مقالات

رَحْلَة تَأَمُّلٍ فِي الزَّمَن

محمد بن سالم بن سليمان العبدلي الفيفي

رَحْلَة تَأَمُّلٍ فِي الزَّمَن

فِي رَحْلَةِ الإِنْسَانِ عَبْرَ الزَّمَنِ، يَتَمَاهَى الوَقْتُ كَنَهْرٍ جَارِفٍ لا يَتَوَقَّفُ، يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ ذَرَّاتِ اللَّحْظَاتِ وَالأَحْدَاثِ وَالوَقَائِعِ، مُغَذِّيًا بِذَلِكَ تَيَّارَ الْحَيَاةِ بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ تَعَقِيدَاتٍ وَصُعُوبَاتٍ، وَبِكُلِّ مَا فِيهِ مِنْ أَرِيحِيَةٌ وَبَسَاطَةٌ. إِنَّ إِدَارَةَ نَهْرِ الوَقْتِ مِنْ كِلَا الجِنْسَيْنِ، وَخُصُوصًا مِنْ مَنْظُورِ الْمَرْأَةِ وَتَعَامُلِهَا مَعَ الزَّمَنِ وَاللَّحْظَةِ، يَطْرَحُ أَسْئِلَةً فَلْسَفِيَّةً عَمِيقَةً حَوْلَ القِيمَةِ وَالمَعْنَى لِلْوَقْتِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ لِلْفِعْلِ الْبَسِيطِ كَالتَّسْوُّقِ أَوِ التَّحْضِيرِ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلِ أَنْ يَصْبَحَ مِرْآةً تَعْكِسُ فَهْمَنَا لِلْوُجُودِ وَأَوْلَوِيَّاتِنَا فِي الْحَيَاةِ.

التَّجَوُّلُ فِي أَرْوِقَةِ الأَسْوَاقِ لِسَاعَاتٍ طَوِيلَةٍ، دُونَ هَدَفٍ مُحَدَّدٍ أَوْ دُونَ شِرَاءِ مَا نَعُدُّهُ ذَا قِيمَةٍ، يُعَدُّ بِمِثَابَةِ سِيمْفُونِيَةٍ تُعْزَفُ عَلَى أَوْتَارِ الْحَيَاةِ الْيَوْمِيَّةِ.

فِي لَحْظَاتِ التَّجَوُّلِ هَذِهِ، قَدْ يَرَى الْبَعْضُ فِيهَا صُورَةً لِضَيَاعِ الْوَقْتِ، لَكِنْ مِنْ مَنْظُورٍ أَرْحَبَ لِبَعْضِ النَّاسِ، يُمْكِنُ تَأَمُّلُ هَذَا السُّلُوكِ كَتَعْبِيرٍ عَنِ الْبَحْثِ عَنْ لَحْظَاتٍ مِنَ السَّلامِ وَالِانْسِجَامِ مَعَ الذَّاتِ، فِي عَالَمٍ يَبْدُو أَحْيَانًا وَكَأَنَّهُ لا يَتَوَقَّفُ لِلَحْظَةٍ.

حَتَّى لِأُولَئِكَ الأَشْخَاصِ شَدِيدِي التَّمَسُّكِ بِالْوَقْتِ الَّذِينَ يَنْتَهِرُونَ النَّاسَ عَلَى إِضَاعَتِهِ، فَإِنَّ عُبُورَهُمْ لأَسْوَاقَ الْحَيَاةَ يُعَدُّ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ تَحَدِيًّا قَاسِيًا، حَيْثُ يَتَدَاخَلُ الْوَقْتُ وَالْمَوَاعِيدُ بِطَرِيقَةٍ مُرْبِكَةٍ لِلْوُجُودِ مِنْ حَوْلِهِمْ، مَمَّا يَجْعَلُ الإِمْسَاكَ بِكِلَا الأَمْرَيْنِ يَنْزَلِقُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ إِلَى حُدُودِ الْمُسْتَحِيلِ.

مِنْ هُنَا، يُطْرَحُ مَوْضُوعُ التَّسْوُّقِ لَيْسَ كَمَجَرَّدِ نَشَاطٍ اسْتِهْلَاكِيٍّ، بَلْ كَفُرْصَةٍ لِلتَّأَمُّلِ وَإِعَادَةِ النَّظَرِ فِيمَا نَعْتَبِرُهُ مُهِمًّا وَقَيِّمًا. إِنَّهُ يَفْتَحُ الْبَابَ لِتَسَاؤُلَاتٍ عَدِيدَةٍ حَوْلَ الرَّغْبَةِ وَالْحَاجَةِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ لِلْمَادِيِّ أَنْ يَمْتَزِجَ بِالرُّوحَانِيِّ فِي طُوفَانِ الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ.

