رحلة الجزائر (الحلقة السادسة والأخيرة)
إعداد الشيخ :عبدالله بن علي قاسم آل طارش الفيفي ـ ابو جمال
رحلة الجزائر (الحلقة السادسة والأخيرة)
السبت 1444/8/26هـ 18/3/2023م
كان اليوم مختلف عن بقية الايام، امطار خفيفة من بعد صلاة الفجر، وكأنها تشارك في تهيئة الاجواء بما يتوافق وزيارتنا لهذا اليوم، لتضفي على الواقع شيء من الخيال، وتحفيزا وزيادة مؤثرات تتناسب والمكان، كان هدفنا في هذا اليوم زيارة حديقة التجارب (الحامة)، في العاصمة الجزائر، انطلقنا بين رذاذ المطر في طريقنا لهذه الحديقة، وليست بالبعيدة، راعنا الازدحام الشديد في الشوارع المحيطة بها، ثم كثافة الناس عند المدخل الرئيسي، وبعد أن أوقفنا سيارتنا في مواقف مقابلة للبوابة، نزلنا متجهين إلى هذه البوابة، والزحام كما اشرنا كثيفا، ومعظم الرواد من الطلاب في رحلات مدرسية، وكثير من العوائل، فاليوم هو السبت العطلة الاسبوعية الرسمية، والابواب لن تفتح إلا بعد الساعة العاشرة، بقينا لما يقارب النصف الساعة تحت الامطار الخفيفة المنعشة، فيما احد رفقائنا منتظما في احد السروات لشراء تذاكر الدخول، واتجهنا بعدها إلى بوابة الدخول ، لندخل إلى عالم مختلف عن واقعنا، حديقة تمثل غابات العالم بكامله، فهي نموذج لمعظم اشجار العالم شرقه وغربه، حديقة قائمة على اكثر من اثنين وثلاثين هكتارا، اقيمت في عام 1832م، أي قبل مائة وتسعين سنة، تضم اكثر من الفين وخمسمائة نوع من النباتات، وفيها اشجار عمرها اكثر من مائة وخمسين سنة، ونباتات فريدة جلبت من مختلف ارجاء العالم، وتعتبر من اجمل حدائق العالم، تتكون من الحديقتين الفرنسية بحسن تنظيمها المزوق.
والحديقة البريطانية قريبة الشبه بواقع الغابات.
وفيها حديقة للحيوانات، ومدرسة لتعليم البستنة.
تدخل من البوابة الرئيسية فاذا انت امام منظر أخاذ، لا تدري إلى أين تتجه، ممرات امامك متعددة، تتشابك الاشجار من فوقها وتظللها، وهناك لوحات ارشادية في معظم الزوايا، وفي مداخل الممرات، واتخذنا خطة تمكننا من التطواف بأكبر مساحة نقدر عليها، فأنت تجد بعد المدخل الرئيسي عدة توزيعات، ففي الجهة اليمنى مبنى إدارة الحديقة، ويتلوها في نفس الجهة براكس كبير، مكتوب عليه حديقة الحيوانات، تجاوزناها ولم يستجلبنا الدخول إليها، فواصلنا التغلغل إلى جنبات الحديقة، توقفنا عند لوحة تعريفية مكتوب عليها ( مربع التصنيف العلمي للنبات ـ باحتوائها على اكثر من 290000نوع، تستحوذ مملكة النبات على اهتمام هواة الطبيعة وكبار العلماء منذ القدم، صحب هذا الاهتمام عدة محاولات للتصنيف، قسمت النباتات وفقا لفائدتها (الغذائية والطبية) ثم حسب تنظيم وترتيب مختلف اعضاء الجهاز النباتي (الجذور ،الاوراق، الازهار ….) ما يدعى بالمورفولوجيا، لكن ومع تطور العلوم الوراثية والجينية، تصنف النباتات اليوم حسب التركيبة الوراثية الباطنية، المرتبطة بعد اجيال ماضية ـ يتاح لكم من خلال هذا الفضاء فرصة تكوين مفهوم علمي عن مملكة النبات واهم انقساماتها، بحيث تعرض النباتات على شكل عائلات تبعا للمعايير المورفولوجية لتعكس على افضل نحو اوجه الشبه بين مكوناتها).
طوفنا في معظم ارجاء هذه الحديقة، نقرأ ونتلفت ونتأمل في انواع الاشجار واشكالها العجيبة والغريبة، فهي حديقة كثيرة الممرات كثيرة التعرجات، وكل ممر منها يؤدي إلى انواع مختلفة من الاشجار، منها الطويلة والعريضة والمتشعبة، والنخيل المتعدد الانواع، والخيزران، والعديد من الحرجيات والمتسلقات، بكل الاشكال والالوان، فهنا النباتات الاستوائية، والنباتات من المناطق المعتدلة، من افريقيا واسيا واوروبا واستراليا والامريكيتين، ومن شتى انحاء العالم بتضاريسها ومناخاتها، طفنا في معظم نواحي الحديقة، ونتبع اللوحات والارشادات، بعضها تعريف ببعض الاشجار، وبعضها تدلك على انواع منها، وهذا هو القسم المسمى الحديقة البريطانية، ترك في تنظيمه قريبا من الطبيعة، فتسير فيها وكأنك في غابة حقيقية بمداخلها واشجارها، واشكال النباتات المحيطة بالأشجار على الارض، وهنا وجدنا لوحة تشير إلى شجرة (طرزان)، اتجهنا إليها ووجدناها شجرة ضخمة متفرعة الاغصان، تغطي مساحة كبيرة، ويوجد قريبا منها بحيرة شبه طبيعية، قيل أنه تم تصوير الفلم العالمي الشهير (طرزان)، لأول مرة ينتج في عام 1932م، في هذا المكان، في محيط وفوق هذه الشجرة، وكان من اعظم ما انتج قريبا من الطبيعة.
هناك تماثيل منحوتة لبعض الحياة القديمة في الجزائر، وهناك سواقي للمياه وبحيرات، ويوجد كثير من الطيور والسمك وغيرها هنا وهناك، جلنا لأكثر من ساعتين حتى تشبعنا من السير والتطواف، ثم قررنا المغادرة وعدنا إلى الفندق.
تحركنا من الفندق في العصر، مقصدنا السوق القديم، في الاحياء القديمة من البلدة، شوارع متعرجة كأنك تسير في متاهة، لا تدري كيف يعرف السائق الطريق، شوارع ضيقة ومزدحمة ومتعرجة، وصلنا بعد عناء الى السوق العتيق (باي الواد)، وبالصعوبة وجدنا موقفا، وهناك تلاحظ تعاون بين الناس، ومراعاة في الازدحامات، وللحصول على المواقف، وفي الناس اخلاق وحسن ادب وتعامل، يراعون بعضهم، ويراعون المشاة، ويعطون المشاة الاولوية، لا تأفف ولا رفع صوت ولا صوت منبهات، اوقفنا سيارتنا قرب احد الارصفة من السوق، وجلنا في السوق مع ملاحظة الزحام الشديد، ويبررونه بأن اليوم هو العطلة الاسبوعية، ثم لقرب دخول شهر رمضان المبارك، معروضات ومحلات تمتلي بها الشوارع في هذا المحيط، طفنا فيها وتجاوزناها إلى اسواق اخرى ملاصقة، اكثر حداثة كما اخبرنا ولاحظنا، وشوارعها هنا اوسع، وفي اقصى مكان وصلناه (ساحة الشهداء)، التي فيها محطة للقطار، وفيها حدائق عامة للجلوس، وشاهدنا جوار محطة القطار، حفريات لآثار قديمة مسورة بالحديد، قيل أنه عند تنفيذ هذه المحطة، التي كان من المقرر ان يكون بنيانها في هذا المكان، وعندما وجد اثناء الحفر هذه الاثار، حادوا عنها إلى مكان آخر في الجوار، يوجد على الشبك في هذا المكان، لوحة مكتوب عليها(حي من العهد العثماني في القصبة السفلى)، ثم يتلوها شرح ورسم كروكي وتعريف بهذا المكتشف.
تجاوزناه وخلفه في تفس الساحة، ميدان اعدت على جوانبه اكشاك مؤقتة، وعليها لوحة من القماش مكتوب عليها (سوق خاص برمضان)، فيه متطلبات رمضان من التمور والعصيرات والحلويات والاكلات المشهورة، تجاوزناه إلى مطل بعده، يطل على شارع عام في الاسفل، ومن بعده مباشرة البحر، وجزء من الميناء، وعلى يسارنا من هذا المكان مسجد جميل ابيض (كبشاو).
وبعد هذه الجولة الاستكشافية، عدنا إلى حيث اوقفنا سيارتنا، واكتشفنا حينها اننا قد سرنا لمسافات طويلة جدا، تقارب الثلاث كيلوات، ثم عدنا منها إلى داخل البلد، لتلبية دعوة اخ عزيز لنا من اهل الجزائر العاصمة، ومن الاسر العريقة فيها، دعانا لعشاء شعبي في بيته العامر، فلبينا الدعوة شاكرين، حيث اكرمنا اكرمه الله واخلف عليه، وكانت امسية وداعية جميلة، لهذا البلد الكريم الاصيل باهله، الذي ترك في انفسنا اثر بالغا لا يمحى.
وكما قيل لكل بداية نهاية، ولكل اجل كتاب، فقد كانت رحلة المغادرة من هذا البلد الكريم، في الغد بمشيئة الله تعالى.
الاحد 1444/8/27هـ 19/3/2023م
كان اليوم هو يوم المغادرة، والعودة للمملكة، بعد أن قضينا في هذا البلد مدة عشرة ايام، كانت من اجمل الايام وامتعها، اكتشفنا بلدا جميلا بارضه واهله، غادرنا الفندق مبكرين، واتجهنا نخترق المدينة متجهين إلى المطار (هواري بومدين)، والمطار في طور التطوير، حيث احدثت في صالة جديدة، مع بقاء الصالة القديمة مخصصة لبعض الرحلات، لم ننتبه إلا ونحن في المواقف امام الصالة الجديدة، فلم نركز على اللوحات في المداخل، فلما هبطنا متجهين إلى داخل الصالة، عرفنا خطئنا الذي الزمنا السير لمسافة طويلة، حتى نصل إلى الصالة القديمة، ودخلنا إلى داخل الصالة نمني انفسنا بالانتهاء من الاجراءات سريعا، لنتمكن من التجوال داخل المطار وفي اسواقه.
ولكن تفاجئنا بالأعداد المهولة من المسافرين داخل هذه الصالات، وبالذات الصالة المخصصة للخطوط السعودية، فهذه الاوقات السابقة لشهر رمضان المبارك، هي من المواسم المفضلة لأداء العمرة، ولهذا كانت الاعداد بالمئات، ترتص في صفوف طويلة لاستكمال اجراءات سفرها، مما اضطرنا للوقوف معهم في هذا السروات لأكثر من ساعتين، ثم دخلنا في اجراءات الجوازات بنفس الطريقة ونفس الوقت،
حتى أن الموعد المحدد لاقلاع الطائرة كان قد فات، ولولا أن الطائرة تأخرت، وتأجل موعد اقلاعها لحوالي ثلاث ساعات، لكانت قد فاتت علينا، كان الموعد الاساسي للرحلة (2.10) بعد الظهر بتوقيت الجزائر، ولم تقلع إلا الساعة (5.14)، وقد سعدنا بذلك في هذا الوقت، ولكنها اعقبتنا حسرة بعد أن فاتت علينا رحلتنا من جدة إلى الرياض، التي كان موعدها الساعة (12.20) ليلا بتوقيت السعودية، حيث لم نصل إلى مطار جدة إلا بعد خمس ساعات طيران، ووجدنا رحلتنا التالية قد اقلعت دوننا، لأن فارق التوقيت هو ساعتين، حيث وصلنا الساعة العاشرة بتوقيت الجزائر، الثانية عشرة بتوقيت السعودية.
كانت الطائرة من الجزائر ممتلئة بالركاب، بعكس ما كانت عليه في الذهاب، وغربت شمس ذلك النهار ونحن بين السحاب، ويوجد في مؤخرة الطائرة فسحة صغيرة خالية من الكراسي، مخصصة للصلاة، تعاقب الركاب عليها لأداء الصلاة جماعات، يصلون المغرب ثم العشاء، ومضت بنا الرحلة هادئة جميلة، نستعيد شيء من عبق هذه الايام الجميلة، التي قضيناها في هذا البلد الثاني الجزائر.
يتصف اهل الجزائر بالطيبة والكرم، وحسن الخلق والتدين، وارضهم ناهضة مقبلة على تطور هائل في كل جوانب الحياة، عشرات الجامعات في كل ولاية من ولاياتها، دروس وحلقات علمية في معظم جوامعها، طرق ممتدة لكل اتجاه في السهول والجبال، موانئ ومطارات في معظم مدنها وولاياتها، الخدمات الاساسية الطرق والبنى التحتية، و(الكهرباء والماء والغاز والصرف الصحي) تصل إلى كل بيت في السهل والجبل، مشاريع اسكانية تنفذها الدولة للمواطنين، تراها في كل المدن والقرى، ارض زراعية خصبة، تلاحظ معروضاتها في مداخل المدن وعلى الطرق العامة، ثم هي ارض سياحية من الدرجة الاولى، وفي طريقها إلى النمو والاشتهار بين الناس، تحتاج إلى بعض اللمسات والتسهيلات البسيطة.
سعدت بهذه الزيارة، واكتشفت معلومات وانطباعات جديدة اعتز وافخر بها، وادعوا الجميع إلى خوض هذه التجربة، ليكتشفوا جمال الرحلة التي اجزم انها لن تنسى، فانت تعيش فيها في متعة لا تمل منها، فيما يتعلق بأجوائها ومناظرها وتاريخها، وبالاهم وهو حسن العشرة واللطف والتعامل الطيب من اهلها.
وملاحظة اخيرة : هناك تجد من التسميات، مقام الشهيد، وساحات الشهيد، ونصب الشهيد، وغيرها من التسميات المرتبطة بالشهداء، وكيف لا يكون ذلك وهي بلد المليون شهيد، ومن اعتزازهم بهولاء الشهداء، ووفاء منهم لهم ولتضحياتهم، تجد معظم الشوارع والمدارس والمساجد والساحات، تحمل اسماء هولاء الشهداء، في كامل الدولة الجزائر، في المدن والقرى والسهول والجبال، لا يمر بك شارع أو مدرسة أو جامعة أو جامع أو مسجد، الا وهو يحمل اسم الشهيد فلان أو فلان، رحمهم الله تعالى وغفر لنا ولهم.
نسال الله أن يهيء لنا تكرار مثل هذه الزيارة، وارجو أني استطعت نقل بعض من مشاهداتي وانطباعاتي البسيطة عن هذا البلد العربي الاسلامي العريق.
وإلى اللقاء في رحلات قادمة، والى دول اخرى جميلة، بمشيئة الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محبكم/ عبدالله بن علي قاسم آل طارش الفيفي ـ ابو جمال
الرياض ـ المملكة العربية السعودية
رحلة الجزائر (الحلقة السادسة والأخيرة)
قبل الختام:
حلقات متنوعة حلق بنا الكاتب في ربوع ارض المليون شهيد.
إجتمع سفراء السياحة السعودية مع كرم أهلنا في الجزائر الشقيقة في أجمل صورة نقلت لنا عبر هذه المقالات مدى العمق العربي الأصيل وطبيعة البيت الواحد من المحيط الى الخليج.
عشنا مع الكاتب ومستقبليه هناك أجمل الأحداث بكل تفاصيلها وهذه طبيعة العرب بكرمهم الحاتمي
أما من شد الرحال كل هذه المسافات ووجه بوصلته الى ذلك المكان الغالي على كل قلب عربي
فنعجز عن جمال الصورتين:
1. صورة الكرم والإستقبال الحافل.
2. وصورة ترك مشاغل الحياة المختلفة لزيارة هذا البلد العريق بأهله.
جزائر يا بدعة الفاطــــــــــــــر و يا روعة الصانع القـــــــــادر
و يا بابل السحر، من وحيهـا تلقب هاروت بالساحــــــــــر
……………
تلوح في سمائنا دوماً نجوم برّاقة، لا يخفت بريقها عنّا لحظةً واحدةً، نترقّب إضاءتها بقلوب ولهانة، ونسعد بلمعانها في سمائنا كلّ ساعة فاستحقت وبكلّ فخر أن يُرفع اسمها في عليانا.
ابدعت ابا جمال كما عودتنا.
ما شاء الله تبارك الله يا ابا جمال سلسله جميله من الوصف الدقيق والجميل لتفاصيل هذه الرحله التى تعلمنا منها اسس الترحال واداب السفر التى تضيف على اي رحله قيمه كبيره فنحن مع الاسف لا نتقن فن التجول والاستمتاع وربما سافر احدنا لاقصى الغرب او الشرق دون حتى ان يتذكر اسماء الاماكن والعملات
ولكنك اثريتنا في هذه الحلقات بما يمكن ان نستفيد منه في رحلاتنا فشكرا لك
شكراً جزيلاً أبا جمال أتحفتنا بهذه السلسلة ومن خلال وصفكم الدقيق الممتع ، وفقكم الله وحفظكم في حلكم وترحالكم .
ماشاء الله ابداع ابا جمال وفقك الله وسدد خطاك .
ما شاء الله رحلة موفقة جميلة عشنا معك جوها وتنقلاتها بحسن النقل والوصف وأستشعرنا وتصورنا جمال تلك الحديقة والسوق القديم وما يحويه وأخلاق أهلها وحسن تعاملهم،أنت دوما تأخذنا معك في رحلاتك بحسن القصص والسرد للأحداث بصيغة جميلة محببة..
بوركت وبوركت رحلاتك ايها الكاتب المتمكن فأنت تتحفنا يا شيخنا وأديبنا وكاتب سيرنا بما يخطه قلمك توثيقاً متقناً..
حفظك الله يا أبا جمال وزادك من فضله وأطال في عمرك على طاعته وحفظ عليك نفسك واهلك وذريتك ومالك وأصلح لك النية والذرية آمين..