
جبل قيس في محافظة العارضة، منطقة جازان، جبل ممتد داخل حدود اليمن، فهو مختلف عن كثير من المناطق الحدودية، فهو داخل في عمق الحدود في زاوية ضيقة من محيط مختلف، ونعرف ذلك من خلال التعرف على حدوده، ففي جنوبه جبال رازح والأزهور، ومن الشرق بلاد غمر، ومن الشمال بلاد غمر ومنبه، ومن الغرب بني معين، ومن قمة الجبل تشاهد فيفاء في الشمال مباشرة، كنت قد زرته في العام الماضي، وأجّلت الكتابة عنه حينها، حتى مضت هذه الفترة الطويلة، مما جعل كثيرا من المعلومات تتسرب، فاستعنت بالأخ الكريم الاستاذ سليمان بن حسين آل دخنان القيسي حفظه الله، الذي جدد لي الذاكرة، وعدل وصحح ورتب لي المعلومات من جديد، مما جعلها شبه متكاملة، تليق باطلاعكم عليها، وهنا تبدأ الحكاية .
قمت مع رفقة طيبة من الاخوة الكرام، بزيارة هذا الجبل الأشم، ولم تكن بالنسبة لي الزيارة الاولى، فقد سبقتها عدة زيارات، ولكن كانت أخرها قبل اكثر من ثلاث ثلاثين سنة، ولابد أنها قد تغيرت واستجدت أمور كثيرة خلال هذه الفترة، لذلك كانت سعادتي مضاعفة بهذه الزيارة، ولذلك انطلقنا على بركة الله، وبتوفيق منه سبحانه، في هذا اليوم المبارك السبت الموافق 6/2/1446هـ، تغمرنا الفرحة والسعادة والبشر، واخترقنا مدينة العارضة، من جهة الغرب إلى أقصى الشرق، وصولا إلى سفوح جبل سلى والعبادل، حيث ابتدأ صعودنا في عقبة هذا الجبل، وبعد أقل من كيلو متر وصلنا إلى فسحة من الأرض على يسار الطريق، تتربع فوقها حديقة البلدية، المعروفة باسم حديقة صاحب سمو الملكي الأمير محمد بن ناصر آل سعود، أمير منطقة جازان السابق حفظه الله، وهي حديقة كبيرة متربعة على هذه التلة، مشرفة ومطلة على معظم مدينة العارضة، الممتدة على مدى الأفق في الأسفل، ببيوتها وشوارعها وبساتينها ووديانها، في منظر جميل أخاذ، لم نتوقف بل واصلنا المسير، لنصل بعدها بحوالي الكيلومتر إلى مفترق طرق، احدهما الخط الرئيسي المستمر صعودا إلى جبال العبادل، والثاني يتجه بك إلى جهة اليسار، وهو الذي سلكناه، لأنه الطريق الموصل إلى وجهتنا (جبل قيس)، مرورا بجبل سلا ومناطق القبائل القاطنة فيه، من ودعاني وجابري ومعيني.
كان الطريق في أوله يبدأ بالهبوط قليلا، في انحدار بسيط يصل إلى وادي الروغ، واد جميل كثيف الاشجار، ينحدر من أعالي هذه الجبال، اجتزناه صعودا إلى الضفة المقابلة منه، في صعود متدرج في داخل بقع جبل سلا، ومناظره الخلابة الجميلة، ونحن نخترقها في اتجاه افقي، لنصل إلى نهايته في اقصى الشمال، وقد مررنا خلالها بعدة بقع وقرى وعقبات وشعاب، ومنظر مدينة العارضة يمر من اسفل منا في شريط جميل، ونحن نبتعد قليلا قليلا، إلى أن توارت واحتجبت، لنرى ما خلفها في الأفق، من امتداد وأدي جازان، وأجزاء من بحيرة السد العظيمة فيه، وقد مررنا في هذه البقعة على عدة قرى، ومنها قرية العرقة، والغربي، والخشفة، والبقعة، والغارب، وتقاطع الطريق فيها مع طريق الكروس، إلى أن خرجنا منها لنطل على بقع أخرى ممتدة، لنهبط في بداية قرية العباسية من قرى قبيلة الجوابر، مواصلين سيرنا في خط معبد فسيح، نخترقها لنصل إلى قرية الظهراني، حاضرة قبيلة بني معين، وهي تجمّع سكاني كبير، تتوسطها على جانب الطريق في اليمين، مدرسة ابتدائية ومتوسطة للبنين.

واخترقنا هذه القرية مواصلين طريقنا، ولم تمضي فترة إلا ووجدنا انتهاء الطريق المعبد، ليبدأ بعده الطريق الترابي، وكان طريق ممسوحا لا بأس به، ولكن لا تعبره إلا سيارات الدفع الرباعي، لأنه يمر بكثير من التعرجات والأودية والمنحدرات، ونحن نتجه به إلى الشرق وإلى الشمال، لنصل به إلى وادي (سقم)، وهنا نكون قد دخلنا بداية بلاد قيس، والمسافة من هنا إلى مقر مركز الأمارة، الواقع في أعلى قمة جبل قيس، تقدر بخمسة عشر كيلومتر، طريق لا يختلف في معظمه، متشابه وعلى مستوى واحد، تتخلله احيانا بعض الصعوبات البسيطة، والسرعات فيه لا تتجاوز في الغالب العشرين كيلو.
كانت الطريق في الماضي وفي آخر زيارة لي، تمر بطريق مختلف إلى هنا، حيث كانت الطريق تمر من اعالي قمة جبال سلى والعبادل، في طريق طويل وصعب المسالك وخطر، مما يعرف بطريق (خبارة)، ويأخذ قطعها حينها وقتا طويلا، إلى أن تهبط في هذا المكان وأدي سقم، ولكن هذه الطريق الجديدة التي سلكناه اليوم، كانت طريقا مختصرا ومعبدا في معظمه، وهو أكثر سهولة وراحة وامنا من الآخر.
اخترقنا هذا الوادي سقم، لنصعد نيد الجارد، ونتسلق بعض الهضاب والأودية والشعاب، في طلوع ونزول، وتعرجات بين منحنيات هذه الجبال، حتى نصل بعد عدة كيلوات إلى وأدي عناء، واد غزير المياه تتدفق منه الغيول على مدى العام، ويشرف من الاسفل على صخور وخزن عملاقة يصعب اجتيازها، ويعتبر احد روافد وادي جازان المهمة، وتتربع على منحنيات هذا الوادي في هذا المكان (قرية المجازيع)، التي كانت في الماضي ملتقى الطرق للقوافل والمسافرين، وكانت هي حاضرة قيس مع بداية العهد السعودي الزاهر، كانت مقر مركز الأمارة، وفيها مدارس البنين والبنات، والمستوصف والبريد، ولكن لموقعها المحاذي تماما على حافة الحدود، تسبب في نقل اكثر هذه الخدمات إلى خارج هذه القرية، وتم نقل مركز الامارة إلى قمة الجبل، حيث تقع بيوت المشايخ ومعظم سكان البلد.
لم نمكث كثيرا في هذا المكان الجميل، إلا بقدر ما اخذنا جولة بسيطة داخل الوادي، وارتحنا قليلا من عناء ركوب السيارة المتعب، وداعبنا مياه الغيل المتدفق، وغسلنا منه وجوهنا، ثم استأنفنا سيرنا مواصلين طريقنا إلى مقصدنا المرسوم، في اعلى قمة هذا الجبل الأشم المنتصب امامنا.

كانت طريقنا تأخذ باليسار في صعود متدرج، يغلب على اجزاء منها بعض العقبات، ومسافة الطريق لا تتجاوز خمس كيلوات، ولكنها تستهلك الكثير من الوقت لقطعها، فالطريق يمر في معظمه بمناطق خالية من السكان، ومعظمها مخصصة لرعي الغنم والأبل، وتوجد فيه قليل من التفرعات، التي تصل إلى بعض القرى الصغيرة في هذه الجهات.
ومنها قرية الجملة، وقرية الشابحين، وتوجد بعض البيوت الحديثة قرب نهاية العقبة في الأعلى، ومن بينها يشاهد طريق فرعي يتجه إلى اليمين، ولكننا تركناه الآن، لنواصل السير إلى هدفنا الرئيسي، على أن نعود لاستكشاف ما خلفه لاحقا، فاتجهنا مباشرة بالطريق الرئيسي إلى جهة اليسار، الموصل مباشرة إلى اعلى قمة الجبل، هذا المكان المسمى (العنيف)، مكان معتل مطل على كامل الجبل في كل الاتجاهات، لنهبط منه مواصلين طريقنا في اتجاه الشمال، لنجد هذا الجزء من الجبل عامر بالسكان والقرى والمزارع، والطرق فيه متشعبة في كل الاتجاهات، تصل بين القرى والبيوت الكثيرة، فيقابلك أولا طريق فرعي يتجه بك إلى الظهارة، وتجاوزناه هبوطا لندخل في واد صغير، تقع على ضفتيه وتكتنفه العديد من البيوت، حيث تكون من هنا بداية قرى السعادي.
ومن هذه البيوت، بيتا مسلحا يتربع على احدى المرتفعات، يرفرف فوق سطحه العلم السعودي الخفاق، كان هو مقر مركز الأمارة في هذا الجبل، وقد واصلنا طريقنا من بعده إلى جهة اليمين، متجهين إلى لحج القلاع، الذي كانت فيه مقرات مدارس البنين والبنات، وعبرنا منه إلى حبيل (الدبعاء)، الذي يقسم القرى في الأسفل يمينا ويسارا، واخذنا في هبوطنا بالطريق إلى اليمين، لنهبط به مباشرة إلى قرية (آبور)، حيث تقع بيوت المشايخ من آل دخنان، وتحيط بهذه القرية من كل الاتجاهات العديد من المزارع، فنرى على اليمين حقول الذرة الممتدة، وقد استوت للحصاد، بل حصد بعضها، والبعض الآخر ينتظر دوره .

وترى في الجهة المقابلة على اليسار، واد أخضر خصيب، وجدنا انفسنا مدفوعة للاتجاه إليه، كان شعيب عامر بالبساتين المنسقة، يمتد في داخل هذا الوادي وإلى عمقه في الأسافل، ويوجد في اعلاه بعد طريق السيارة في الداخل، ينبوع يتدفق بالماء الغزير، يستقي منه الناس في القديم وفي الحديث، ويسقون منه مزارعهم اسفل منه، ادخلت عليه الكثير من التحسينات والتطوير، بما يتوافق مع الحفاظ على المياه فيه، وعلى تدفقها بشكل انسيابي، وعلى نقائها ونظافتها، حيث عمل له العديد من الأحواض والخزانات، فسهل الاستفادة منه وفي الحفاظ على وفرة مياهه، وفي لوحة على أحد جوانبه مكتوبا فيها، قامت بهذا العمل الخيري (جمعية جبال العبادل) بمركز القصبة، على نفقة أحد (فاعلي الخير) جزاه الله خيرا.

وهبطنا مشيا على الاقدام، لنتجول بين المزارع والبساتين في الأسفل، وكانت مزارع وبساتين مكتظة وعامرة بالأشجار المثمرة، وجدنا فيها أشجار البن والموز والسفرجل والفركس والعنب (البباي)، وعدد كبير من الفواكه والخضار المتنوعة، وجلنا بينها وتذوقنا شيئا من ثمارها اليانعة.

ولكن جعلنا نبادر بالخروج منها سريعا، غزارة الامطار التي هطلت علينا فجأة وبكثافة، وكانت مصحوبة بالرعود والصواعق القوية، لنتجه مهرولين إلى بيت مضيفنا في الجوار، الشيخ حسين بن كباس سالم آل دخنان القيسي، وابنائه وأبناء اخوته حفظهم الله، المسمى قرية آبور الجميلة المنيعة، وكانت هذه البيوت في الجوار تتربع على مرتفع من الصخور، قرية تشرف على هذا الوادي الأخضر، والحقول الأخرى في الجهة المقابلة، وتحتوي على العديد من البيوت والقلاع الأثرية، والبيوت الحديثة ويتوسطها جامع كبير.

استقبلنا مضيفونا احسن استقبال، واكرمونا ابلغ الإكرام، وجلنا واطلعنا على كامل القرية ومحيطها، حيث كما اشرنا تطل من جميع الجهات على المزارع الحافلة بالزروع، ويوجد على امتداد الضلع من تحتها، عدة مزارع وقرى عامرة بالسكان، ومن هذه القرى قرية الشجن، وقرية الدحرة، وقرية محضوة، وامامها في الجهة الشمالية الغربية، تمتد على واجهة الجبل المقابل لنا، قرية (السعادي)، المكتظة بالبيوت والمزارع، تصل إلى قرب القمة من الأعلى، وفي الأسفل منها توجد عدة قرى، ومنها قرى المشورات، والظلف، ونيد الشامي.

وبعد أن ارتحنا واكرمنا مضيفنا بالغ الكرم، استأذنا في المغادرة لنواصل بقية تجوالنا، حيث قررنا زيارة بيت الشيخ جبران بن كباس معرف قبائل قيس السابق حفظه الله، في قرية الدهكبيات، وكانت الطريق تمر بنفس الطريق الذي جئنا منه، فصعدنا إلى أعلى حبيل الدبعاء، متجهين إلى ذاري (يسمونه ذوير) السعادي، الذي به مركز الأمارة، وأخذنا فيه بطريق يتجه إلى اليمين، يوصل إلى قرب حافة الجبل من هذه الجهة، قرية عامرة بالبيوت والمزارع، ودخلنا إلى عمقها بين البيوت والمزارع، لنصعد إلى الاعلى منها، ونلتف عند آخر بيت هناك، لنقف عند باب مضيفنا، ونجده قد هيء لنا مجلسا في اطراف مزرعته المجاورة، حيث استقبلنا في هذا المكان الجميل، مع بعض ابنائه واقربائه وجيرانه، وسعدنا كثيرا في جلسة كلها حفاوة وتكريم وبشاشة، واستأنسنا بحديثه وكرمه ومجالسته، ثم جلنا داخل مزرعته، العامرة بالكثير من الاشجار المثمرة.

لنغادر بعدها مودعين بكامل الحفاوة والتكريم، لنستأنف مسيرنا عائدين بنفس الطريق الذي قدمنا منه، ولما بلغنا المفرق الأول في اطراف ذاري السعادي، اخذنا منه بالطريق إلى اليمين، صعودا حتى وصلنا إلى قمة ذاري العنيف، الذي قدمنا منه صباحا، وفي هذه الجهة الشرقية من الجبل، هبطنا بالطريق الفرعي إلى اليسار، الذي كنا قد تجاوزناه اثناء صعودنا في الصباح، لنتعرف إلى هذا الجزء الجميل، لم تكن الطريق فيه طويلة، حيث لا يتجاوز النصف كيلو متر تقريبا، لنصل بعدها إلى فسحة من الارض كبيرة نسبيا، تعرف باسم (الحجل) أو (الحوف)، ويوجد بها عدد من مزارع الذرة على امتداد النظر.

وفي اطراف هذه البقعة الغربية، وصلنا إلى مطلات صخرية عظيمة، اتجهنا إليه لنطل منها مباشرة على الأسفل، ومن تحتنا كان وادي عناء، وقرية المجازيع بكل اجزائها، نراها في العمق من تحتنا، منظر يهاب المرء من النظر إليه، يبعث في النفس المهابة والمتعة، مستمتعين مع الرفقة الطيبة من مضيفينا.

منظر أخاذ يختصر لك كثيرا من الشرح، هذا هو وادي عناء الذي مررنا به في صباح هذا اليوم، وسننزل إليه بعد قليل في طريقنا للمغادرة، وبعد أن تملينا من هذه المناظر الماتعة والجميلة، اخذنا بطريق العودة من حيث اتينا، وإلى العنيف حيث المفرق السابق، متجهين منه إلى اليسار بالطريق الرئيسي إلى الأسفل، انطلقنا على بركة الله وحفظه، بعد أن ودعنا من هنا مضيفينا الكرماء.

إلا أن بعضا منهم اصر أن يصحبنا إلى بداية الخط المعبد، إلى قرية الظهراني، حيث اوقفنا سياراتنا، لنغادر بعدها شاكرين ومقدرين، مودعين منهم كما استقبلونا صباحا بكل حفاوة وتكريم، ولننتزع انفسنا من حلم جميل، لا نود أن نصحو منه، حيث وجدنا في هذه الجبال كل ما يدخل البهجة والانس على النفوس، في حياة ماتعة جميلة ما زالت تعيش فوق هذه القمم، مما لا يكاد أن يصدق الانسان أنه بقي لها وجودا، حياة رتيبة شاعرية سعيدة، عابقة بكل المحبة والهدوء والطمأنينة، اكرم الله مضيفينا فيها، واخلف عليهم بكل خير، وأدم الأخوة والمحبة والألفة، وحفظ لنا دولتنا وولاة امرنا، وما نحن فيه من أمن وأمان ورغد عيش.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محبكم/ عبدالله بن علي قاسم آل طارش الفيفي ـ
أبو جمال الرياض في 6/5/1447هـ



