رحلة الجزائر (الحلقة الثانية)
السبت 1444/8/19هـ الموافق 11/3/2023م
هدفنا في هذا اليوم التوجه وبكل شوق الى مدينة القسنطينة، وهي مدينة داخلية بعيدة عن البحر، تقع في شرق الجزائر، والمسافة إليها من مدينة الجزائر العاصمة حوالي (400)كم، ولكنه طريق سريع مزدوج، يطلقون على هذه الطرق (سيار)، يتعرج بين كثير من الولايات والمدن والقرى، ويجري فوق بساط اخضر على مدى النظر يمينا وشمالا، والجبال تغطيها الغابات بالأشجار الكثيفة، والجبال على اليسار (جبال جرجرة) تكسوها بقايا الثلوج.
انطلقنا من الفندق بعد تناول طعام الفطور، وسلمنا غرفنا واتجهنا في سيارتنا نتبع (قوقل) لنخرج من البلدة فلم يكن معنا احد من ابناء البلدة، ومدينة الجزائر من اصعب المدن بتلفيفات شوارعها واحيائها، فهي تقع على مجموعة هضاب والبحر يشكل التعريجات فيها، فنادرا أن تجد شارعا ممتدا دون تعرجات، مما يجعلك لا تستطيع التركيز في معرفة المعالم، وترى المكان قريبا ولكنك تحتاج إلى التفافات كثيرة حتى تصل إليه تماما، وخرجنا من عمق المدينة ودرجنا في الشوارع، إلى أن وصلنا الطريق السريع الموصل إلى هدفنا، ونمر في طريقنا بعدة ولايات ومدن وقرى، ومن تسميات هذه الولايات والمدن، ما نلتقطه من على اللوحات على هذا الطريق، ومنها مدينة بويرة، وولاية بوعريجيج ، وولاية بوسطيف، وعين تاغروت، وشاهدنا بحيرة كبيرة على يميننا قبل مدينة سطيف، وبعدها ما يسمى بالراحة الجميلة ، ثم مدينة العلمة التي تعمدنا دخولها، حيث خرجنا عن الطريق العام لندخل إلى هذه المدينة، قاصدين مقابلة احد الاصدقاء فيها، الذي اصر على أن نقابله، والعلمة مدينة كبيرة نسبيا، جلنا في اطرافها ولم نتعمق داخلها، ورافقنا صديقنا لزيارة محل خاص به، لصناعة الحلويات المحلية، وكان محل صغير نسبيا، تعرفنا على كيفية صناعة الحلويات، من خلال التجوال داخل المصنع ومشاهدة العمال لديه.
وكانت من اسماء هذه الانواع المتعددة من الحلويات، كما شرح لنا صاحب المحل، وكما هو موضح في قائمة الاسعار، في اللوحة المعلقة عند مدخل المحل، ومن هذه الاسماء (زلابية، وبنات اذواق، وكروفات، وجلجلانية، وقلب اللوز، ومكارون، وبنان، وبناني، ومقرقشات، وروكا، وبقلاوة، ومقروط).
بقينا معه لفترة، تعرفنا خلالها على اجزاء مصنعه، وعن كيفية تجهيز الحلويات، وتذوقنا بعضا منها، وحملنا الشيء الكثير كذلك، ثم ودعناه شاكرين لنواصل طريقنا إلى هدفنا، مررنا بعدها بمدينة شلغوم، وبسكرة، واطراف ولاية سكيكدة، إلى أن دخلنا مدينة القسنطينة.
القسنطينة واسمها القديم (سيرتا)، وتسمى مدينة الجسور المعلقة، ومن اسمائها مدينة الصخر العتيق (نسبة إلى الصخر المبنية فوقه المدينة)، ومدينة العلم والعلماء، فهي مدينة علمية مليئة بالجامعات، وفيها اربع جامعات (جامعة الاخوة منتوري)، و( جامعة الامير عبدالقادر للعلوم الاسلامية)، و ( جامعة صالح بوبنيدر)، و(جامعة المجاهد عبدالحميد المهري)، وهي مدينة العالم الشيخ عبدالحميد بن باديس رحمه الله، مؤسس جمعية العلماء المسلمين، التي كان لها دور كبير في تحرير الجزائر، وصلناها بعد صلاة العصر، وكان في استقبالنا اخوين كريمين صديقين من ابنائها (الاستاذ حمزة العيساوي والاستاذ علي ابن النية)، وقد رتبا لنا حجوزات سكن في احد الفنادق، العائد ملكيته لبعض اقاربهما، يسمى فندق (الحسين)، على اسم والدهم (حسين) رحمه الله، يقع في حي (علي منجلي)، من الاحياء الجديدة، التي اقامته وبنته الحكومة الجزائرية، من حوالي عشرين سنة، ووزعتها على المواطنين تعويضا لهم عن بيوتهم القديمة، التي تم ازالتها في الاحياء القديمة داخل البلد، وهذا الحي حي كبير متكامل البنى والخدمات، ويتميز بشوارعه الفسيحة، وباكتمال خدماته العامة، ويبعد عن البلد القديم بما يقارب خمس كيلومترات، يفصل بينهما مباني جامعة حديثة، كبيرة ومتكاملة بكلياتها، وخدمات السكن الداخلي لطلابها.
هذا الفندق (الحسين) حديث وكبير فئة (اربع نجوم)، وجدنا صاحب الفندق وادارته يرحبون بنا عند وصولنا، واكرمونا ولم يتنازلوا عن دعوتنا لتناول طعام العشاء على حسابهم، ولذلك تعشينا لديهم بعد صلاة المغرب مباشرة، ثم خرجنا بالسيارة لأخذ جولة ليلية مستعجلة، فلم نصبر وننتظر إلى الصباح، فقد توجهنا إلى اعلى قمة في المدينة، بعد أن اخترقنا كامل المدينة من الجنوب إلى الشمال، وتقع هذه القمة في اقصى الشمال الغربي من البلدة، ويتربع فوقها مبني ضخم عبارة عن نصب بناه الفرنسيون، ويحمل مسمى (نصب الاموات).
خلدوا به اسماء من شارك الحرب العالمية الاولى مع فرنسا عام 1914م ، ومعظمهم من ابنا هذه المدينة، حيث بلغ عددهم ثمانمائة رجل، والمبنى عبارة عن دروازة كبيرة، ترى من كل نواحي القسنطينة وما حولها، وارتفاع بنائه حوالي خمسين مترا، وتوج المبنى بتمثال كبير لامرأة، واقفة فوق كرة حديدة، ولها جناحين في ظهرها، وقد رفعت ذراعيها إلى الأعلى، وداخل المبنى المفتوح من كل الجهات، لوحات كبيرة من المعدن، تحمل اسماء هؤلاء المشاركين، ويظهر بينها عدد كبير من الاسماء العربية، الذين لا شك انهم اقحموا في هذه الحرب الاوربية العالمية، وحول المبنى مواقف للسيارات، اوقفنا فيها سيارتنا، وجلنا حوله وداخلنا في زواياه، ثم غادرنا مباشرة فلم يكن الوقت مناسبا، حيث الظلام يحجب الرؤيا للمحيط والمعالم من الاسفل، مع زيادة برودة الجو قليلا، ولذا هبطنا بالسيارة إلى عمق البلدة، ثم توقفنا في بعض الاماكن على الطريق، واطللنا بالذات من فوق بعض الجسور، وبالأخص جسر قديم يطل على نهاية مجرى الوادي العميق في الاسفل.
وكانت جولة زادتنا تشويقا للزيارة الواسعة في نهار الغد، ولذلك انطلقنا عائدين إلى الفندق، نترقب الصبح بكل شوق.
الأحد 20/8/1444هـ الموافق12/3/2023م
انطلقنا بعد تناول طعام الافطار في حوالي الساعة التاسعة والنصف، ووصلنا إلى قلب المدينة القديمة، واتجهنا إلى الجهة الشمالية الغربية منها، والطريق يمر فيها بأنفاق طبيعية منحوتة في الصخر.
توقفنا عندها واطللنا من فوقها إلى الاسفل السحيق ، حيث ترى السيارات في الطرق اسفل منك، وكانها صغيرة لبعد المسافة، ويجري في الاسفل شلالات هائلة، يتدفق مائها من داخل عمق المدينة، وينطلق نظرك من هذا المكان، دون حدود أو موانع تحجبه، في مناظر خلابة مهولة، تسودها الخضرة والبيوت المتناثرة هنا وهناك، واذا نظرت إلى الجبل المناظر امامك، في الجهة الشمالية من هنا، تجد النصب الذي كنا عنده البارحة (نصب الاموات).
كان في هذا المكان كما اخبرنا مصعدا كهربائيا، في تجويف داخل الجبل، يصعدون به ويهبطون إلى اسفل الجرف، ولكنه الان متعطل منذ فترة، شاهدنا بواباته داخل احد هذه الانفاق، وتقدر المسافة منها إلى البوابات في اسفل الجبل بحوالي ثلاثمائة متر، واصلنا سيرنا داخل هذه الانفاق مستمتعين، وكان معظم السير فيها على الاقدام، واحيانا نركب السيارة، إلى أن خرجنا من هذا الطريق الجميل المهيب، واذ بنا امام نهاية الصدع الكبير الهائل من هذه الجهة، الذي هو آية من الآيات في الضخامة والعجب، عبارة عن صدع صخري ضخم، اتساعه من الاعلى يتراوح بن المائة متر والمائة والخمسين، قد يزيد وينقص، وفي الاسفل تشاهد عمقا يصل إلى حوالي ثلاثمائة متر، والماء نهر يتدفق في اسفله بغزارة، له صوت هادر مخيف، يتردد صداه في جنبات المكان، يرجف منه القلب، وللماء لمعان يبرق على انوار الشمس، ويمتد الصدع من امامنا في هذه الجهة شرقا لما يقارب الميل، ليتوارى منحنيا إلى الجنوب بنفس المسافة أو يزيد، وعلى ما يبدو أن منبع الماء يبدأ من هذه النقطة، ليتخذ له مسارين احدهما غربا في هذا المكان الذي نحن فيه، والاخر في الجهة الاخرى جنوبا، مشكلا ما يشبه رقم الثمانية، فينحدر منهما الماء حتى يخرج من النهايتين، منظر وشكل جميل وعجيب ورهيب، والبيوت في ادوارها المتعددة مرصوصة على الحافتين، وكثير منها يقع مباشرة على حافة الجرف، وتشاهد في بعض جوانبه من الاسفل شلالات ترفد النهر، وتشاهد بقايا ممرات وطرق للمشاة هجرت من فترات طويلة، وترى ملامح جسور وجدران تهدمت في العمق هنا وهناك، مبنية من الحجارة، تدل على ان معظم هذه الاغوار كانت مسكونة في يوم من الايام، وفي الاعلى نشاهد امامنا جسورا تربط بين الحافتين، بعضها من الحديد وبعضها من الحجارة، ويوجد بينها جسور حديثة من الاسمنت والخرسانة، خصص بعضها للمشاة فقط، وبعض منها يشمل المشاة والسيارات، واذا ما سرت فوق واحد منها تحس باهتزازه، وبالذات مع اشتداد الهواء من الاسفل، واما جسور السيارات فتهتز كذلك حالة مرورها.
منظر من الاسفل يسلب اللب بجماله وعظمته، وإذا دققت النظر تكتشف اشياء هنا وهناك، وترى ملامح وبقايا بعض المساكن، تدل على أن معظمها كانت عامرة بالسكان من فترات قديمة، بل أن معظمها لم يخلى نهائيا إلا منذ فترة قريبة، عندما قررت الحكومة ابدالهم بمنازل افضل خارج هذا المنطقة الصعبة، وقد اخبرنا انه يوجد في الاسفل انفاق وطرق وكهوف قديمة، كانت تستخدم لتصل بعض الجهات ببعض، وعلى العموم فالمنظر من فوقها من هنا منظر مهول، لا تمل ولا تشبع من الفرجة والتفكر فيه، فكيف سيكون التجوال داخله لو كان مسموحا، توقفنا في نهاية هذه الانفاق وهذه الطريق، عند بداية جسر خاص بالمشاة والسيارات اسمه (جسر سيدي مسيد)، ثم قطعناه إلى الضفة المقابلة، فاذا هو ينتهي عند درج واسع ينتهي بك عند قمة الجبل، عند النصب الذي كنا عنده البارحة (نصب الاموات)، صعدنا من هذا الدرج الذي يسير على حافة المنحدر، وصعدنا إلى أن وصلنا بعد حوالي عشر دقائق إلى ساحة النصب، وكان مكان جميل بالنهار، بخلاف ما احسسنا به البارحة، لأنك مع ضوء النهار ترى من فوقه كامل المناظر اسفل منك، ويأخذك بجماله المبهر الفتان، تطلق نظرك في كل الاتجاهات، وتشاهد الخضرة والجمال والشلالات على امتداد النظر، على يمينك ويسارك واسفل منك، وتشاهد في الاسفل حركة السيارات في كل اتجاه، تجوب الجبال وانفاقها المحدثة والطبيعية، والجسور في عرض هذه الجبال، ومتوفرة جلسات في محيط هذا المكان، حول (النصب) تدعوك للجلوس والتأمل، بقينا لما يقارب الساعة ولم نمل، وزدنا تعرفا على مكونات هذا المكان، وكذلك القينا نظرة شاملة على عموم البلدة من حولنا في كل الاتجاهات.
ثم ركبنا سيارتنا التي كان سائقنا قد اوصلها إلى الموقف المجاور للنصب، وانحدرنا من الجهة المعاكسة لقدومنا، حيث اتجهنا شرقا إلى أن وصلنا حافة الجرف من هذه الجهة، الذي هو اعلى نقطة للشق كما اشرنا، فمن هذه النقطة ينقسم الصدع إلى اتجاهين يمينا ويسارا، وكل منهما مشابه للآخر بعمقه وجسوره، وانحدار الماء الهادر في داخله، فسلكنا من هنا الجهة الشرقية الجنوبية، لنتعرف على بقية الشق من هذه الجهة.
وقطعنا احد الجسور الحجرية، المخصصة للسيارات والمشاة، ولكنه كان حينها مغلقا عن السيارات، ثم واصلنا سيرنا إلى الجنوب، حتى نهاية الجرف من هذه الجهة، ويوجد في نهايته جسر مماثل لما هو عليه في الجهة الاولى، معلق ومخصص هنا للمشاة، مصنوع من الحديد المشدود على حافة الشق، اسمه (جسر ملاح سليمان)، ومغلق من الجهة الاخرى، ينتهي بك عند بوابة مغلقة، قائمة في جدران بيوت قديمة في هذا الاتجاه، وصلنا نهايته ثم عدنا من حيث اتينا، واستمتعنا منبهرين من فوق هذا الجسر، والمناظر تأسرك بجمالها من حولك واسفل منك، مناظر عظيمة ورهيبة تأخذ بمجامع القلوب، ثم انطلقنا لنواصل السير ألى الجنوب داخل المدينة، لنمر بعد فترة وجيزة من تحت الجسر الحجري الضخم، الذي وقفنا فوقه البارحة، وكانت عليه حركة السيارات دائبة لا تنقطع، والمنظر من تحته مهولا ومبهر، يعطيك تصورا كاملا عن ضخامة بنيانه، وارتفاع دعائمه وضخامتها، مكونة من الحجارة والحديد.
وواصلنا سيرنا إلى الاسفل، من تحت كبري اخر معلق نفذ حديثا، واتجهنا من تحته إلى الضفة الغربية للوادي، وقد اصبحنا على المستوى الطبيعي، والمدينة بكاملها فوقنا مباشرة، واتجهنا هنا إلى حديقة كبيرة وحديثة، ما زالت في طور الانشاء والاعداد، وفيها جانب كبير لتنمية الشتلات المختلفة وزراعتها، وكما عرفنا أن كل هذه المساحة التي تقوم عليها، هي في الاصل كانت موقع البلدة القديمة، التي تمتد هنا على ضفتي الوادي وتتغلغل في عمق الشق فوقها، وقررت الدولة تعويضهم عنها ببيوت حديثة، في حي (علي منجلي) الذي اشرنا إليه سابقا، وهو الحي الذي يقع فيه الفندق الذي نزلنا به، وقد ازيلت من هنا كل البيوت القديمة التي كان معظمها آيل للزوال، ولم يبقى في هذا الموقع إلا مسجدين جميلين، لم يتعرض لهما، احدهما قريب من الجسر الحجري المقابل لنا، والذي ينتهي عنده مصب المياه المتدفقة من اعلى الشق في هذه الجهة، واما الثاني فهو داخل هذه الحديقة عند مدخلها مباشرة، وبعد أن اخذنا فكرة عن هذه الحديقة من مطل في اعلاها، غادرنا لنكمل جولتنا في اماكن اخرى.
في هذه الفترة كنا نسمع أذان الظهر، يرتفع من المساجد حولنا، وقررنا أن نؤدي الصلاة في جامع كبير نشاهده امامنا، جامع الأمير عبدالقادر الجزائري رحمه الله، اختير له موقع متميز، يتربع فوق ربوة كبيرة متفردة، ولهذا يرى من معظم انحاء المدينة، وهو من المعالم التي حرصنا على زيارتها، للاطلاع على عظمة موقعه وضخامة بنيانه الحديث، وما إن وصلنا إلى المسجد الا ووجدناهم في اخر الصلاة، لتأخرنا في الوضوء وتهيئة انفسنا.
من الملاحظ أنهم يولون المساجد اهتماما خاصا، كما هو بارز في هذا الجامع ومعظم المساجد في ارجاء الجزائر، ويتحرزون كثيرا في طهارة المسجد (الحسية والمعنوية)، فيوجد عند المداخل الرئيسية دواليب خاصة بالأحذية، يجب أن تضع فيها نعالك، ولا تتجاوز بها هذه النقطة إلى داخل المسجد، واذا ما اردت الذهاب إلى دورات المياه للوضوء، فتوجد هنا احذية بلاستيكية خاصة، تلبسها في طريقك إلى دورات المياه، وموقع الدورات (المائضة) في البدروم تحت الجامع، تهبط إليها من درج خارج المسجد، فاذا ما وصلت إلى مدخل هذه الحمامات، لزمك أن تلبس احذية اخرى خاصة هناك، قد خصصت لداخل الحمامات، فتستبدل بها احذيتك إلى أن تخرج، وتعود إلى المسجد بنفس الاخذية الاولى، فكل منها لا يستخدم إلا لما خصص له، فاذا خالفت شيء من ذلك رمقك الناس بنظراتهم المعاتبة.
حتى أنه يدخل في تكوين هذه الحمامات وفي تجهيزاتها، امور أخرى مختلفة عما الفناه في كثير من الاماكن، حيث لا يوجد بها (شطافات) للتنظيف، وانما في داخل كل حمام منها اواني بلاستيكية واسعة (طست)، ملي بالماء النظيف، وفيه مغرفة لها ممسك (كوب بلاستيك)، تأخذ به ما تحتاجه من الماء، وكذلك في المغاسل والاحواض الخاصة بالوضوء، تجد عند كل مقعد منها اناء بنفس الطريقة، فقد يكون فكرته تكمن في عدم الاسراف في استخدام المياه، وتجد في بعض المساجد كلتا الحالتين، هذه التقليدية والتمديدات الحديثة، وقد نبهنا رفقائنا من اهل البلد اليها، ثم بتقليد الآخرين من حولنا، حتى اننا بعد اتمام الوضوء، رجعنا إلى المسجد بنفس الطريقة، وتقيدنا بالمبادلة بين الاحذية.
كان المسجد بناء حديثا ضخما، افتتح حسب اللوحة عند مدخله في عام 1415هـ، من فخامة رئيس الجمهورية حينها، وهو مكون من بناء مرتفع جدا، وله مأذنتان عاليتان، وتتوسطه قبة جميلة، وخلفه ساحات واسعة جدا، تستخدم على ما يبدو مصلى للأعياد، ويأتي من خلفها بامتداد حوالي ثلاثمائة متر في خمسين حديقة جميلة وواسعة، مسورة وخاصة بالمسجد ورواده، فحرم المسجد يمتد على كل هذه المساحة، وللمسجد عدة ابواب جانبيه خاصة بالرجال، وله ابواب من الخلف مشتركة، بعض منها مخصص للنساء، والمسجد من داخله عالي الارتفاع، وبالذات تحت فتحت القبة التي يقدر ارتفاعها من هنا بحوالي ثلاثين مترا، يتدلى منها مجموعة ثريات جميلة للإضاءة، مع أنه يكتفى في النهار بالإضاءة العادية من الشبابيك تحت هذه القبة، وبالنوافذ المنتشرة في جميع جوانب الجامع، والمزين معظمها بالزجاج المزخرف، والملون بالأحمر والاصفر والازرق والابيض، والجدران مزينة بالزخارف الجبسية الملونة، وبالزخارف الاسلامية التي تمتد إلى السقف، وإلى القبة في وسطه، والفرش باللون الاخضر الفاتح الجميل، وفي المقدمة بجوار المحراب منبر خشبي، له قبة مزخرفة وبه ما يقارب من عشر درجات، وفي اطراف المسجد بالذات فوق المداخل، توجد ملاحق على ما يظهر أنها مكاتب ومكتبة، ودور لتحفيظ القرآن الكريم، ودخلنا المسجد وقد انصرف الناس، لم يبقى فيها إلا قلة يقرأون القران، فصلينا الظهر والعصر قصرا وجمعا، ثم انطلقنا لاستكمال جولتنا.
كانت وجهتنا إلى خارج القسنطينة، وحددنا الاتجاه إلى الشمال الغربي، مقصدنا منطقة اثرية رومانية في هذا الاتجاه، تبعد حوالي ثلاثين كم، وهي تابعة لبلدية (حامة بوزيان)، واسمها (تيديس) ولها عدة اسماء كثيرة، ومن ذلك (قسنطينة العتيقة)، و(رأس الدار) وغيرها، وبعد خروجنا من نطاق مدينة القسنطينة، دخلنا في مروج زراعية لا تكاد تنتهي، تكتنف الطريق من كل الجنبات، وتمتد على مدى النظر في كل الاتجاهات، معظمها مزروعة بالقمح والفول المحلي.
وسرنا أولا بالطريق الرئيس إلى مدينة ميلة، ولمسافة تقارب عشرين كم، ثم اخذنا بطريق فرعي إلى جهة اليسار، ومررنا من خلاله بعدة قرى صغيرة، وتكثر فيه التعريجات ذات اليمين وذات الشمال، ولم نرى فيها معالم بارزة لنستدل بها على وجود هذا المعلم الاثري، ولولا معرفة رفقائنا التامة به لما عرفناها، حيث سرنا إلى أن وصلنا عند بوابة في طرف احد الهضاب، ففتح لنا حارس خاص بهذا المكان، يقف عند هذه البوابة، وبعد تحصيله الرسوم المقررة على السيارة، دخلنا لنوقف سيارتنا في مكان واسع خاص بذلك، وبعدها اتجهنا إلى اطراف هذه الهضبة، التي شاهدنا فيها امامنا بعض الحجارة المتناثرة، وكنا كلما توغلنا في الصعود، وجدنا اثار هذه القرية الرومانية، التي قد اخذت منها العوامل الجوية، ومرور الزمن، والاهمال، مع الاعتداءات كثير من مبانيها ومعالمها، فمعظمها متهدم ومتناثر في المكان، ولكن تبدو انها كانت قرية متكاملة محصنة، اسست على عدة مستويات بما يناسب طبيعة الهضبة، حيث تدخل بعد حوالي عشرين مترا من المواقف إلى بداية الآثار، تجد فيها بوابة مقوسة مبنية من الحجارة.
ثم يبدأ معك طريق مرصوف بالحجارة، يلتف ويتعرج ويتشعب إلى أن تصل اعلى القرية، بارتفاع حوالي مائة مترا، وتمر من خلاله بأجزاء متعددة من مكونات القرية، وبعضها تشاهده اسفل منك، وقد تجولنا فيها وحاولنا الوصول إلى كل زواياها، نتبع الطريق المرصوف، وما نجده من سلالم حجرية هنا وهناك، وتجد بين اكوامه العديد من الحجرات والمعابد، وفيها مخازن للمياه، وكهوف طبيعية قد نحتت، ويشاهد في اسفل القرية في سفح الجبل جدران ضخمة تحضنها، وكأن القرية مرتكزة عليها، وتقوم كذلك بدور الحماية والتحصين لها، طفنا في كامل هذه الاثار وكل زواياها، لما يزيد على الساعة حتى تعبنا، فلا يوجد دليل ولا يوجد لوحات تعريفية داخلها، ثم انطلقنا عائدين إلى القسنطينة، مرورا بنفس الطريق الذي قدمنا به، وفي القسنطينة اكملنا جولتنا من جهة مختلفة، حيث دخلنا إلىها من جهة الشمال الغربي، وكانت هضبة (نصب الموت) فوقنا مباشرة في جهة الجنوب تقريبا، وراينا من هنا مناظر لتدفق الماء في شلالات كبيرة في الاسفل، في نهاية الشق من هذه الجهة، وبقينا نستمتع بهذه المناظر إلى قرب غروب الشمس.
لنسارع قبل أن يؤذن بالمغرب ، لنلحق الصلاة في جامع الأمير عبدالقادر الجزائري، حيث وصلنا في الوقت المناسب، قبل الأذان بدقائق، ودخلنا المسجد فاذا هو مزدحم ويضج بمرتاديه، وتسمع لجبة لحلقات القرآن الكريم، للصغار والكبار تصدح في الداخل، وشاهدنا لديهم طريقة متبعة على ما يبدو، في مقدمة المسجد امام المحراب، حلقة ضخمة دائرية، فيها ما يقارب عشرين رجلا من مختلف الاعمار، يقرؤون القرآن الكريم جماعيا بصوت جهوري، على شكل المراجعة العامة للحفظ، لا ندري متى ابتدأت ولكنها لا تنهي إلا قبيل الاذان بدقائق محدودة، حيث ينصرف كل منهم يحمل مصحفه، ثم يتلوهم مباشرة المؤذن، ليرفع مع دخول الوقت اذان المغرب، ويعقبه مباشرة بالإقامة، وقد صلينا مع الجماعة صلاة المغرب، ثم صلينا في احد اطراف المسجد صلاة العشاء قصرا، وشاهدنا في هذه الاثناء حركة ونشاطا جميلا داخل المسجد، ففي هذا الوقت بعد صلاة المغرب، اقيمت محاضرة دينية تعليمية في مقدمة المسجد، وهناك دروس ومدارسة للقرآن في نواحي المسجد.
وخرجنا بعدها نبحث في لهفة عن مطعم لنتعشى فيه، فما زلنا على الفطور من الصباح في الفندق، وبعد تداول الامر قررنا الاتجاه إلى مطعم في اطراف البلدة جنوبا، اخبرنا أنه يتميز بالأكلات الشعبية، ومن ضمنها المندي، الذي يطلقون عليه مسمى (المردومة)، ويصنعونه من لحم العجول، ومعه بعض المشويات والإدامات، وما يعرف لديهم بالكسكسي(وهو اكلة مشهورة لذيذة، يتخذونها من طحين القمح المفروك، وينضجونه على بخار الماء، ثم يؤكل كالرز مع الخضار، أو اللحم أو الاسماك)، وشبعنا من كل ما لذ وطاب من هذه الانواع، ثم غادرنا عائدين إلى الفندق لنرتاح ونتهيئ لرحلة الغد بمشيئة الله.
والى الحلقة التالية بمشيئة الله.
محبكم / عبدالله بن علي قاسم آل طارش الفيفي ـ ابو جمال
الرياض
جميل جدا ، الجزائر تستحق الزيارة يوما ما