يأتي أمر الله سبحانه وتعالى وهم ثابتون ومنصورون بنصر الله وتأييده وحفظه!، فله الحمد والفضل والمنّة على عباده جميعاً.

وهذه السُّنة التي يحفظ الله عزوجل بها دينه يُحققها بأسباب يجب على الأمة أن تبذلها ، والله سبحانه وتعالى هو الذي يُعينها ويُيسر لها سبل تحقيقها ؛ لِيَمُنَّ على من يحققها بالنصر والتمكين ، والحفظ والتأييد في مقارعة أعداء الدين والأمة الطامعين في ثرواتها ، والحاقدين عليها لدينها وثباتها ، وما أفاء الله عليها من النعم والخيرات الكثيرة!.

والأمة في هذه الحقبة من الزمن تواجه أخطاراً كبيرة ، وعداءً شديداً ، وسياسات ماكرة خبيثة من أعدائها المتربصين بها! .. وأمام هذه الأخطار المحدقة ، والسياسات العدوانية التي تستهدف الأمة في وجودها وكيانها وثرواتها ، أصبح من الواجب المتحتم على الأمة أن توحد جهودها ، وأن تستنفر كل قدراتها وإمكانياتها في مواجهة الأخطار بروح الإيمان بالله ﷻ ، ثم بحنكة قياداتها ، ووعي نُخبها ، وتلاحم شعوبها ، وتعميق روح الانتماء والاعتزاز بالدين الحق حاكماً ومهيمناً على كل شؤونها ، وبالهوية الإسلامية والعربية جامعة وموحدة لكل شعوب الأمة ، مع نبذ التعصب المذموم ، والتطرف والغلو ، والخلافات التي توهن قوة الأمة وتفرقُ كلمتها.

ولا شكَّ أن هذا التوجه الواجب فيه مصاعب ومتاعب كثيرة ؛ لعدة أسباب ومعوقات تحول دون تحقيق الوحدة الإسلامية ، والاتحاد الذي يجب أن يقوم على التعاون الصادق ،  والتكامل النافع ، بما يحقق مصلحة الأمة كجسد واحد ، وكيان متحد في آماله وتطلعاته ، ومتعاون في مواجهة آلامه ومصاعبه .. ومن أبرز هذه المعوقات والمصاعب ما يلي:

أولاً: التأثير الخارجي الذي تمارسه الدول التي تتعامل بسياسة ( فَرِّقْ تَسُدْ ) ضد جميع شعوب الأمة ودولها .

ثانياً : الظروف الصعبة التي تعاني منها أغلب دول الأمة وشعوبها!.

ثالثاً: أن إصلاح أوضاع الأمة يحتاج وقتاً طويلاً ، وجهداً عظيماً ، ووعياًّ كبيراً  وفرصاً مواتية تستثمر أمثل استثمار ، وقادة أفذاذاً يؤمنون بواجب الإصلاح ، وقناعات مجتمعية تستجيب وتعين وتتعاون في تحقيق ذلك.  

ولا شك أن دول مجلس التعاون الخليجي هي في صدارة المشهد المقاوم لمخططات الأعداء ، ولديها قدرات وإمكانيات لا تتوفر لغيرها في الوقت الراهن ، ولذلك فالمؤمل والمنتظر منها مبادرات قوية وفاعلة في تعزيز قدراتها ، وتعظيم نفوذها ، وتقوية أواصر العلاقة والترابط بين جميع مكوناتها وشعوبها ، وأجهزتها القيادية والخدمية ؛ لتكون كتلة متحدة في توجهاتها وإنجازاتها ، وفي مواجهة الأخطار والآثار التي تستهدفها ، ففي الاتحاد قوة ، وفي الترابط والتكاتف عزةٌ ومَنَعَةٌ.

إن النجاحات التي تحققت لدول مجلس التعاون الخليجي بفضل الله أولاً ، ثم بجهود قياداتها الموفقة لهي مبعث فخر واعتزاز لكل عربي ومسلم ، ولكن يبقى الطموح عالياً ، والأمل كبيراً أن تتسارع خطوات النجاح في شتى المجالات بما يعود بالنفع والفائدة الكبيرين على أبناء دول المجلس ، وعلى مستوى العالم العربي والإسلامي كافةً ، ومن ذلك ما يلي : 

أولاً: إنشاء منصة توظيف موحدة لجميع أبناء مجلس التعاون الخليجي. بحيث تكون أولوية التوظيف لأبناء الوطن ، ثم لإخوانهم من دول المجلس ، مع توحيد أو مقاربة أنظمة الخدمة والتقاعد والرواتب في القطاعين العام والخاص في جميع دول المجلس.

ومثل هذه الخطوة عندما يبدأ العمل بها تنفيذاً وتطبيقاً وتطويراً ، ستكون فاتحة خير على جميع دول المجلس ؛ لأنها ستتيح لشباب الخليج فرصاً أكثر للعمل في مجتمعهم المتكامل.

كما أنها ستسد حاجات دول المجلس في كثير من الأعمال بطاقات خليجية تجمع بين حب العمل ، وعمق الانتماء للمجتمع الخليجي ، مع التأكيد على أن الشباب الخليجي سيكون أكثر إنتاجاً وإسهاماً في الدخل المحلي من غيره بكثير جداً.

ثانياً: السعي لتوحيد عملة دول المجلس ، وتوحيد تعاملات دول المجلس المالية مع الدول والجهات الأخرى من حيث الاتفاقات الدولية التي تحقق مصالح مشتركة بين الطرفين ، بما يحقق أثر العلاقات الاقتصادية الخليجية على الملفات الأخرى مع تلك الأطراف!.  

ثالثاً: تفعيل قيادة مشتركة لجيوش دول مجلس التعاون الخليجي تجعل من تلك القوات جيشاً متناغماً ومتكاملاً في تسليحه ، وتدريبه ، وتنظيمه ، وكل ما يتعلق بشؤون الدفاع ، والتكتيكات العسكرية ، والمهام القتالية ؛ ليكون على أُهبة الاستعداد لأي طارئ.

رابعاً: بذل الجهد الممكن ، وبأسرع ما يمكن في جمع الأمة وتوحيد كلمتها ، وتقوية وسائل وسبل التعاون والتواصل ، والتنسيق والتكامل في كل المسائل والملفات ذات التأثير على الأمن الوطني أو الإقليمي بشكل أو بآخر. 

  خامساً: من أهم ما يُحقق لدول المجلس اتحاداً يقوي نفوذها ، ويحقق رؤيتها ، ويعطي لموقفها هيبةً تُقَدَّر ، وحضوراً مؤثراً في القرار الدولي والإقليمي هو : توحيد سياستها الخارجية رسماً وتطبيقاً وتحدثاً.    

وكل ما سبق وغيره مما يجعل دول المجلس قوة واحدة اسماً ومعنى يمكن أن يتحقق عبر مجلس التنسيق الأعلى لدول المجلس الذي يُوجّه برسم سياسة موحدة باسم دول مجلس التعاون الخليجي.

إن دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة المملكة هي قوة الأمة الصاعدة والصامدة في وجه التحديات والمخاطر المحدقة بالأمة في هذا الزمن ، وقد نجحت نجاحاً كبيراً في مواجهة مخططات الأعداء التي تستهدف الأمة.

وهي اليوم بحاجة أكبر إلى زيادة حضورها ، وتقوية نفوذها ، ومواجهة القوى الخارجية بكلمة واحدة ، ورأي واحد ، وقوة واحدة في كل المجالات : السياسية ، والاقتصادية ، والعسكرية ، وفي كل الملفات التفاوضية ، والمصالح المشتركة ، والمواقف المعلنة والمبطَّنة.

لقد بات الأمر جليًّا أن الغرب المتغطرس يخطط لتقسيم وإضعاف كل الدول العربية وفق سياسات تتلون كالحرباء في كل موقف أو حدث! ، فمن حرب أمريكا وبريطانيا على العراق وتسليمه بقوته البشرية ، وثرواته المتنوعة لإيران الصفوية! ؛ لِتُمَزِّقَ نسيجه الاجتماعي ، وتُغرقَه في مستنقع الطائفية المقيتة ، والمليشيات الإرهابية المسلحة! .. إلى ثورات ما سمِّي زوراً وبهتاناً بالربيع العربي الذي حقق للغرب تمزيق دول! ، وإضعاف أخرى!.. ثم اليوم يتواصل مخطط إضعاف الدول العربية وتمزيق نسيجها الاجتماعي ، وتقسيم كيانها الجغرافي والاجتماعي ، وذلك بدعم غربي لا نظير له لقوة الكيان الصهيوني المحتل ، الذي يعيث حرباً وفساداً ، وتدميراً وتجويعاً وإبادة للشعب الفلسطيني الأعزل!، وتهديداً وعدواناً على الدول المجاورة للكيان الصهيوني الطامع في الاحتلال والتوسع ، وبسط قوته ونفوذه على كل الدول العربية إن استطاع ، وكل ذلك بدعم غربي تقوده أمريكا دون مراعاة لعلاقاتها ومصالحها مع الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط!.

إن اللحظة التاريخية الحاسمة لدول مجلس التعاون الخليجي تجعلها رأس الحربة في مواجهة تلك المخططات الخطيرة كقوة واحدة ومتحدة في شؤونها الداخلية والخارجية ؛ لِيَمنَّ الله عليها بقيادة الأمة في هذا الظرف العصيب ، وفي هذه المعركة ذات الأبعاد الخطيرة بنتائجها وآثارها العاجلة والآجلة. وهي قادرة بعون الله عز وجل ، ثم بحكمة قياداتها ، وتلاحم شعب الخليج الواحد ، وبما أفاء الله عليها من الخيرات والإمكانات أن تقف موقفاً يُخلده التاريخ ، وتتناقله الأجيال ، ونعيشه حاضراً نعتز به ، ومستقبلاً نتطلع إليه.. ولا شك أن أنظار الأمة شاخصة إليها ، ومعولةٌ عليها ، ومعتزة بمواقفها المشرّفة ، وحنكة قياداتها المؤثرة ، وتلاحم شعبها الموحد في آلامه ، وآماله وطموحاته ، وفي عاداته الأصيلة ، ومبادئه النبيلة.                  

   والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

الأربعاء 27 محرم 1447ه.

‫2 تعليقات

  1. لا يسعني إلا أن أعبّر عن إعجابي الكبير بالمقال الذي كتبه الدكتور علي بن يحيى بن جابر الفيفي، حيث تناول فيه موضوعا بالغ الأهمية، وهو اللحظة الخليجية الحاسمة ، فقد نجح الدكتور في تسليط الضوء على التحديات التي تواجه دول مجلس التعاون الخليجي، وأهمية الوحدة والتعاون في التصدي لهذه التحديات.
    إن أسلوب الدكتور علي يعكس عمق تفكيره ورؤيته الاستراتيجية، حيث يتحدث بثقة عن ضرورة تلاحم شعوب الخليج وتعزيز الهوية الإسلامية والعربية ، وقد أبرز بوضوح المخاطر التي تهدد الأمة، وضرورة التصدي لها بروح من التعاون والتكامل.
    كما أن الدكتور قدم مجموعة من المبادرات العملية التي يمكن أن تسهم في تعزيز القدرات الخليجية، مثل توحيد أنظمة العمل والتوظيف وتفعيل القيادة المشتركة للجيوش هذه الأفكار تفتح أبواب الأمل في مستقبل أفضل، وتعكس فهما أمنيا عميقا لاحتياجات الأمة وآمالها.
    إنني أُثمن جهود الدكتور في طرح هذه القضايا الحساسة، وأدعو الله أن يوفقه في مساعيه نحو خدمة وطننا الغالي وتحقيق طموحاته ، حيث إن كلماته تشكل دعوة صادقة للعمل الجاد والمشترك، وهي مصدر فكر لكل من يسعى إلى تعزيز الوحدة الخليجية وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.
    بارك الله في جهودك يا أبا عبدالرحمن ، وجعلها في ميزان حسناتك.

  2. الدكتور علي حفظه له صاحب قلم وطني مخلص وله سلسلة مقالات عميقه في الذب عن وطننا العزيز وبيان عوار من يدسون السم في العسل من ارباب المذاهب الهدامة والأفكار الضالة والأحزاب المخربه للأوطان والمجتمعات وفي هذا المقال يلقي الضوء على وسائل نافعة وطرق محافظة للرقي والتقدم والقوة
    وحقيقة من يسخر قلمه وفكره لدينه ووطنه وقيادته من اعظم المجاهدين في سبيل الله ومن حراس الشرف والفضيلة والكلمة الصادقة التي تنير الطريق تغني عن الاف الجنود وترسانات السلاح
    والأمم الناجحة هي من يكون اهل الفكر وأصحاب الرؤى من يقود أفرادها
    ولله الحمد والثناء هذه البلاد وقيادتها ملأت الدنيا وشغلت الناس واصحبت محط الأنظار وقبلة العالم
    و لا شك ان المفكرين والكتاب مثل الدكتور علي وغيره من ابناء الوطن يرون مالا نرى ويستشرفون المستقبل
    وعليهم بعد الله نعول في النصح والتنوير لكل ما يواكب رؤية قيادتنا الرشيدة والتناغم مع تطلعات ولاة امرنا حفظهم الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى