مقالات

سيرة الدكتور يحيى بن حسين حسن الظلمي الفيفي

إعداد الشيخ :عبدالله بن علي قاسم آل طارش الفيفي ـ ابو جمال

الدكتور يحيى بن حسين حسن الظلمي الفيفي

العزيمة والاصرار والطموح لا يقف امامها أي عائق مهما كبر وعظم، كانت المعوقات والعقبات امامه كثيرة ومتعددة، منها في البداية بُعد بيتهم عن المدارس القائمة، بدأ من المدرسة الابتدائية في ذراع منفة، ثم المتوسطة والثانوية في المعهد العلمي، ومع ذلك صبر وتحمل وتجاوزها، بل وزاد هذا البعد والمعاناة  من معيار التحدي داخله، وجعله يضاعف اجتهاده ويتفوق ويبدع، وكأنما هي عوامل تزيده صلابة وقوة وعزيمة، فكان متفوقا طوال مسيرته يحرز المراتب الاولى، ويبدع في كل المجالات والمشاركات، واثبت جدارته وتأثيره الإيجابي في كل المراحل، حتى بعدما صرف عن اختيار تخصصه الذي يرغبه في الجامعة، وتوجيهه إلى تخصص اخر، مما جعله في تحد آخر امام اثبات جدارته، فأبدع فيه وقبل بالتحدي حتى نال المراتب الاولى،

وكذلك فيما بعد في الدراسات العليا، التي جابه فيها كثيرا من الضغوطات والتحديات والعوائق، ولكنه بالصبر وحسن التدبير، والهمة العالية والتصرف السليم، جعله يتجاوزها كلها بنجاح، فهو انسان مكافح، يميل إلى استشعار المنافسة والتحدي،

وكلما زادت امامه اعطته القوة والتفوق والنجاح، وكأنها تقدح زناد فكره، وتزيده عطاء وتوهجا، كان له في المعهد زملاء بينهم كثير من هذا التنافس، سواء ما كان منه في الدراسة والتحصيل، أو في جميع الانشطة المرادفة اللامنهجية، دخلوا في تنافس شريف غير معلن، الغاية منه طلب العلم والترقي في زيادة التحصيل والتفوق، ولذلك لم يحزّ في نفسه شيء كبعده عنهم بعد المعهد، وافتراقه عن صحبتهم الماتعة في الجامعة، ولكنه لا شك في الجامعة وجد اخرين ادوا نفس هذه الادوار،

واشعلوا في نفسه وفكره هذا التوهج، انسان لا تحكم عليه من خلال مظهره الهادئ، ولا من خلال كلامه الخافت، فهو يحوي روحا متوثبة، وشعلة متوهجة من العلوم والعطاء والذكاء، له مكانته وله تأثيره وعطائه العلمي المتدفق، وفقه الله ورفع من قدره وزاده علما وفضلا وادبا. أنه الاستاذ الدكتور

يحيى بن حسين بن حسن بن جبران بن فرحان الظلمي الفيفي .

والده الشيخ حسين بن حسن الظلمي الفيفي حفظه الله، نشأ يتيما حيث توفي والده وهو صغير لم يبلغ الحلم، فتربى في كنف جدته لأبيه، ونشأ عصامياً مكافحاً، معتمدا بعد الله على نفسه، فلما اكتمل شبابه غادر فيفاء ليلتحق بالسلك العسكري، في الجيش السعودي، ليخدم دينه ووطنه ومليكه، وشارك في عام 1967م ضمن القوات السعودية في الأردن، وفي عام 1390هـ انهى ارتباطه بالعسكرية، ليعمل موظفا مدنيا، وتوظف حارسا امنيا في المعهد العلمي بالطائف، واستمر فيه إلى أن احيل على التقاعد، عام

1409هـ، وبعدها استقر في بيته بفيفاء، وهو الان مقيم مع بعض اولاده في مدينة الخميس، حفظه الله وبارك فيه وفي ذريته .

واما والدته فهي الفاضلة سعيدة بنت أحمد سالم الظلمي الفيفي حفظها الله، والدها الشيخ أحمد بن سالم بن يزيد الظلمي، من أهل الكرس ومن أعيان قبيلة آل ظلمة، الذين يشار إليهم بالبنان كرماً وحكمةً ورجاحة عقل، وورثت من ابيها كثيرا من هذه الخصال، وكانت نعم الزوجة والشريكة، تحملت مع زوجها كثيرا من مسؤولية بناء الأسرة، وتربية الأبناء وتنشئتهم تنشئة صالحة، مع ترسيخ مبادئ الإسلام وقيمه في نفوسهم، وكانت تقوم بأعباء العناية ببيتهم، وفي متابعة الاولاد اثناء غياب ابيهم الطويل، في سبيل طلب الرزق خارج المنطقة، حفظها الله واطال في عمرها على ما يحبه ويرضاه.

وُلد لهذين الفاضلين في محافظة فيفاء، في بيتهم وسط بقعة الدثنة، شرق جبل قبيلة آل ظلمة، في عام 1398هـ، واسماه والده يحيى، على اسم ابن عمه الشاعر الكبير يحيى بن سليمان جبران الظلمي الفيفي رحمه الله تعالى، وكان ترتيبه السابع قبل الاخير بين اخوانه، حيث سبقه من الاخوة ستة وتلاه واحد، وهم ستة ابناء وابنتان حفظهم الله ووفقهم، عاش وترعرع في هذه البيئة الخليط بين الحاضرة والبادية، فمنطقتهم رغم انها زراعية إلا أنها في اطراف القفر، فتجمع بين حرفتي الزراعة والرعي، وكان يساعد اسرته حينها في كلتا الحالتين، مما اثر عليه في الصلابة وقوة البدن والجلد والصبر والتحمل، مما كان له عونا وسندا في حياته وفي التغلب على صعوبات الحياة،  وبالذات في صغره ومكابدة بعد المدارس عن بيتهم في بداية حياته العلمية.

تعليمه :

  لما كان سكنهم في جهة الدثنة، بعيد بشكل كبير عن المدارس القائمة في محيطهم، ولا يوجد كاليوم طرق للسيارات او وسائل النقل، مما كان يحول بين معظم الناس والحاق ابنائهم بهذه المدارس، وكان والده بحكم معرفته بأهمية التعليم، حريص على ان ينال الحظ الاوفر منه، فكان اكبر همه الحاقه بإحدى هذه المدارس، ولكنه وازن بين الامور، فاختار تأخير تسجيله إلى أن يشتد عوده قليلا، لذلك لم يلحقه بالمدرسة إلا بعدما بلغ الثامنة من عمره، وعندها الحقه بمدرسة ذراع منفة الابتدائية، فهي الأقرب في جهتهم، فسجله في العام الدراسي1405/1406هـ، وكان هذا التأخير حينها شيء معتادا ومبررا، لأن الوصول إلى المدرسة من مكان سكنهم صعب، إن لم يكن متعذر على طفل صغير، لأنه يلزمه السير لأكثر من ساعة، في منطقة قفرة موحشة خالية من المساكن، والطريق إليها وعرٌ صعب التضاريس، يقطعها الطلاب سيراً على الأقدام، من خلال طرق المشاة البدائية، يتسلق فيها الجبال ويتخللها الشعاب والغابات، وإن كانت بالنسبة لهم حينها شيء معتاد، ويشاركهم فيها غيرهم من الأقران من محيطهم ومن الجيران، ولا يوجد لهم من بديل، وإن كان من ايجابية لهذه المعاناة ولهذه المشقة الضرورية، غير أنها كانت حافزاً للتميز والجد والاجتهاد والإبداع، فالإبداع كما قيل (يولد من رحم الصعوبات والمعاناة)، وكانت أصعب المراحل التي يمرون بها، عندما يحل فصل الشتاء، الذي يكون فيه الوقت بين صلاة الفجر وموعد الطابور الصباحي قصير جدا، قياسا بالمسافة البعيدة التي يلزمهم قطعها، مما يلزمهم الخروج المبكر من البيت، بعد صلاة الفجر مباشرة، حيث يسيرون لمسافات طويلة في وسط الظلام الدامس، وبعضهم يضطر إلى استخدام المصابيح اليدوية (الكشاف)، وإن لم يتوفر فالسراج ليهتدوا إلى الطريق في هذا الظلام، وتزداد الامور صعوبة مع هطول الأمطار في هذا الفصل، مما يصيب ثيابهم بالبلل، ويفسد عليهم دفاتر الواجبات والكتب المقررة، ويصيب اجسادهم النحيلة بالبرد، ناهيك عن الخطورة في قطع الأودية المحملة بالسيول، وكثرة الانهيارات في كثير من الاحيان، وأما إذا ما هطلت الأمطار وما زالوا في المدرسة فالعادة أن مدير المدرسة يوجههم بإبقاء المقررات والدفاتر في المدرسة، حفاظاً عليها من التلف، وكان هو حريص على أن لا يتأخر عن المدرسة، تشوقا منه لها، وحرصا على حضور الطابور الصباحي فيها، لأنه بسبب التأخير قد ينالهم العقاب البدني، مع ما يفوته في هذا الطابور من الفعاليات المحببة، ومنها ما يلقى من برامج إذاعية، كان مشارك في تقديم شيء منها مع بعض زملائه، فقد استهوته هذه الاذاعة كثيرا، حتى اصبح من أبرز المشاركين فيها، بل ومن اقطابها النشيطين, وكانت هواية محببة تنسيه معاناة الطريق وبعدها، فاقبل على دراسته بكل رغبة وحماس، وانخرط في الانشطة المتعددة التي تقام في المدرسة، وبالذات ما اشرنا إليه عندما وجد نفسه في الاذاعة المدرسية، التي وجد فيها التشجيع مما جعله عضوا ناجحا ومميزا فيها، وكان يجتهد كثيرا في اعداد المادة المناسبة التي يقدمها، ويعتمد في غالبها على الاقتباسات البسيطة، مما يتوفر بين يديه من الكتب القليلة، ليقتبس منها بعض القصص الهادفة، والاحاديث والعظات النافعة، واستفاد في ذلك من مقررات بعض اخوانه في المتوسطة والثانوية، من مواد اللغة والادب والمطالعة، ويستعين احيانا بهولاء الاخوة في بعض الاعدادات، وكانت مشاركاته  تجد الثناء والتحفيز من المدرسة، وبالذات من مديرها المربي الفاضل الاستاذ محمد بن حسين الظلمي حفظه الله، كان انسان رائع في تعامله مع جميع الطلاب، ولمعرفته الشخصية بطلابه وبإبائهم ومعرفتهم به، كل ذلك كسر كثيرا من رهبة المدرسة في نفوسهم، رغم ما يتصف به شخصيا من الصرامة والجدية، حيث لا يقبل الخطأ ولا يتجاوز عنه، بل يعاقب عليه بما يناسب، ولو صدر من اقرب الناس اليه، وهذا الحرص منه في سبيل التربية والتعليم، ولا شك أن التشجيع الصادر من المعلم يكون له دور كبير لدى الطلاب، في تنمية مهاراتهم ورفع قدراتهم، وشحذ همهم ومعنوياتهم، وفي المقابل فإن عدم الاهتمام، أو السلبية في التوجيه والتشجيع، تكون محطمة، وتكسّر المجاديف، وتغرق القوارب، فأثرها السلبي يبقى في النفس ولا يزول، وتغرس فيها العقد وامامها العقبات، حتى أنه يصعب عليه فيما بعد تجاوزها بسهولة، وقد جرى له شخصيا شيء من هذا القبيل، في تلك المرحلة الاساسية، عندما وصل إلى درجة من الثقة بنفسه، بعد بلوغها شيء من النجاح، جعلها تلح عليه في صياغة قصيدة شعرية، لا باس بها حسب سنه وادواته، عكف في اعدادها وتنقيحها لأيام طويلة، حتى امتلئ بها قلبه زهوا وغبطة، مما جعله يتشجع بعرضها بكل ثقة على معلمه في الفصل، منتظرا ثنائه وتشجيعه لما فعل، ولكنه للأسف لم يكن على قدر المسؤولية المنتظرة، فقد صدمه بحكمه الجائر، الخالي من أي احساس تربوي، بعدما القاها في وجهه، مرددا عبارات التهكم والسخرية، ادناها قوله بالله أتعتبر هذا شعرا، فلا تسأل عن ردت فعله وانكسار خاطره، الذي ولّد في نفسه عقدة وكسر لا ينجبر، وبالذات تجاه شعره الشخصي مهما ابدع فيه، فهو إلى اليوم لا يستطيع عرض شيء من هذا الشعر، أو القائها امام الاخرين، فقد قمع ذلك المعلم الموهبة في داخل نفسه، وما زالت نبتة غضة طرية، فدور المعلم عظيم لا يستهان به، سواء سلبا أو إيجابا، فيفترض أنه يحتوي الأحاسيس ويرفع من المعنويات، ولكن للأسف يوجد بعض من هولاء لا يعون وظيفتهم، ولا يملكون اساسيات التربية الصحيحة، مما يؤثر سلبا على اجيال، ويحطم فيهم الابداع والثقة بالنفس، بل أن بعضهم يقمع شخصيات طلابه ويهينهم متعمدا، سواء بالنظرة المتعالية، أو بالكلمة الجارحة، فما بالك بالتعنيف والضرب الجائر وامثاله، وبالذات إن لم تكن مبررة، أو في غير موقعها الصحيح، أو دون سبب تربوي واضح، يوجبها اضطرارا.

كان من صغره متميز بالذكاء، والابداع وقوة الاعتزاز بالنفس، متفوقا في دراسته، متقدما على اقرانه، يترقى في فصول المدرسة عاما بعد عام، مقبلا ومحبا للقراءة والثقافة والابداع، ويعشق التنافس الشريف مع اقرانه وزملائه، واستمر هذا طبعه وديدنه يدفعانه إلى الأمام، حتى تخرج من هذه المرحلة الابتدائية، ونجح من الصف السادس في نهاية العام الدراسي 1411/1412هـ، متفوقا بتقدير ممتاز.

توجه بعدها مباشرة للالتحاق بالمعهد العلمي، وكان يشجعه على ذلك الاتجاه والده، فلديه خليفة كاملة عن المعاهد العلمية، فقد عمل للسنوات عديدة في معهد الطائف العلمي، وما لمسه من جودة التعليم في هذه المعاهد، وقوة تأسيسها واهتمامها بطلابها، واما هو فرغبته للالتحاق بالمعهد تمليها عليه، رغبته في دراسة المواد العلمية والشرعية، ولهذا تظافرت هذه الرغبات والقناعات للتوجه إلى المعهد دون سواه، وقد تم قبوله طالبا في المعهد العلمي بفيفاء، في بداية العام الدراسي1412/1413هـ، وما اسرع ما تأقلم من نظامه القوي، واندمج مع المحيط والبيئة التعليمية داخله، وكان المعهد في تلك الفترة زاخرا بثلة مباركة من المعلمين، ومن الإداريين والتربويين، والجو العلمي المتألق داخله، وما اتصف به كثير من طلابه من حب التنافس الشريف، الذي يستهويه وتميل إليه نفسه، وكلها ايجابيات في سبيل التحصيل العلمي، والترقي في طلب العلم والمعارف، فكان الطلاب المتميزون يجدون كثيرا من الدعم والتشجيع والتحفيز، الذي يدفعهم دوما إلى الامام، ويزيدهم حرصا وجدا واجتهادا، فالمعهد كما يراه كان مؤسسة تعليمية تربوية جادة، لا يتمنى اليوم لأولاده إلا أن يجدوا ولو عشر ما وجده شخصيا في المعهد، لما فيه من الاهتمام والتحفيز والتشجيع، فكان المعهد حينها قمة القوة والنضج، يسعى إلى أن يكون طلابه على درجة عالية من التحصيل العلمي، والاخلاق العالية والانضباط، مع ابراز مواهبهم وقدراتهم في كل المجالات، ويشجعهم على المشاركة الفاعلة في كل الانشطة الايجابية، ويهيئهم بكل اسباب التفوق والرقي والنجاح، والمعهد يحتوي على كثير من اسباب هذا التميز، ويأتي في مقدمتها مكتبته العامرة،  الزاخرة بشتى العلوم والآداب والمعارف، ويصف تلك المكتبة بقوله : (لا انسى الجو العلمي داخل المكتبة، وحتى رائحة الكتب الجاذبة فيها)، ومما يذكره من ادوارها، أنه إذا ما تأخر احد المعلمين عن فصله، ولم يسد احد الفراغ بدلا عنه، صحبوا الطلاب إلى هذه المكتبة، وفيها يستقبلهم امينها المؤهل بكل حفاوة، وينظم لهم وقتهم فيها على احسن ما يكون، يجلسون بكل متعة يقرأون ويطلعون ويناقشون، وهذا هو دور المكتبة الحقيقي، وبالنسبة له فكان يستفيد كثيرا من هذه المكتبة، بارتياده المتكرر لها، للقراءة والاطلاع، ويستعير منها كثيرا من الكتب التي يقرأها في البيت، ويقتبس منها ما يعده للمشاركة في الاذاعة، وكانت الاذاعة من الانشطة القوية التي تستهويه، وتطورت معه كما رأينا من المرحلة الابتدائية، ولكنها في المعهد اكثر تطورا، وهو كذلك قد ارتفعت قدراته وزاد نضجه، كانت في المعهد على فرعين، الفرع الاول الاذاعة الصباحية، حيث يقف فيها المقدم مباشرة، امام الطلاب في الطابور الصباحي، والفرع الثاني الاذاعة الصوتية، خصص لها غرفة مستقلة بجوار مكتب المدير، يغلق المقدم على نفسه بابها من الداخل، ولا يشاركه فيها احد، وكانت  مجهزة بلاقط صوتي، وتبث صداها في ساحات المعهد الداخلية، وعند المقصف وعند المصلى، وهي بالفعل اذاعة حقيقة وبالمعنى الصحيح، لكونها(صوت دون صورة)، وخصص لبثها كامل الفسحة الطويلة بين الحصص، وتستمر لما يقارب نصف ساعة، ويتناوب في العادة على تقديمها والاعداد لها مجموعة من الطلبة الهواة، يتكفل كل يوم واحد منهم أو اكثر بهذه المهمة، وفي اليوم الذي تكون عليه المشاركة فيها، لا يحضر من بيته إلا وهو في كامل استعداده، قد تناول فطوره وجهز جميع فقرات برنامجه، لأنه لا يستطيع الافطار داخل المعهد لارتباطه بتقديم الفقرات، التي تستغرق كامل وقت الفسحة.

   ومن الاشياء الكثيرة المميزة في المعهد، اشراك كل من يرغب من الطلاب، في الدخول في معظم المسابقات، التي تقام على مستوى الجامعة، وقد اشترك شخصيا، في مسابقة حفظ القران الكريم، وفي حفظ السنة النبوية، لأكثر من مرة، وحقق في ذلك مراكز متقدمة، وإن لم تكن من المراكز الاولى، لأن تميزه في الفهم والتحليل، اكثر من تميزه في الحفظ، وكان اقصى ما حقق في هذه المشاركات المركز الرابع، في واحدة من المرات، وكانت جوائز الفائزين ترسل للمعهد،  وتسلم لهم في الحفل الختامي في نهاية العام الدراسي.

ومما وجده في المعهد واستفاد منه، ما كان يقوم به من اعداد رحلات مجانية للطلاب، الراغبين في العمرة وزيارة المسجد النبوي الشريف، وقد شارك في واحدة منها في أول سنة له بالمعهد، وكان في الصف الاول المتوسط، وكانت رحلة ممتعة ونافعة ومفيدة، وقد تكررت مشاركته في سنوات تالية، وهذه الرحلات تضفي على الطلاب كثيرا من النشاط والمتعة والفائدة، وفي التعلم والثقافة، والاطلاع النافع على اشياء جديدة ومفيدة، يتعرف على بيئات مختلفة خارج اطار محيطه المحدود، ومع أنه قد سافر قبل ذلك صغيرا مع والده إلى مدينة الطائف، إلا أنها مختلفة لم تكن بهذه الايجابيات التي يحسها، ومما يذكره في هذه الرحلات، أنه اقتنى فيها لأول مرة بعض الكتب العلمية، حيث أشترى في أول رحلة كتابا باسم (تاريخ الخلفاء للسيوطي)، وجده في احدى المكتبات الصغيرة بجوار المسجد الحرام، وقد قرأه اكثر من مرة، ومازال يحتفظ به إلى اليوم في مكتبته، وفي رحلة اخرى اشترى كتابا اخر، باسم ( الامويون بين الشرق والغرب) للدكتور محمد السيد الوكيل، وكذلك ما زال لديه ضمن محتويات المكتبة، وقد حقق من ذلك رغبته في اقتناء الكتب، التي كانت تستهويه وبالأخص كتب التاريخ، فكم تشوق لامتلاك الكثير منها، ولكنها لم تكن متوفرة في محيطه، وكان يستعير كثيرا منها من مكتبة المعهد، ومن جار لهم كان يملك مكتبة صغيرة، في احد زوايا مسجده الصغير بجوار منزله، ويذكر من محتويات مكتبة جاره، كامل اجزاء كتاب المغني لأبن قدامة، وفتاوي ابن تيمية وامثالها، ورغم صغر حجمها وقلة الكتب فيها، إلا انها في نظره مكتبة ضخمة لا مثيل لها، ومع احساسه الداخلي بالإعجاب بها، كان يزور جاره كثيرا في هذه المكتبة، ويبقى معه في المسجد يستعرض شيئا منها، بل ويستعير منه بعضها ليقرأه في البيت، واما في المعهد فقد اتسعت الدائرة اكثر واكثر، بما تحويه مكتبته من امهات الكتب، في كل العلوم والفنون والمعارف، وقد تعلق كثيرا بالكتب وعشقها، واحب القراءة واستهوته، وكان اكثر ما يميل إليه منها كتب التاريخ، وشيئا قليلا من الجغرافيا والعلوم الاجتماعية، لمحبته واعجابه بمعلمي هاتين المادتين في المعهد.

   استماله في المعهد معلم مادة التاريخ، الاستاذ احمد بن محمد الداثري حفظه الله، بأسلوبه الفذ وعلمه وتمكنه، رجل مخلص حاضر البديهة، قوي غزير المعلومة، ويصفه بأنه اول دكتور راه في حياته، لأنه يصلح بالفعل أن يكون مدرسا في الجامعة، وكذلك المعلم الاستاذ عبدالله بن سليمان الظلمي، معلم مادة الجغرافيا، فاحب هاتين المادتين وتعلق بهما، مع محبته لكل المواد الاخرى المختلفة، ولكنه التخصص الذي يميل إليه، حتى أنه يحرز فيهما كامل الدرجات، ولو وجد حينها مسارا خاصا بعلم الاجتماع لما حاد عنه، وكان يتشوق لامتلاك كتاب (مقدمة ابن خلدون)، وكتاب (البداية والنهاية لابن كثير)، لتكتمل رغائبه العلمية في هذا التخصص، وما زال يفخر إلى اليوم بما اعده في تلك المرحلة من بحث متكامل، كان بعنوان (السياسة الخارجية لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد)، بطلب وتشجيع من الاستاذ احمد بن محمد الداثري، وكانت اغلب مراجعه من موجودات مكتبة المعهد، مع مراجع بسيطة كان يملكها، من ضمنها كتاب (عاصفة الصحراء)، للأمير خالد بن سلطان آل سعود، وهو يحتفظ بهذا البحث ويعتز به إلى اليوم، وعلم أن هذا المعلم يحتفظ ايضا بنسخة منه، وأنه كلما اطري اسمه امامه، أو رآه في احد البرامج التلفزيونية، اثنى عليه كثيرا، واخبر من حوله بان هذا من طلابه، وبأنه قدم بحثا متكاملا في المعهد العلمي.

  بات بفضل الله من أميز الطلاب في المعهد العلمي، سواء في الجوانب العلمية المنهجية، أو في جوانب المشاركات ألا منهجية، وقد نال التكريم لأجل ذلك عدة مرات، في المرحلتين المتوسطة والثانوية، حيث حصل على جائزة الطالب الأمثل، من عميد شؤون الطلاب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وهذه الجائزة وإن كان يجهل كثيرا من معاييرها، إلا أنه بصفته مشاركا في كثير من الانشطة، ومتفوقا بفضل الله في الامور العلمية، مع تميزه في النواحي السلوكية، (لأنه طالب هادئ، مجد في دروسه، ونشيط في مشاركاته)، وعلى ما يبدو أن هذه الثلاثة إن اكتملت، جعلته من المرشحين لهذه الجائزة، وكان فيها تنافس بينه وبين الشيخ الفاضل محمد بن فرحان الشراحيلي، يأخذها هو مرة، والشيخ محمد يأخذها مرة اخرى، وكم نال التكريم لأكثر من مرة في المعهد، اثناء الاحتفالات الختامية في نهاية العام الدراسي، لاجتهاده وتميزه العلمي.

   ومضت به السنوات وكأنها احلام، يحرز السبق والتفوق في كل عام، ويسعد قلبه بما يدركه ويحصله من العلوم النافعات، ويحقق النجاح في كل الفصول الدراسية، في المرحلتين المتوسطة والثانوية بتفوق، إلى أن توج هذا التميز بكونه ضمن العشرة الأوائل، على مستوى المعاهد العلمية في المملكة، عندما  تخرج من الصف الثالث، في المرحلة الثانوية، في نهاية العام الدراسي 1417/1418هـ .

الدراسة الجامعية :

دون تردد ما إن تخرج من المعهد العلمي بفيفاء، حتى أتجه مباشرة إلى مدينة الرياض، رغم ما عكر مزاجه في هذا الاتجاه، من مفارقة معظم زملائه الذين سيتوجهون إلى ابها، ليدرسوا في فرعي جامعة الامام وجامعة الملك سعود هناك، وكم كان يمنى نفسه في استمرار صحبتهم، وبالذات الاخوين الشيخ الدكتور محمد بن فرحان الشراحيلي، والدكتور احمد بن يحيى جابر السلماني، لما بينهم من التنافس الشريف في التحصيل العلمي، وكان بالنسبة له وقود محفز في زيادة الاجتهاد والتفوق، وكم يشعر بالإحباط لمفارقتهم، حيث قرر بنفسه التوجه للدراسة في الرياض، لكون شقيقه الاكبر مقيما فيها، وسيكون وجوده قريبا منه مطمئنا له، يسنده ويتفاقد امره، ويشعر كذلك والديه بالاطمئنان عليه.