أَمَّا عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي تَقْضِيهِ الْمَرْأَةُ فِي التَّحْضِيرِ لِلْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهَا، فَهُوَ يُمَثِّلُ سَعْيًا نَحْوَ الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ فِي عَالَمٍ يُقَدِّرُ الصُّورَةَ الْخَارِجِيَّةَ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ.

وَلَكِنَّ، أَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ هَذَا السَّعْيِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْفُنُونِ، حَيْثُ يَتَحَوَّلُ الْجِسْمُ إِلَى لَوْحَةٍ ذَاتِ أَلْوَانٍ، وَأَنَّ الأَزْيَاءَ وَالأَلْوَانَ أَصْبَحَتْ وَسَائِلَ لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الذَّاتِ؟ إِنَّهَا لَحْظَاتٌ تُبْنَى فِيهَا الْهُوِيَّةُ وَيُعَادُ تَشْكِيلُهَا خَارِجِيًّا وَلَيْسَ دَاخِلِيًّا، فِي عَمَلِيَّةٍ تَتَجَاوَزُ مُجَرَّدَ الِاسْتِعْدَادِ لِمُوَاجَهَةِ الْعَالَمِ الْخَارِجِيِّ.

وَأَمَّا عِنْدَ التَّفْكِيرِ فِي الِالْتِزَامِ بِالْمَوَاعِيدِ الْمُحَدَّدَةِ بِزَمَنٍ مَعِينٍ، فَإِنَّهُ يَبْدُو التَّأَخِيرُ هُنَا كَمُخَالَفَةٍ لِقَانُونِ الزَّمَنِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ اجْتِمَاعِيًّا. وَمَعَ ذَلِكَ، يُمْكِنُ أَيْضًا رُؤْيَةُ هَذَا التَّأَخِيرِ كَتَمَرُّدٍ ضِمْنِيٍّ عَلَى فِكْرَةِ أَنَّ كُلَّ لَحْظَةٍ يَجِبُ أَنْ تُخْضَعَ لِلإِنْتَاجِيَّةِ وَالْفَعَالِيَّةِ.

فِي هَذَا السِّيَاقِ، يُصْبِحُ الْوَقْتُ مَسَاحَةً لِلتَّفَاوُضِ، حَيْثُ الْحُرِّيَةُ الشَّخْصِيَّةُ تَصْطَدِمُ وَتَتَفَاعَلُ مَعَ تَوَقُّعَاتِ الآخَرِينَ حَوْلَ الْوَقْتِ وَأَهَمِّيَتِهِ الثَّمِينَةِ.

التَّحَدِّي فِي إِدَارَةِ الْوَقْتِ يَكْمُنُ فِي إِيجَادِ التَّوَازُنِ بَيْنَ الْحَاجَةِ إِلَى تَحْقِيقِ أَهْدَافٍ مَلْمُوسَةٍ، وَالرَّغْبَةِ الْمُلِحَّةِ فِي الْعَيْشِ بِمَا يَتَمَاشَى مَعَ قِيَمِنَا الْعُمِيقَةِ. هَذَا التَّوَازُنُ يَتَطَلَّبُ مِنَّا أَنْ نَتَسَاءَلَ عَنْ مَعْنَى الْوَقْتِ بِالنِّسْبَةِ لَنَا، وَكَيْفَ نَخْتَارُ أَنْ نَقْضِيَهُ فِي عَالَمٍ يَقِيسُ الْقِيمَةَ غَالِبًا بِالإِنْجَازَاتِ الْمَادِيَّةِ.

فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ، الْفَلْسَفَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِإِدَارَةِ الْوَقْتِ تَتَعَلَّقُ بِأَكْثَرَ مِنْ مُجَرَّدِ كَيْفِيَّةِ جَعْلِ الْيَوْمِ أَكْثَرَ إِنْتَاجِيَّةً وَفَعَالِيَّةً.

إِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ جَعْلِ الْحَيَاةِ أَكْثرَ مَعْنًى وَأَكْثَرَ قِيمَةً، كَيْفَ نَنْسُجُ مِنَ اللَّحْظَاتِ الْعَابِرَةِ تَجْرِبَةً وُجُودِيَّةً غَنِيَّةً وَمُتَكَامِلَةً. فِي هَذَا السَّعْيِ، رُبَّمَا تَكُونُ اللَّحْظَاتُ الَّتِي نَعْتَبِرُهَا “ضَائِعَةً” هِيَ بَالضَّبْطُ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِتَذَكِّرِنَا بِجَمَالِ الْحَيَاةِ وَرَوْنَقِهَا، وَعُمْقِ تَجْرِبَتِنَا الإِنْسَانِيَّةِ فِيهَا

رَحْلَة تَأَمُّلٍ فِي الزَّمَن

المقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى