
كنتُ في الصف الرابع، صغيرًا لا أحتمل ثقل دفاتر الواجب، ولا طول الطريق إلى المدرسة. وفي صباحٍ من تلك الصباحات، خبّأتُ قلقي خلف عذر ركيك، وقلت لوالدتي بصوتٍ مستجدٍ للشفقة:
“ظهري يضرّني ..”
فمنحتني -بعفوية الأم- ما تمنحه الطبيعة للغيم إن ثقل: فسحة استراحة، بلا سؤال ولا تحقيق.
وأنا ظننت أنني اجتزتُ الموقف … ونجوت.
لكن الساعة السابعة حملت مفاجأتها، حين دخل والدي عائدًا من عند الظان ( الضأن ) ، بعد أن أعدّ لها مأكلها و ملأ مراويها ، وعاد بخطوات رجلٍ أنهى شطر يومه الأول وهو يردد أبيات من الشعر .
نظر إليّ، مستلقياً حيث لا ينبغي أن يكون طفل في هذا الوقت، وسأل بهدوء لا يرفع نبضة ولا يخلخل قلبًا:
“ليش ما رحت المدرسة؟”
جمعتُ ما استطعتُ من الكلمات، لا ترتيب فيها ولا صِدق، وقلت:
“تعبان ..”
لم يعاتب، ولم يُلمح غضبًا في عينيه، بل قال بلهجة واضحة :
“دامك تعبان… تعال معي لمزهب ( المزرعة ) ، تغيّر جو وتشم هوا.”
هكذا، وجدت نفسي مرافقًا له إلى وادي ربيد، حيث الأرض ليست شعرًا ولا مجازًا، بل أرضاً جادّة:
إذا زرعتها، أعطتك.
وإن تراخيت، كشفتك.
وإن كذبت عليها… ردّت عليك في أول خطوة.
في الطريق، توقّف عند بوفيه بسيطة، واشترى لي ساندويتش بيض وكوب عصير.
قدّمها لي كما يقدّم الأب لابنه بداية يوم لا يريد له السوء، ولا يريده أن يسقط من أول خطوة.
قضمتُ أول لقمة، فهاج الملح في فمي كأنه موجٌ صغير، فقلت:
“مالح يا أبوي!”
فأجاب مبتسمًا:
“خلّه .. أي اتركه .”
وما إن وصلنا الزهب حتى انكشف المشهد:
أرض ممتدة، مسطّرة بسَنابل الذرة الرفيعة ، و عيدان القصب مصفوفة كأنها جنود في وقت راحة . وأشار والدي إلى أربعة زنابيل من الخسف، كل واحد منها يكاد يبتلع طفلاً في مثل عمري
أشار والدي إليها:
“هيا… نعبي الزنابيل أميوم حاصل أي المطر على مشارف الإنهمار من السحب .”
أمسكتُ المحش، وانحنيت.
كانت الأرض قريبة جدًا من وجهي، كأنها تسمع أنفاسي.
وكنتُ أقطع العذوق، وأجمع السنابل، وأحشوها في الزنبيل.
والعرق ينساب على وجهي، لا يوبخ، لكنه يذكّرني بكل كلمة قلتها صباحًا.
من الثامنة … حتى قاربت الشمس كبد السماء،
أعمل دون توقّف،
وأكتشف أن ظهري الذي ادّعيت ألمه… كان في الحقيقة يشكو من شيء واحد: خوفي من الواجب، لا من العمل.
وحين اشتد الجوع، عدتُ لذلك الساندويتش المالح.
أكلته لقمةً واحدة، لا أسأل، ولا أحتج… فقد صار الملح أصغر من جوعي، وأقل من حاجتي.
عند الظهر أكلنا نصف دجاجة مع الرز، ثم عدنا نستكمل العمل.
ولم يُنقذني إلا مطر نزل بعد صلاة العصر، كأنه ختم اليوم بختمٍ رحيم، وأعلن نهاية الدرس.
عدتُ إلى البيت، وثيابي تحمل أثر الطين،
لكن قلبي حمل أثرًا أكبر: أثر يوم لم يربّني بالزجر ولا بالصوت… بل ربّاني بالعِبرة، والعمل، والصمت الذي يفهم أكثر من الكلام.
• علّمني أن الكذب أثقل من الزنبيل ، وأشد لسعًا من الشمس فوق ظهري الصغير.
• وأن الأعذار الواهية لا توقِف يومًا في الحقل، ولا تعطي الصدق مسكنًا في القلب.
• وأن التربية ليست صوتًا يعلو .. بل موقفًا ينغرس.
• وأن الآباء يربّون بأفعالهم أكثر مما يربّون بأصوات
• وأن العمل يربّي أكثر مما يربّي الدرس، والعرق يعلّم أكثر مما تعلّم المواعظ.
ومذاك اليوم، ما جرؤتُ أن أكذب على والدي… ولا على نفسي.
فقد علّمني أن بعض الدروس لا تُكتب في دفاتر… بل تُكتب في الظهور المنحنية، وفي العرق الذي ينزف صدقًا، وفي اليد الصغيرة حين تمسك بالمحش وتفهم لأول مرة معنى الرجولة.
وكلما ضاق بي طريق أو أثقلني همّ… تذكرت ظهري المنحني فوق الزنابيل، فأقوم من سريري كأنني بعيرٌ نشِط من عقال، لا يلين ولا يكسل.
رحم الله تلك الأيام…
وحفظ والدي، فقد ربّى في يوم واحد… ما يُربّي غيره في عمرٍ كامل.