  وصل إلى الرياض مع بداية التسجيل في الجامعة، وكان التسجيل يتم حينها يدويا، لم يصل إلى ما هو عليه اليوم (الكترونيا)، فالطالب يحمل شهاداته وجميع اوراقه، ليتجه إلى الجامعة التي يرغب التسجيل فيها، فما إن وصل إلى مباني جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية، حتى وجد التسجيل قائما في احدى القاعات الكبيرة (معرض الكتاب)، المخصصة في الاصل لإقامة معارض الكتاب للجامعات، ولما دخل كان كل مسؤول عن إحدى الكليات في احد الاركان، ويوجد كثير من اللوحات التعريفية والارشادية ومتطلبات التسجيل، فاتجه مباشرة دون تردد إلى المسؤول عن التسجيل في كلية الاجتماعيات، وغايته التسجيل في قسم التاريخ دون سواه، وكان الموظف فيها الذي لم ينساه (عبدالله القريني)، جلس إليه وناوله أوراقه المطلوبة، ولما قلبها واستعرض معدلاته ودرجاته، التفت إليه باستنكار وقال له هل (انت صاحي)، فرد عليه نعم فأنا احب التاريخ، واريد التخصص فيه، قال له الا تدري انك تدمر مستقبلك باختيار هذا التخصص، وبالذات وانت لست مضطرا اليه، حسب درجاتك ومعدلك المرتفع، فلعلمك أن خريجي هذا التخصص عاطلين، في كلام كثير واقعي، الجمه واوقف تفكيره، حتى استسلم له، وقال إلى أين تريدني أن اذهب، فأشار إلى طرف القاعة، وقال تجد هناك الاستاذ (عبدالرحمن التركي)، اذهب إليه فهو المختص بالتسجيل في كليتي الشريعة واللغة العربية، واختر احدى هاذين التخصصين، وبالفعل ذهب إلى هذا الموظف، محبطا يجر اذيال الخيبة، لأن رغبته الوحيدة أن يتخصص في التاريخ، ولا يميل إلى الشريعة ولا اللغة، لأنه لم يكن لديه تصور تام عنهما وعن اقسامها، فما كان يدرسه في المعهد من الشريعة، محصور في مواد الفقه والتفسير والحديث، وحتى أنه لا يعرف أن اصول الفقه احد فروع الشريعة، لأن مقرر الاصول في المعهد مختصر جدا، لا يعطي التصور والاهمية لهذه المادة، حيث درسوا كتيبا صغيرا للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، لا يرتقي إلى عظم اهمية هذه المادة، وبالطبع كان ذلك خلل في تأهيل الطالب لما بعد هذه المرحلة.

  وصل عند هذا الموظف المختص (التركي)، وناوله اوراقه بكل برود، قائلا بماذا تنصحني أن اسجل فيه، فنظر إلى ضاحكا مستغربا، وهل انت إلى الآن لا تدري في ماذا تسجل، فأخبره بأنه كان يريد التسجيل في التاريخ، ولكن الموظف المسؤول عن التسجيل في هذا التخصص رفضه، ونصحني بأن اتي عندك لأسجل في الشريعة أو اللغة، فقلب اوراقه ثم تبسم، وقال نعم فقد اخلص لك النصيحة، وارى أن تسجل في الشريعة، فاستكمل الاوراق المطلوبة، وسجله في الشريعة، وانهى فيما بعد اجراءات الفحوصات الطبية وخلافها، واعتمد قبوله مباشرة ضمن طلاب كلية الشريعة.

    حقيقة أن الانسان لا يدرك اين يكمن الخير له،  فالله سبحانه وتعالى هو العظيم المدبر المقدر، وقد ورد في الاثر، قول بعض السلف : (اللهم دبر لي فانا لا احسن التدبير)، انتظم مع بداية العام الجامعي 1418/1419هـ، طالبا في كلية الشريعة، رغم أنه ما زال غير مقتنع بهذا التخصص داخليا، لأن قلبه معلق بدراسة التاريخ، حتى أنه في تلك الفترة اشترى كتاب (البداية والنهاية لابن كثير)، فرحا به رغم أنه استنفد به كامل ميزانيته المحدودة، وانما ذلك لحبه وتعلقه بهذا التخصص، ولم يكن حينها لديه ولو كتاب واحد في تخصصه الشريعة، ومضت هذه البدايات على هذا الحال، شعور بالإحباط، واحساس بعدم الارتياح والقناعة بالوضع، وكأنه مجبر على السير في هذا المضمار، ولما كانت طبيعة نفسه قبول التحدي، فقد طوعها على القبول بما هي فيه، والتعامل بواقعية مع وضعها الحالي، ولذلك لم يظهر تذمرا أو انزعاجا، بل استسلم بكل رضا للأمر الواقع، وطوع نفسه للانسجام على ما هو مقبل عليه، مذكرا نفسه بمقولة (الخيرة فيما اختاره الله).

   كان جدول الفصل الدراسي الأول، يحتوي على مادة اصول الفقه، واستاذها الدكتور عبدالمحسن الريس، استاذ المعي متمكن في مادته، حيث شرحها وقدمها بأسلوب راق مبسط وجميل، جذبه ما سمعه منه في هذه المادة، ووجد راحة تتغلغل إلى كيانه، حتى نالت اعجابه وجذبته للإقبال عليها، وبدأت تلفت نظره وتغير قناعاته، فقد وجدها مختلفة كلية عن ما كان يعرفه عنها، حتى اصبح يتشوق إلى حضور محاضراتها، والتوسع في معرفة المزيد منها، ففي كل يوم يسمع الجديد، ويكتشف العظمة والمتعة في دروسها، واستهوته وقلبت موازين الاعجاب داخله، إلى أن تعلق بها ونسي ما سواها، واتجه لارتياد المكتبة المركزية لأجل ذلك، ووجد فيها ضالته وما تهواه نفسه، فكان لا يجد فرصة إلا وتوجه إليها، وما اكثر هذه الفرص، لطالب علم مغترب عاشق للقراءة، حيث غاص في اعماق هذه الكنوز الثمينة، ولم يكن لديه ما يشغله أو يصرفه عنها، لا ارتباطات خارجية تلهيه، ولا هو من اصحاب النزهات والسفريات التي تستهويه، بل من اكبر صفاته تتمثل في عزلته العلمية، فمعظم وقته واجمله يقضيه بين الكتب في هذه المكتبة، و(خير جليس في الزمان كتاب)، ورغم أنه تعرف على كثير من ابناء فيفاء داخل الجامعة وخارجها، إلا أنه تعارف محدود، غير مؤثر عليه لطبيعة نفسه الانعزالية، وسارت به الايام على هذا الحال، مستمرا ومقبلا على دراسته في كلية الشريعة، واحبها وألفها وعشقها واغرم بمادة الاصول فيها، وبعد تجاوزه للصعوبات الاولية، والبدايات الطبيعية، في عدم تحقيق رغبته الاساسية في القبول، ثم غربته وبعده عن اهله لأول مرة له في حياته، ثم مفارقته لأصحابه وزملائه من النخبة، الذين كانت بينه وبينهم كثير من الاخوة والتنافس المحفز، وما اسرع ما سارت معه الامور على ما يحب، وتأقلم مع وضعه الجديد، واقتنع قناعة تامة بما آلت إليه اوضاعه الدراسية، وحمد الله كثيرا على توفيقه لما هو عليه الآن، واعانه على سرعة التأقلم نفسه المنفتحة، وسرعة استيعابه، وقوة تأسيسه العلمي، ثم بما كانت عليه الكلية من الرقي والاهتمام، المتمثل في عمق وقوة مقرراتها، في أصول الفقه والفقه والعقيدة واللغة العربية، مع وجود نخبة من الأساتذة الافاضل من كبار العلماء، والأكاديميين المتمكنين في العلوم الشرعية واللغة العربية، من امثال الشيخ عبدالله الركبان في الفقه، والشيخ الرومي، والشيخ السدلان (شيخه في المستويات الاخيرة من الكلية وفي الماجستير)، والشيخ عبدالرحمن السدحان، والشيخ فهد السدحان، والشيخ العنقري، والشيخ سعد الشثري، والشيخ المحمود في العقيدة، والشيخ السمهري، وعبدالكريم النملة رحمه الله، الذي لا يحتاج الى التعليق.

   كانت هذه المرحلة مرحلة علمية حرة، أتاحت له كثيرا فرص توسيع المدارك، وتنويع تحصيله العلمي في العلوم والمعارف المختلفة، فانفتحت امام ناظريه شتى العلوم والمعارف والثقافات، مما اشبع رغباته وحقق طموحاته، وكانت من أهم العلوم التي شكلت البناء المنهجي والمعرفي في هذه المرحلة، علم أصول الفقه، الذي كان من علوم الآلة التي كانت تُدرَّس في كلية الشريعة بعمق وتوسع، مع تنوع محتوياته بين الجانب العقلي والنقلي، وهذا شكل الأسس المهمة في المنهج المعرفي لديه، المنهج المفيد والرصين الذي يجمع في تحصيله بين العقل والنقل، وينطلق من التنوع في مصادر المعرفة، ولا يتحيز لمصدر واحد ينحصر داخله، اقبل بكل جد واجتهاد ورغبة على دراسته وتحصيله، لا يمل ولا يشبع، ودخل في تنافس حتى مع نفسه، وحصل على العديد من شهادات التميز والتقدير، من عمادة كلية الشريعة؛ لتميزه في مستويات الدراسة منذ انتظامه في الكلية، واستمر مشمرا يترقى في اقسام الكلية وفصولها، يحرز السبق ومحافظا على المقدمة بين طلابها، إلى أن حصل في نهاية العام الجامعي 1422/1423هـ، على درجة البكالوريوس، بتقدير عام ممتاز، مع مرتبة الشرف الأولى، وكان ترتيبه الأول على دفعته، مما جعله ضمن المكرمين الأوائل على مستوى الجامعة، من قبل صاحب السمو الملكي الأمير سطام بن عبدالعزيز آل سعود رحمه الله، الذي رعى حفل الخريجين الذي أقامته الجامعة في ذلك العام.

  وزادت بعدها طموحاته، وامتدت آماله في النهل من معين العلم، والعلو في مراتبه ودرجاته، وتبدت له الأمور في البداية وردية سهلة المرتقى، وبالذات بعدما استدعته الكلية قبل نهاية المستوى الثامن، ضمن المرشحين للإعادة حسب طريقتها المتبعة، وعرضت عليهم التخصصات التي يميلون إلى دراستها، حيث اختار التخصص في اصول الفقه، ولكن ما إن اعلنت النتائج، واستلم وثيقة التخرج، حتى تغيرت الأمور، وتبدت بعض العقبات، حيث استدعتهم الكلية مرة اخرى، وهم خمسة طلاب في اصول الفقه والفقه والثقافة، واخبروا بتعذر تعيينهم معيدين في الوقت الحاضر، لأن الجامعة سحبت وظائف المعيدين من الكلية، ونقلتها إلى كليات جديدة استحدثتها، مع أن الكلية ترغب في بقائهم لديها، وسيكون لهم الاولوية متى ما توفرت الوظائف المناسبة، ولكن ليعلموا أنه قد يتأخر التعيين إلى سنتين على الأقل، وهنا تلخبطت الامور وتداخلت الاولويات، مع الاحساس المتزايد بالإحباط والغبن، وبالذات عندما تكون متفوقا والاول على دفعتك، ثم لا تجد الوظيفة كالآخرين من زملائك، عندما تراهم يتم تعيينهم بكل يسر وسهولة، فمجالات التعيين العامة في تلك الفترة مفتوحة، سواء معلمين في المعاهد العلمية، أو في مدارس التعليم العام، أو في القضاء وغيرها من الوظائف، واما هو وزملائه المتفوقين فوضعوا امام خيار صعب، واوقفوا امام مفترق طرق احلاهما مر، اما المغادرة خلف الوظيفة، ونسيان أو تأجيل اكمال الدراسات العليا، أو الصبر على نوال الوظيفة، والاستمرار في مواصلة الدراسة، وفضل بالطبع دون تردد الخيار الاخير، وانتظم طالبا في الدراسات العليا، ليستغل وقته وحماسه، واما الوظيفة فأمرها ملحوق فيما بعد، وهنا تبدت المعاناة في قلة ذات اليد، والعجز عن توفير كثير من متطلبات الدراسة، فالمكافأة التي تصرف لهم قليلة جدا مقابل ما يحتاجون إليه، فلا تكفي لسد احتياجاته الاساسية.

   انتظم بكل عزيمة في الدراسة مع بداية العام الجامعي1422/1423هـ، ليدرس في السنة المنهجية، تحت مسمى طالب دراسات عليا، مع أنه وجد أن زملائه فيها اما معيدين سابقين، أو مبتعثين للدراسة من جامعات اخرى، ويعتبرون على هذا الاساس موظفين لهم رواتب، وهو الوحيد بينهم طالب ليس له من دخل إلا المكافأة البسيطة، وكان ذلك موقفا مؤلما نفسيا وماديا، تقيده محدودية المكافأة عن توفير احتياجاته الاساسية والدراسية، لأن طالب الدراسات العليا يحتاج إلى شراء كثير من المراجع الضرورية، وإلى نفقه لمقابل تكاليف البحوث العلمية المطلوبة، وقد يحتاج إلى السفر وإلى التنقلات المهمة، ولكن همته لم تتزعزع، حيث انهى الفصل الدراسي الاول متفوقا، وبذلك كان متاح له تسجيل رسالته في الفصل الدراسي الثاني، التي اختارها أن تكون تحقيق مخطوطة، باسم ( الاشارات الالهية إلى المباحث الاصولية) لمؤلفها نجم الدين الطوفي، حنبلي المذهب، توفي عام 716هـ، وكان موجود منها نسختان في دار الكتب المصرية بالقاهرة، ونسخة ثالثة في اسطنبول بتركيا، فكان لزاما عليه السفر إلى مصر للحصول على صور هذه المخطوطة, وبذل جهدا في ذلك وتعاون معه اهله واخوانه، إلى أن تيسرت له امور السفر إلى مصر، واضطر إلى السفر إليها مرتين، واما تركيا فقد اقتنع القسم بالاكتفاء بهاتين النسختين، لأن جودة النسخة الثالثة في تركيا اقل منهما بكثير، حسب التوصيف الذي جمعه عن هذه النسخ الثلاث، مما اعفاه من تكاليف السفر لجلبها، وكانت الدراسة في الفصل الدراسي الثاني صعبة، تجمع بين الدراسة المنهجية والاشتغال بتحضير الرسالة، ولكن عندما انهى الدراسة المنهجية في هذا الفصل، تفرغ تماما للرسالة ومتطلباتها، ولكن تبدت له معاناة من جانب اخر، عندما عرضت مادة الرسالة على لجنة علمية، وافتت في تصنيف المخطوطة، بأنها ليست من علوم اصول الفقه، وانما هي من علوم القرآن الكريم، وعلى هذا الاساس عليه أن يسجل المخطوطة، دراسة تحليلية اصولية، وليس تحقيقا، أو يعدل عن هذا الاختيار إلى موضوع آخر، ولما كانت مخطوطة عظيمة، مرتبة على صور القرآن الكريم، فاذا ما فتحت الكتاب تظنه تفسيرا، وإذا قرأته فهو يجمع بين اصول الفقه واصول الدين وعلم الكلام، وكان مخيرا بين المضي أو العدول عنه، ولكنه وقد تعب وجلب نسخها من مصر، وقطع في العمل فيها مشوارا كبيرا، لذلك آثر عدم التراجع أو التفريط فيها، وسار على اكمال دراستها، وكانت لاشك طريقة طويلة وشاقة، تعادل العمل في رسالتين، ولكنه وجد تفهما وعونا ومساعدة من المشرف عليه، الدكتور فهد السدحان حفظه الله، وتيسرت الامور بحمد لله وتوفيقه، إلى أن سلمها مكتملة في منتصف عام 1425هـ، وعندها كونت له لجنة للمناقشة، اعضائها فضيلة الدكتور سعد الشثري، وفضيلة الدكتور محمد المبارك، وتمت المناقشة في شهر شوال من عام 1425هـ، ليحصل بعدها على درجة الماجستير، بتقدير عام ممتاز، مع مرتبة الشرف الاولى.

  بالطبع في هذه الاوقات العصيبة الشاقة، تحمل وبذل وصبر وصابر، وكانت ذروتها في السنتين الاولين منها، حيث مر فيها بمصاعب جمة، وتحمل كثيرا من المشاق، يتمحور معظمها حول الضغوطات المادية، فالمصاريف الدراسية والبحثية عالية، اضافة إلى تحمله استئجار سكن مستقل خاص به، حتى يستطيع التفرغ التام لبحوثه ودراساته، فكان يفضل الدراسة والعمل في آخر الليل وقبل الفجر، وهذا قد يتعارض مع اوقات راحة الآخرين، ولم يكن مناسبا أن يشاركه احد في السكن، ولذلك بعد نهاية الدراسة المنهجية في السنة الاولى، اضطر إلى البحث عن عمل مؤقت يعينه على بعض المصارف، فتعاقد على العمل معلما في مدارس الرواد بحي الازدهار، وعمل معهم طوال العام الدراسي1423/1424هـ، وبعدها انفرجت الامور بحمد الله وتوفيقه، حيث تم تعيينه معيدا في الكلية، في بداية صيف عام 1424هـ، وانتظم في الكلية على هذه الوظيفة، واشتغل بكل جد على اكمال رسالته العلمية، وكان يكلف ببعض المهام كمعيد، رغم أن العرف في الجامعات يقضي بأن لا يلزم المعيد بالتدريس، ولكنه كان يكلف بالتدريس في كلية اصول الدين، وفي كلية الدعوة والاعلام، وفي قسم الاقتصاد الاسلامي في كلية الشريعة، ودرّس فيها مواد مساعدة، في اصول الفقه، أو في القواعد الفقهية، أو مقاصد الشريعة، وكلها داخلة في مسار تخصصه (اصول الفقه)، وما إن خرجت وثيقة درجة الماجستير، حتى سعى للمطالبة بالترقية إلى وظيفة محاضر، التي عين عليها في منتصف عام 1426هـ، وانتهت بحمد لله كل الصعاب ونسيها، ولكنها بقيت ذكريات جميلة وسعيدة لا تنسى، فقد نال مراده وحقق احلامه، وواصل السير الحثيث في دروب الخير والعلم والفلاح.

 وكما قيل النجاح يقود إلى النجاح، والطموحات تزداد وترتفع مستوياتها، وكلما ارتفعت إلى الاعلى اتسعت الافاق امام ناظريك، وتطلعت النفس الطموحة إلى الحصول على اكثر مما تحقق، لذلك التحق مباشرة في نفس العام الجامعي 1425/1426هـ، في برنامج الدراسات العليا (الدكتوراه)، في نفس كلية الشريعة، ليواصل في تخصصه (أصول الفقه)، وقد اجتاز بحمد الله كامل المقررات المنهجية، ونجح في الاختبار الشامل بتميز، مما أهله للتسجيل في موضوع الرسالة، ولكنه آثر التروي في  اختيار موضوع البحث فيها، لمعرفته الأكيدة أنه في مرحلةً مفصلية حساسة؛ لأن درجة الدكتوراه هي مرحلة النضج الفلسفي في أي تخصص، وهذه المرحلة تتطلب من الباحث أن يضيف شيئا إلى تخصصه، ولا يتحقق ذلك إلا بحسن الاختيار الجيد لموضوع الرسالة، فيجب عليه مزيدَا من الاستقراء والتأمل، قبل أن يقدم على التسجيل في هذا المشروع، فسيكون هو عنوانه، والمعرف الرئيس بنفسه من خلاله، ويعيش معه معرفيا ومنهجياً لسنوات طويلة، ولذلك تأخر في تسجيل موضوع رسالته إلى عام 1428هـ، حتى وقع اختياره النهائي على التسجيل في موضوع، كان بعنوان (التصويب والتخطئة وأثرهما في مسائل أصول الفقه ومنهج المدرسة العقلية الحديثة)، وهو موضوع كبير وعميق، يحمل في طياته جانباً تحليلياً ونقدياً، لعلم أصول الفقه كله، مع بيان ارتباطه بعلم الكلام، وامتداد هذا الأثر لطروحات المناهج العقلية المعاصرة، وقد وفق فيه بحمد الله وتوفيقه، ونال هذا المشروع استحسان القسم العلمي، ثم لجنة الفحص والمناقشة لاحقاً، كما أنه بعد طباعته بات مرجعاً لطلاب الدراسات العليا في الجامعات السعودية، في تخصصات العلوم الشرعية، وقد حصل بحمد الله وتوفيقه فيه على درجة الدكتوراه، بتقدير ممتاز، مع مرتبة الشرف الأولى عام 1432هـ .

