
رحلة الهند الحلقة الثالثة
الحلقة الثالثة :
الثلاثاء 1446/7/21هـ
ما إن انطلقنا بعد تناول الافطار في هذا اليوم، إلا ووجدنا السائق يخبرنا أن المنطاد الذي رغبنا ركوبه في الأمس جاهز، لأننا عندما ذهبنا في اليوم السابق إلى الموقع الخاص به، تعذر القائمون عليه في تشغيله، لوجود هواء قوي وتيارات يصعب عليهم المغامرة في تشغيله، لذلك كان أول محطاتنا في هذا اليوم، وكانت تجربة ممتعة، ونرى أن مثل هذا المشروع مناسب جدا لمنطقتنا، فالمنطاد هناك مثبت بعدة حبال قوية من الجهات الاربع، فلا يرتفع عن الارض إلا بمسافة لا تزيد عن خمسين مترا، تشده هذه الحبال فلا يتعدى هذا المحيط.
وبالطبع هو عبارة عن بالون ضخم، معلقة به سلة في طول مترين وعرض مترين وفي ارتفاع يقارب المترين، يستوعب اربعة اشخاص أو خمسة وقوفا، مع انبوبتي غاز مقاس (25) لترا، موصول من كل واحدة منها خرطوما إلى احدى الشعلتين القويتين في الاعلى، لأن فكرة المناطيد تقوم على تسخين الهواء داخله، فإذا سخن الهواء اصبح اقل كثافة من الهواء في الخارج، فيطفو ويرتفع الى الأعلى، فإذا ما خفف توهج هذه الشعلة برد الهواء داخله، وأخذ حينها بالهبوط من جديد.
وكانت تجربة ممتعة في امتطاء هذه الوسيلة القديمة، والتي كانت هي البدايات الحقيقية للطيران في الغرب، ارتفعنا إلى علوه المحدد بطول حبال التثبيت، وكان المنظر من هذا الارتفاع مهيبا وجميلا، فأنت تطل على كامل المحيط من حولك، وتشاهد مناظر لن تراها من الاسفل، ويبقى المنطاد محلقا بك في الفضاء لما يقارب العشر دقائق، ليهبط بعدها وينزل ركابه ويركب آخرون، هبطنا واتجهنا إلى السيارة لنتجه إلى هدفنا المحدد لهذا اليوم.
كان الاتجاه إلى أعلى قمة مونار، صعودا في طريقنا بالأمس، لنمر من بين مزارع الشاهي، وحقيقة كل هذه الجبال هي مزارع مكثفة بالشاهي، وتستمر كذلك إلى قرب قمة الجبل، لتمتد معنا لكيلوات طويلة، كما سنراه في طريقنا القادم غدا، المسافة ليست بعيدة ولكنها متعرجة وضيقة ومليئة بالسيارات، واكثر ما يزحم طرقهم الباصات الكبيرة التي تشاهدها بكثرة، وهناك اصلاحات وتوسيع في بعض جوانب الطريق، تزيد من تعثر السير حاليا، وعلى جوانب الطريق ومحيطه العديد من البيوت، وهناك مشاريع ومنتجعات وفنادق تنفذ، لم وصلنا إلى قبيل القمة بقليل، وجدنا حاضرة مونار الرئيسية، تقع في منطقة واسعة وممتدة بين شعاب كثيرة وأودية يغيل فيه الماء، وأول ما يقابلك على يمينك في مدخل هذه المدينة الصغيرة حديقة عامة، اسمها حديقة الزهور، يرتاده كثير من الزوار كما هو مشاهد، ولكنا تجاوزناها إلى قلب البلدة، وهي تمتد على شوارع متداخلة في كل الاتجاهات، ويربط بينها في الغالب جسور فوق الوادي المتعرج، وهي عبارة عن سوق ضخم مليء بالدكاكين والمحلات، وتشاهد فيها كل انواع البضائع، من الملبوسات والاواني ومواد البناء، واللحوم والفواكه والخضار، والاجهزة الكهربائية والالكترونية، والمطاعم وكل متطلبات الحياة، والملاحظ أنه لا يوجد بها بيوت سكنية، وانما هذه المنطقة مخصصة كسوق فقط للبيع والشراء، واما بيوتهم ففي منطقة بعيدة قليلا عن هذا المكان، تقع في سفح جبل مجاور مررنا من جوارها لاحقا.
في نهاية هذا السوق تجد طريقين أحدهما يواصل السير شمالا وهو ما سرنا فيه، والاخر غربا سناتي عليه لاحقا، ونمر به عند العودة إلى وجهة أخرى سنتحدث عنها، ولكن في طريقنا هذا الذي اخترناه أولا، يواصل معنا نفس المنوال في تعرجه وصعوده بشكل متدرج، لمسافة تقارب الثلاث كم، وصلنا فيها إلى فسحة في الطريق تصل إلى ملتقى قمتين ، تركنا خلالها الخط الاساسي، ودخلنا إلى مواقف معدة في هذا الشعيب على اليسار، كانت له بوابة يقفلونها إذا امتلأ الموقف بالسيارات.
والمكان به محلات تجارية خدمية، وبه صالة كبيرة فيها اجهزة بيع للتذاكر، وبها معارض للملبوسات وبعض البضائع القيمة، فأنت تشتري من هذه القاعة تذاكر الدخول اكترونيا، لتدخل إلى المنتزه الوطني (أرافيكولام) ، محمية (نيلغيري طاهر)للماعز الجبلي، الواقع في قمة هذا الجبل (مونار) الصخرية، والمكان مزدحم بالناس الذين يرغبون في الصعود إلى هناك، حيث تنقلهم حافلات كبيرة خاصة بالمنتزه، وتنقل الناس في رحلات ترددية (تفويج)، لتصعد إلى اعلى القمة بطرق تمر بين مزارع الشاهي الكثيفة في هذه الهضاب، في مسافة تقارب الكيلوين أو الثلاثة، لتصل في نهايتها إلى موقف خاص لا تتجاوزه هذه السيارات(محطة)، يوجد بها متحف صغير خاص بالمحمية، وكفتيريا ومحلات لبيع الاشياء التذكارية، والمحطة تعج بالناس الواصلين والمغادرين، ومن هناك يواصل الشخص السير مشيا على الاقدام، في طريق هو اتصال بالطريق الذي تسلكه السيارات، ومن رغب فيوجد بعض السيارات
الصغيرة، تستأجرها لتوصلك إلى نهاية هذا المنتزه ثم تعيدك، ولكن المتعة تكمن في السير وهو ما اخذنا به، ومعظم الناس من حولنا كذلك، وفي الطريق تجد كثيرا من قطعان الماعز الجبلي، في مجموعات وفرادى، تتجول وترعى وتلتقط بعض ما يتساقط من الزوار، حتى أنها لم تعد تخاف من الناس، فقد الفت وجودهم بينها.
والممر يمتد لأكثر من كيلوا أو يزيد قليلا، يسير على حافة الصخرة العملاقة التي تعلوه، وهي صخرة ممتدة على كامل قمة هذا الجبل، تشبه جبل (منعا) في تنومة، ولكنها اكبر واعرض واصعب، ويتحدر من جهتها الغيول المتدفقة في بعض الجوانب، وعمل لها مسارب جميلة، وتتميز بمائها الحلو البارد.
وهناك طرق وجسور تربط بين بعض جوانب هذه المحلات بشكل جميل، والطريق محفوف بدعائم معمولة من العيدان تحجزك في السير داخله، إلى أن تصل إلى فسحة من المكان يوجد فيها حاجز وحراسة لا تستطيع تجاوزها إلى القمة، وهناك بعض اللوحات والرسومات والجلسات البسيطة، ثم يتم بعدها العودة من حيث اتيت، وبنفس الطريق والطريقة، إلا أنك في محطة ركوب الحافلات عند النقطة التي مشينا منها، تضطر إلى الوقوف في صف طويل له حوجز تقف خلفها، وكانت الاعداد كبيرة وطويلة، كلما وصلت حافلة محملة بالقادمين، وقفت بعد نزول ركابها في بداية هذا الطابور ليركب من وصله الدور، وقد وصلت بهذا الشكل ما يقارب من عشر حافلات، وكنا نتقدم قليلا قليلا، فلما وصلنا ركبنا الحافلة لتعيدنا إلى المحطة الكبيرة التي ركبنا فيها اولا، لنجد في الموقف هناك سيارتنا تنتظرنا لننطلق إلى وجهة أخرى.
عدنا من حيث اتينا متجهين إلى حاضرة مونار إلى السوق، وكما اسلفنا كان اتجاهنا بالطريق المتجه من السوق غربا، وكانت نهايته توصلنا إلى مصنع الشاهي الذي هو هدفنا في البرنامج، وكانت الطريق لا تختلف عن بقية الطرق، سرنا فيها لما يقارب الكيلوين، إلى أن وصلنا إلى تفرع في الطريق، اخذنا فيه بالطريق المتجه إلى الاسفل، إلى مجموعة مباني هناك، لنصل إلى باحة هذا المصنع، وكان في مقدمتها مواقف للسيارات، ثم بعده المباني التي كانت عبارة عن قاعات كبيرة، دخلنا إليها بعد دفع رسوم بسيطة مقررة، وبعد المدخل وجدنا في القاعة الاولى منها، صالة يعرض فيها فلم سينمائي تعريفي بالمصنع، اخبرونا أنه في بداية عرضه، فدخلنا فإذا به مجموعة كبيرة يتفرجون عليه، اشعل احدنا الاضاءة في جواله لنستدل على طريقنا في الظلام، واخترنا لنا مقاعد متجاورة، وكان الفلم يعرض بتعليق باللغة الانجليزية، ولكنه يفهم من مجرد المشاهدة، فهو يتحدث عن تاريخ هذا المصنع ، والخدمات التي قدمها لمحيطه في أول أنشائه، من المجالات الخدمية والتطويرية، في العمل والتعليم لأبناء العاملين فيه، والخدمات الصحية والاجتماعية والرياضية، ثم عن بداياته وتطوراته اللاحقة، حيث انشئ من قبل الانجليزي في عام 1913م، اثناء حكمهم حينها للهند، وتم لاحقا تطويره حسب مقتضيات الحال، ومع زيادة المخترعات، والسعي إلى تحسين الجودة ومتطلباتها، وبناء على نجاحاته المتلاحقة ومردوده على هذا المحيط، تزايدت زراعة الشاهي حتى عم معظم هذه الجبال في محيطه، الذي تنامى ووصل اليوم بعد اكثر من قرن إلى درجة عالية من الانتاج والجودة، ويشغّله اليوم طواقم هندية خالصة.
بعد مضي حوالي عشر دقائق، لم ننسجم كثيرا مع العرض وقد فهمنا خلاصة الفكرة، فخرجنا لنجول في بقية المكان، كان يتلوا هذه الصالة غرف بها متحف يعرض بعض الآلات القديمة، التي كانت تستخدم في المصنع سابقا، ويحكي التطورات التي تلت كل ذلك، ثم تواريخ وصور لبعض الاشخاص الذين شاركوا في بداياته من الانجليز، وعن وسائل النقل حينها ومعظمها من الخيول، وتظهر الحراسات التي تصحبهم في تحركاتهم وفي داخل المصنع، وبعض آلات الكتابة والطباعة القديمة، واجهزة الترفيه من راديو وسينما، وبقايا لرؤوس حيوانات تم اصطيادها حينها، هناك الغزلان (الايل) والبقر الوحشي وغيرها، معلقة رؤوسها بشكل فني في براويز على الجدران، وغير ذلك من المقتنيات والتماثيل والصور.
وخرجنا منها لنتجه إلى قاعة كبيرة يوجد بها نموذج للمصنع، يستقبل الزوار الكثيرين أحد الموظفين، ليشرح لهم كيفية صنع الشاهي خطوة بخطوة، والتي تبدأ باختيار النوعية، فالشاهي ينتج منه ثلاثة انواع حسب ما يجمع منه من الورق، فالورق الطري الذي لم يستكمل تمام نموه، يستخرج منه الشاهي الابيض، ليس له صبغة بل هو اقرب لشكل الماء العكر قليلا، والنوع الناضج من الورق يصنع من الشاهي الاحمر المعروف، واما من تجاوز من الورق في هذه المرحلة فهو ما يصنع منه شاهي (الكرك) الأقل جودة.
ومراحل التجهيز والتغليف، تبدأ من البداية في آلة تهرس الورق وتقطعه، ثم يواصل المرور بعدها بسيور تنقله إلى الآلات التالية لهذه المرحلة، وكل واحدة منها تقوم بدور معين، فهذه تجففه وتزيل رطوبة الورق، وتحوله إلى الورق الصلب المستخدم، وهذه تفرزه حسب حجمه بعد هرسه، بما يتراوح بين الصغير والمتوسط والكبير، وأخرى تزنه بالكميات المطلوبة للتصدير، وتغلفه بالأحجام المطلوبة في صورته النهائية، وهذه هي الفكرة العامة التي استوعبناها، وإلا فهناك تفصيلات كثيرة ومتعددة، وانما هذا هو نموذج مصغر للمصنع، ليعطي الزائر فكرة سريعة.
خرجنا من هذا القاعة إلى قاعة أخرى، عبارة عن معرض به منتجات المصنع المتعددة، لمن رغب في شراء شيء من ذلك، وقد اخذنا بعض العلب الصغيرة من الشاهي الاحمر والأبيض، لنخرج بعدة معلومات وفوائد جديدة، وننطلق إلى وجهة أخرى.
كان اتجاهنا بنفس الطريق الذي جئنا به، إلى سوق مونار، فهو نقطة الارتكاز لجميع الاتجاهات ، فتجاوزنا السوق إلى جهة الشرق، ثم اخذنا بطريق إلى الشمال الشرقي يواصل الصعود قليلا في طرق متعرجة، وكان مقصدنا زيارة اكبر سد في هذه القمة، حيث مررنا بطريقنا ببيوت العاملين في هذا السوق، فقد اختاروا لسكنهم مكانا خارج السوق، يبعد عنه بمسافة بين الكيلو والاثنين، بيوت تقع بين حقول الشاهي جميلة المنظر بالألوان، سقوفها من الجرانيت الاحمر والازرق والاصفر، وملتمة حول بعضها في سفوح تلك الروابي، تجاوزناها إلى هدفنا الذي يبعد عدة كيلوات بين الهضاب، ومررنا في طريقنا ببعض المنتجعات، والبيوت والمدارس وغيرها، وصلنا إلى السد (موكوبدي) وعبرنا من فوق مبناها الرئيسي الى الضفة المقابلة، ثم واصلنا سيرنا صعودا لنلتف حول بحيرة السد العظيمة، ونتعرج مع الطريق في تلك الجبال والشعاب، داخل غابات كثيفة عظيمة الاشجار، إلى أن وصلنا إلى الضفة الغربية منه، حيث توجد على جنبات هذا الطريق كثير من المحلات التي تبيع على الزوار بعض الاكلات والقهوة والمشروبات، وبعض الالعاب والتحف وغيرها، وتجاوزناها قليلا ثم أوقفنا سيارتنا لنهبط من طريق بين الاشجار، يوصلنا إلى حافة البحيرة، لنستمتع بالمنظر الجميل الذي يجمع بين الماء والغابات، وتحفّه اشجارها الضخمة العملاقة من كل الجوانب.
وراقبنا بعضا من الرواد يقومون باصطياد الاسماك بسناراتهم، وبطريقة مبتكرة، تكمن في تكثيف الخطاطيف، بوضع حزمة متعددة منها، وفي اتجاهات مختلفة، ثم يكون الطعم عبارة عن عجينة صلبة قليلا، تغطى بها مجموعة هذه الخطاطيف، ثم يلقيها ببساطة في الماء، وما اسرع ما يعلق بها السمك، فإن سلمت السمكة من خطاف لم يخطئها الآخر، فيسحبه من الماء وقد علق بها واحد أو أثنين، والاسماك في هذه البحيرة صغيرة جدا، ولكنه يضعها في اناء من البلاستيك، فيه ماء لتبقى حية إلى حين، كان وقت العصر قد قارب ولم نصلي الظهر، فاخترنا مكانا خال من الناس ونظيف، وتوضئنا من طرف البحيرة وصلينا الظهر والعصر، ثم اتجهنا إلى سيارتنا عائدين من حيث اتينا وبنفس الطريق.
ختمنا جولتنا في مجمع سوق مونار، بالتوجه إلى مطعم مشهور هناك،(مطعم علي بابا)، وجعلناه غداء وعشاء، لننصرف هابطين من قمة هذا الجبل إلى حيث فندقنا الذي انطلقنا منه هذا الصباح، لنصله مع غروب الشمس، وما إن صلينا المغرب والعشاء كل أوى إلى فراشه بعد يوم طويل، واستعدادا للمغادرة في صباح الغد إلى مكان آخر ومدينة أخرى.
وإلى اللقاء في حلقة قادمة بمشيئة الله ـ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محبكم/ عبدالله بن علي قاسم آل طارش الفيفي ـ أبو جمال
الرياض في 1446/8/27هـ
رحلة الهند الحلقة الثالثة
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أما بعد :
فقد قرأت كلماتك الجميلة يا أبا جمال عن رحلتكم إلى الهند وكأنني أعيش اللحظات معكم ، حيث تأخذنا مغامراتكم في سماء المنطاد إلى عالم من السحر والجمال ، فكلما وصفت المناظر الخلابة ومزارع الشاي ، شعرت بأنني أستطيع أن أشم رائحة الهواء المنعش وأسمع همسات الطبيعة من حولنا.
إنها رحلة تتجاوز الجغرافيا لتصل إلى قلوبنا، حيث تجتمع الذكريات الجميلة والمشاعر الصادقة ، الكل يرجو لو كان معكم ، يشارككم تلك اللحظات الرائعة تحت سماء مونار، ويستمتع بتفاصيل الحياة البسيطة التي تجعل القلب ينبض بالسعادة ، وبالتالي فنحن في انتظار الحلقة القادمة بشغف ، حيث أريد أن أستمر في رحلة اكتشاف الجمال الذي تحمله كلماتك الجميلة.