مذكرات ومواقف (19)
اللحية:
قيمة المعلم تنطلق من تقديره لقيمة شخصيته وبراعته في أقناع الطالب كقدوة قبل أن يكون معلماً ، وقيمتنا تحددها قيم ذاتية بكل شخص ، لكننا كبشر نشترك في كثيرً من هذه القيم ، وتبقى تعريفاتها خاصة بنا ، لكنها تشترك في أساسيات سامية تقوم على احترام الذات البشرية للآخر أيا كان؛ طفل ، كبير ، امرأة ، شاب …الخ ، فتقديرنا لما يؤمنون به من قيم تنم عن احترام ذاتهم البشرية حتى وإن لم نؤمن بتلك القيم ، هذه العلاقة الراقية بين الناس هي توجيهات نبوية كريمة وليست من ابتكاري أو من بنيات أفكاري فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الشريف الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ))، فكيف لنا أن نحب الآخرين إلا إذا كنا نحترم قيمهم وأفعالهم الطيبة ، ولا يكن تقييمنا لها من خلال ما نحب أو نكره ، بل من خلال ضوابط تفرضها شريعتنا ثم ما تعارف عليه الناس كأساس لبناء علاقات إنسانية مثالية .
لا أنسى أبداً تلك الكلمات والإشارات التي كانت تتحدث عن شعيرات بدأت تظهر في ذقني ذا العظم الطري والصغير، وذلك من خلال أحد معلمينا في تلك المرحلة -المرحلة المتوسطة -وتحديدًا ثاني متوسط، وكغيري من الطلاب تبدأ بعض الشعرات في الظهور، ونظراً لأنني كنت في بيئة محافظة فكان من الصعوبة إزالتها بحلق أو قص، وفي الحقيقة لم تكن هذه الشعرات مهمة بالنسبة لي في ذلك العمر سواء قصرت أم طالت، كل ما في الأمر أنني بدأت أشعر أنني أصبحت كبيراً، وعلى الآخرين أن ينظروا لي من خلال ماكنت أعتقده. لكن استمرار هذا المعلم بذكر هذه الشعرات بل والاستهزاء بها أمام الطلاب جعلني أراجع نفسي وبدأت في قصها تدريجياً حتى أتخلص من نظرات ذلك المعلم.
للأسف لم يقتصر هذا المعلم على ذكر لحيتي بل امتد ليوجه نصائحه للطلاب بالسفر إلى بعض الدول الخارجية، ولا أعرف إلى ماذا كان يهدف حتى يخاطب طلاباً في المرحلة المتوسطة بمثل هذا الخطاب، في حين كان هناك الكثير من المواضيع التي نحتاجها كي ننطلق في محيط الحياة بشكل صحيح كما كنا نحتاج إلى التوجيه والنصح.
المرحلة المتوسطة تحتاج إلى معلمين إكفاء يستطيعون توجيه هذه الفئة -التي لا تعرف نفسها هل هي طفلاً أم شاباً – إلى بر الأمان، فالصوت لم يكتمل فهو مخلوط بين صوت طفولي وآخر رجولي، تغيرات فسيولوجية هامة وخطيرة، وأسئلة تبحث عن إجابات، ألا تتفقون معي أنه من الخطأ أن يتولى زمام هذه المرحلة معلم لازال في سن المراهقة؟
إذا كنا نحلم دائما بعلاقات مثالية وخالية من العنصرية نحتاج إلى تهيئة كوادر تعليمية قادرة أن تحترم القيم الخاصة بالطلاب مهما كانت، واستيعابها مهما بدت في نظر المعلم توافه، فهي في نظر الطالب شيء عظيم يدعوا للفخر بين أقرانه، متأكد تماماً أن من يقرأ هذه السطور يجد قصص مشابهة كثيرة حدثت له مع معلم أو أكثر، يجد فيها انتقاصاً في مظهر، ملبس، لهجة، والأسوأ من ذلك في لون أو عرق أو قبيلة أو دولة.
اللحية ما هي إلا مثال حي ترمز إلى كل ما تم ذكره، فاللحية عنوان النضج والرجولة، اللحية تعني أنني أصبحت رجالًا فبكل تأكيد من تجرأ على هذه القيمة التي أملكها سوف يبقى في نظري أسوء معلم مر ب حياتي التعليمية.
نصنع القيم التي نحب ونتباهى بها بين اقراننا، وفي ذات الوقت لا بد أن نحترم قيم الآخرين فقد تكون مستقبلا قيم لنا، فالأمور متغيرة والأمور دول والحياة تدور والناس تفنى ومع ذلك القيم تبقى.
مذكرات ومواقف (19)