  وبالطبع لم تتوقف اهتماماته البحثية والعلمية عند هذا الحد، فبعد حصوله على هذه الدرجة، استمر في الحقل البحثي، ينجز كثيرا من الأبحاث التي تتطلبها الترقيات العلمية، وأنجز العديد من الأبحاث في تخصصه، إلى أن وصل في عام 1441هـ، إلى رتبة (أستاذ)، في تخصص أصول الفقه، وله عناية واسعة وعميقة بتراث ابن تيمية ومنهجه المعرفي؛ لأنه يرى أن ابن تيمية مفكر إسلامي عبقري، أتاح له زمانه المتأخر الاطلاع على حصيلة معرفية هائلة لمن سبقه، وفي نقدها وتقويمها، وبالتالي فإن البداية من ابن تيمية تختصر الوقت الكثير، لكل من أراد أن يُحصل معرفة واسعة وموثوقة، مع اكتساب منهجية واقعية رصينة، تجمع بين العقل والنقل، وتتسم بالوسطية والاعتدال.

وقد نمى كثيرا من مهاراته العلمية والمعرفية والادارية، والتحق بالعديد من الدورات والبرامج والأعمال الإدارية، ومن ذلك :

  • دورات في التعليم والتعلم الجامعي ( UTL )  .
  • دورات في المراجعة الداخلية للبرامج والمقررات الجامعية ومؤشرات الأداء .
  • دورات في إدارة ضمان الجودة في المؤسسات التعليمية .

الحالة الوظيفية:

تعاقد اثناء تحضيره للماجستير، معلما مؤقتا في مدارس الرواد بالرياض، في القسم الثانوي لمدة عام دراسي، وبعدها عُين في عام 1424هـ معيداً بقسم أصول الفقه في كلية الشريعة بالرياض، وبعد حصوله على درجة الماجستير تمت  ترقيته إلى رتبة محاضر، في نفس القسم (اصول الفقه) في عام 1426هـ، ولما احرز درجة الدكتوراه عام 1432هـ، عُين على وظيفة أستاذ مساعد في هذا القسم، ليترقى بعدها من خلال استكماله لشروط الترقيات إلى الرتب التالية، حيث ترقى إلى رتبة أستاذ مشارك عام 1437هـ، وترقى إلى رتبة أستاذ التي هو عليها اليوم في عام 1441هـ، وفقه الله وزاده علما ونجاحا وفضلا.

يعمل اليوم أستاذاً للدراسات العليا، بقسم أصول الفقه في كلية الشريعة بالرياض، ويشرف على طلاب الدراسات العليا في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، كما يشارك في مناقشة الرسائل العلمية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، بالإضافة إلى تحكيم أبحاث المجلات العلمية والأبحاث العلمية، المقدمة للترقيات على رتبة أستاذ مشارك وأستاذ، من داخل الجامعة وخارجها، بالإضافة إلى أنه :

  • عضو في المجلس العلمي لقسم أصول الفقه في كلية الشريعة بالرياض .
  • عضو في المجلس العلمي لوحدة البحوث في كلية الشريعة بالرياض .
  • عضو اللجنة العليا للجودة في كلية الشريعة بالرياض .
  • أمين مركز التميز البحثي في فقه القضايا المعاصرة .
  • عضو في فريق برامج قناة الرسالة الفضائية، يشارك من سنوات في (برنامج اعتدال، وبرنامج ليتفقهوا، وبرنامج بسلام امنين ـ في ايام الحج ـ)، وهي برامج تعالج قضايا الوسطية والاعتدال، وتدعو الى نبذ التطرف والغلو في الافكار والسلوك والمعاملات، وترسخ قيم الاسلام السمحة، ومقاصد الشريعة الغراء.

وله العديد من المؤلفات والأبحاث العلمية المنشورة ومنها :

  • التصويب والتخطئة، وأثرهما في مسائل أصول الفقه، ومنهج المدرسة العقلية الحديثة .
  • منهج نجم الدين الطوفي الحنبلي، في الاستدلال بالقرآن الكريم، على المسائل الأصولية، في كتابه الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية.
  • الكلي والجزئي عند ابن تيمية، وأثرهما في بعض مواقفه الأصولية .
  • اعتقاد الرجحان ورجحان الاعتقاد، (دراسة أصولية في تفسير العمل بالظن في الشريعة الإسلامية).
  • الحُكم الإضافي (دراسة أصولية في تنزيل الأحكام الأصولية على واقع الأدلة الجزئية).
  • قاعدة : عموم السلب وسلب العموم، وتطبيقاتها الأصولية والفقهية .
  • مفهوم النص عند دعاة التجديد (دراسة تحليلية نقدية).
  • مهلة النظر في الاجتهاد (دراسة أصولية).
  • العلاقة بين اللغة والتفكير (دراسة أصولية لغوية).
  • الجواب التحقيقي، والجواب الجدلي، في دفع الاعتراض على الأدلة الشرعية .
  • التفريق بين الناظر والمناظر، في باب القياس .
  • تنقيح الفتوى (دراسة أصولية).
  • المنهج المعرفي لابن تيمية، وأثره في أصول الفقه، (دراسة تحليلية نقدية).
  • التخريج بين الاستنباط الشرعي والاستنباط المذهبي (دراسة نقدية).

وفقه الله وبارك فيه وفي علمه وعمله وجهده ونفع به، ورفع بها درجاته واعلا بها من شأنه.

الحالة الاجتماعية:

متزوج من السيدة الفاضلة أمل بنت محمد أسعد محمد جبران الظلمي الفيفي حفظها الله، وهي احدى حفيدات الشاعر الشعبي الكبير محمد بن جبران الظلمي الفيفي، المشهور بلقب (ابن امخنبعية) رحمه الله، ورزقا بثلاثة أولاد، ابنان وبنت (يوسف، ويونس، وذكرى)، حفظهم الله وبارك فيهم .

وحفظه الله وبارك فيه وفي علمه، واعانه على الاستزادة من العلوم، ونفع به وكثر فينا من امثاله العلماء الاجلاء، العالمين العاملين.

                       والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

  محبكم

الرياض في 1443/10/27هـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى