مقالات

طريق الحرير عند العرب!

الرياض: د. ملحة عبدالله

طريق الحرير عند العرب!

كان العرب يتحكمون في مراكز التجارة في العالم لما لموقعهم من أهمية كبرى، ولما للعربي من خبرة في دروب الصحراء التي لا يفك شفرة طلاسمها سواه، وهو ما يُقِرُّه غيرهم في هذا الشأن. ومحطات التجارة العظمى المنتشرة في جزيرة العرب متعددة، مثل: عكاظ، وحضرموت..

لقد كانت أسواق العرب في الجاهلية وفي صدر الإسلام من أهم الأسواق العربية والعالمية، لما للتجارة حينها من شأن كمركز تجاري يتوسط الشرق والغرب، فأصبحت مراكز تشبه المراكز التجارية التي تُنشأ الآن، خاصة بعد مشروع استعادة طريق الحرير الذي تتسابق الدول الكبرى على إقامة مراكز عالمية له بحسب عبوره في أراضيها.

فإذا كان الاهتمام بإنشاء مراكز تجارية تتسابق عليها الدول الآن، فإن أجدادنا قد برعوا في إنشاء هذه المراكز العالمية، ذلك لأن العرب في الجزيرة العربية ذوي رؤوس ذكية وأصحاب ذهنية تجارية تعمل على استراتيجيات اقتصادية عاش واقتات عليها العالم آنذاك، فحفروا اسم أسواقهم في جدار التاريخ كحضارة عربية ذات تأثير اقتصادي عالمي مهم.

إن العرب -في الجزيرة العربية– لم يكونوا عرب رحل يتبعون الماء والكلأ، حفاة خلف أغنامهم كما ذكر الباحث الأنثروبولوجي وعالم الفولكلور (جيمس فريزر)، قائلاً: “إن العرب لم يعرفوا الاستقرار لأنهم بدو رُحَّل”!

لكنهم وبحسب ما كانت بلادهم -بحكم موقعها الجغرافي– قد أصبحوا حلقة الاتصال بين ممالك العالم القديم، حتى أصبحت بلادهم ملتقى التجارة العالمية. ولقد قال إسترابون: “إن العربي تاجر بفطرته”، ويقول سعيد الأفغاني في كتابه (أسواق العرب): “لما اجمعت فارس على شلّ التجارة الرومانية مع الهند والمشرق الأقصى.. كان تهافتها شديدًا على جنوب الجزيرة لمنع بضائع المشرق من الوصول الى اسواق الرومان، فالأسواق العربية القديمة كنز من كنوز تاريخ التجارة العربية، ومعلماً من معالمها المتوارثة في تكوين الشخصية العربية. والشخصية العربية شخصية تجارية، والعرب تجار وسماسرة، وقوم تجارة وبيع وشراء، ولذلك لم يكونوا أمة حرب لا بالبر ولا بالبحر”.

ولذا فقد كان العرب يتحكمون في مراكز التجارة في العالم لما لموقعهم من أهمية كبرى كما ذكرنا، ولما للعربي من خبرة في دروب الصحراء التي لا يفك شفرة طلاسمها سواه، وهو ما يُقِرُّه غيرهم في هذا الشأن.

ومحطات التجارة العظمى المنتشرة في جزيرة العرب متعددة، مثل: عكاظ، وحضرموت، وظفار، وصنعاء، وتيماء، وبصرى، وتدمر، ودمشق، إلا أن لقريش الزعامة في هذا الشأن؛ “فكانت في تلك الحلبة التجارية هي المجلية، فقد قبضت على مخنق العرب، واحتجزت الأموال، واستأثرت بالمتاجر أو كادت. ولأن اسمها في أذني (ليوسوس) بأنه تصغير لكلمة (القرش)، وهو دابة عظيمة تكون في البحر المالح ولهذا سميت قريش بهذا الاسم (قريش)، نتيجة تقرشها على القبائل وحول الكعبة وعلى التجار والتجارة”.

قال الشاعر:

وقريش هي التي تسكن البحـــر بها سميت قريش قريشا

تأكل الغث والسمين ولا تــذر فيه لذي جناحين ريشا

هكذا في البلاد شأن قريش يأكلون البلاد أكلاً كميشا.

ولنا أن نتساءل: ما المواد التي ترِد في تلك الأسواق، وما احتياجاتهم فيها؟

يقول الأفغاني في كتابه أسواق العرب: إن “العروض التجارية التي كانت تُحمل إلى تلك الأسواق، أكثرها لا يتعدى التمر والزبيب والسمن والأدم والورس والغالية والبرود وبعض ضروب الحيوان كالمواشي والأنعام والخيل، وحتى القرود أحياناً. وكانت “هجر” أشهر البلدان بتمرها، وعُمان يُحمل إليها الورس ويعالج فيها. وكانت لطائم النعمان تسير إلى عكاظ، ولطائم كسرى إلى المشقر، تأتي كل سنة فتباع ويُشترى بأثمانها الأدم والتمر، وكان لا بد لها من حامٍ منيع الجانب عزيز القبيل ليجيرها على عامة القبائل، وقد استفاد العرب من هذه الحماية فوائد مادية جلَّية، تلك الأسواق في الجزيرة العربية وما إليها كانت تلبية لضرورات محلية اقتضتها معيشة العرب وطبيعة توزيعهم في أراضيهم، وليست شيئاً مجلوباً حاكوا به غيرهم”.

وكما تذكر مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق أن “ما كانت تزخر به هذه الأسواق من ثراء ومن بذخ ترفي، فهو نوع التنوع الباذخ والذي يقتات عليه العالم من خلال هذه الأسواق التي تشكل مركزية العالم، تلك المتاجر من الهند: الدر، والياقوت والمسك والكافور، والعود الرطب وانواع العطر والفلفل. ومن الصين: الحرير والقصب، ومن اليمن نفسها: الذهب من معدن عشم، والجزع والعقيق من مخاليف اليمن الشرقية، ومن الشحر: النارجيل، ومن الأنحاء الأخرى: العبيد والبهار والأنسجة الفاخرة والوشي والنمارق والنعاج والعسل والصوف والحن والبورد والفجم والحنطة والحجارة الكريمة.. ويتاجرون بالخرفان والكباش والأعتدة وأفخر انواع الطيب وبكل حجر اريم والذهب. وصفوة القول إن العرب يتاجرون مع سورية بالأرجوان والوشي والكتان والمرجان والياقوت، ومع فلسطين بالحنطة والحلاوة والزيت والعسل والبيلسان، ومع دمشق بالصوف الأبيض والخمر. اما تجارة البدو الرائجة عند ذوي اليسار منهم فكانت فيما تفتقر اليه معايشهم الوبر للبجاد، والصوف للخباء، والشعر للفسطاط، والقطن للسرداق، والأديم للطراف، قال طرفة:

رايت غبراء لا ينكرونني ولا اهل ذياك الطرف الممدّدِ

ولما لجهود المملكة من سعي حثيث لاستكمال البحث عن آثارها -وبواسطة باحثين مخلصين في هذا الشأن- ولما لأسواق العرب من أهمية في تاريخ الحضارة العربية تم مؤخراً الكشف عن إحدى الأسواق المهمة من أسواق العرب التاريخية، حيث تم تحديد موقع سوق حباشة التاريخي، إحدى أهم أسواق العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، بواسطة فريق بحثي سعودي متخصص.

وقد ورد “أن سوق حباشة يعد أحد المعالم الأثرية في السيرة النبوية، ومن أبرزها في الجاهلية، حيث تشير الروايات التاريخية إلى أن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) تاجر فيه بيعًا وشراء لصالح السيدة خديجة (رضي الله عنها) قبل البعثة النبوية. وبشأن ذلك أورد ياقوت الحموي صاحب (معجم البلدان) في معرض نصه عن حباشة ما يفيد بوصول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه السوق، مستنداً بما ذكره عبدالرزاق عن عمر عن الزهري قال: (لما استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ أشده، وليس له كثير من المال استأجرته خديجة على سوق حباشة، وهو سوق بتهامة، واستأجرت معه رجلاً من قريش).

وفي محاولة لحسم الجدل والاختلاف حول الموقع الدقيق للسوق، أطلقت دارة الملك عبدالعزيز، وهي مؤسسة متخصصة في خدمة تاريخ وجغرافيا وآداب وتراث السعودية، وبالتعاون مع وزارة الثقافة وهيئة التراث السعودية في شهر أكتوبر 2021 فريقاً من العلماء والباحثين بهدف تحديد الموقع الدقيق لسوق حباشة والواقع بمنطقة “تهامة” غرب الجزيرة العربية بحسب ما ذكر أحد المواقع الإخبارية السعودية المهمة في هذا الشأن. وهذا ما تحظى به المملكة من نهضة علمية في كل المجالات في عهد خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- لحفظ وإحياء التراث العربي المهم.

طريق الحرير عند العرب!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى