مقالات

ذاكرة أبي .. و دموعه على جلالة الملك فيصل

بقلم 🖌 : فهد بن إسماعيل السبعي

بينما كنت أرافق والدي في رحلته العلاجية إلى مدينة الرياض، كنا ذات صباح نعبر جسر الملك فهد، وقد أشرقت شمس العاصمة على مبانيها الشاهقة وشوارعها الفسيحة التي تفيض بالحياة. كنت أراقب والدي وهو يتأمل تلك المناظر المهيبة — ازدحام الناس، وتنوع المركبات، وملامح التطور والازدهار التي تكسو المدينة — وقد ارتسمت على وجهه ملامح الدهشة والحنين في آنٍ واحد.

قال لي بصوتٍ تغشاه الذكريات: “يا بُني، هنا كانت عُليشة… وهناك البطحاء و من هنا كان شارع الدركتل ..” وأخذ يشير بيده إلى اتجاهات يعرفها جيدًا، يصف لي أحياءً قديمة لم يبقَ منها إلا الذكرى، وأزقةً ضيقة كانت تحمل في طياتها بساطة الناس وصفاء أيامهم. فقد كان والدي يومًا ما أحد رجال الأمن في مدينة الرياض في عهد الملك فيصل – رحمه الله – وعاش تفاصيل تلك المرحلة بحلوها ومرّها.

أخذ يسرد لي ذكرياته وهو يبتسم تارة ويطأطئ رأسه تارة أخرى، ثم قال: “كنت أقطع هذه المسافة مشيًا على قدمي، من السجن الاحتياطي إلى الشميسي، لأراجع في المستشفى…”، وسكت قليلًا قبل أن يتنهد ويكمل: “وذات يوم خرجت من مستشفى الشميسي، فإذا بي أرى الجنود يحيطون بالمكان من كل جانب، والحزن يكسو وجوههم. اقتربت من أحدهم وسألته بقلق: عسى خير، ما الخبر؟ فاقترب مني وقال بصوتٍ خافت: جلالة الملك فيصل قُتل.”

توقف والدي عن الكلام لحظة، وكأنه يعيش تلك الصدمة من جديد، ثم تابع بصوتٍ مرتجف: “كدت أن أسقط من وقع الخبر، ارتعد جسدي، وتجمدت خطواتي. أسرعت إلى مقر عملي، وهناك التقيت أحد زملائي، فقلت له: ما الذي حدث؟ فقال لي وهو يتهامس: سأخبرك بأمرٍ لا تبلغه أحدًا… جلالة الملك فيصل قُتل.”

قال والدي: “تسمرت مكاني، وكأنني أسمع الخبر لأول مرة. لم أصدق. شعرت أن الأرض تهتز بي، وأن شيئًا في داخلي انكسر.”

ساد بيننا الصمت، وأخذ والدي يحدّق في الأفق البعيد، ودموعه تترقرق في عينيه، قبل أن يهمس بأبياتٍ حزينةٍ حفظها عن ذلك اليوم، بصوتٍ يملؤه الألم والعبرة:

لابَتِي يا ناس مِن نزل كِتابه
وأن فيصل كلَ مؤمن قد بكابه
وعلى الأسرة الشيوخ فُرّقتْ غيابه
والعرب والمسلمين…

يا أبو الأيتام يا كافي الأرامل
يالذي فضله على الأقطار شامل
من بني مقرن حمى مجد ابن وائل
في القرون الماضيات

و نقول تم العزاء يا أهل العدالة
و المقدم سيدي راعي الجلالة
عن أمير جيزان و عن أسمي أصالة
و الطوارق و الشمول

ثم تابع بصوتٍ تكسوه الرهبة والحنين:

المساجد قد بكمبه( بكت به ) والمدارس
وبكوه الناس في كل المجالس
أشجع الأمة وأكرمهم و سايس
محتوي كل الأمور

الضمان يبكي وتبكي به الصحايا
والوزاير كلها و أهل السرايا
والخطوط اللي جعلها للقرايا
وأصبح الفايت قريب…

قالها والدي وكأن الحروف تخرج من قلبٍ مثقلٍ بالحزن، ثم أطرق رأسه وقال:
“يا بُني، ما كان الملك فيصل ملكًا فحسب، بل كان راعي الأمة وضميرها، يسند الدول الضعيفة، ويقف بجانب المظلومين، ويبذل من ماله وجهده وعزيمته ما لا يقدر عليه إلا العظماء.”

ثم أكمل وهو يرفع نظره إلى الأفق:
و بكت فيصل فلسطين الحبيبة
سوريا والقاهرة تشكي الغليبة
كان يتولى الأمور اللي صعيبة
وحجابًا للشعوب…

ثم تابع بصوتٍ حزينٍ واثقٍ في آنٍ واحد:

أمّن الحُجّاج وأمّن كل زاير
اليمن عادوا تعرض للمسافر
في جميع المملكة رتّب عساكر
والمرور والدوريات…

ثم غلبته العبرة، وأخرج طرف شماغه يمسح به دموعه التي غلبته، وقال بصوتٍ مبحوحٍ تملؤه المحبة والوفاء:
“رحم الله فيصل، ما خسرناه وحدنا، بل خسرته الأمة بأكملها… كان رمزًا للعدل، ولسانًا للحق، وسيفًا للإسلام.”

و قال بصوتٍ ممزوجاً بالبكاء :
فيصل نوى بالمسجد الأقصى يطهره
لكن أمر الله سبق ماهو بخاطره
سبحان من تجري على الأمة مقادره ( أقداره )
و من وقتها تمام

ثم خنقته العبرة وسكت قليلاً، قبل أن يتمتم بأبياتٍ خافتةٍ كمن يختم وصية في الذاكرة، وقال:

والآن خالد بعد فيصل يقضي اللزوم
عاهد جميع المملكة بالعز والتموم
الكوكب الدري الذي طالع على النجوم
العاهل الجديد…

وولي العهد والأسرة الكريمة
عاهدونا عهد ما نشكي ظليمة
هم أساس الملك من مدةٍ قديمة
آل فيصل بن سعود…

وألف صلّى الله على مولى الشفاعة…

عندها سكت والدي، وغلبته دموعه من جديد، فجلست صامتًا أمامه، أستمع إلى حكاية جيلٍ بكى قائده، وآمن بأن العظمة لا تموت، بل تتوارثها القلوب كما تتوارث الأوطان مجدها.

رحم الله الملك فيصل، وجزاه عن أمته خير الجزاء، وبارك فيمن سار على نهجه وحفظ هذا الكيان بعقيدته وعدله ووحدته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى