مقالات

مذكرات ومواقف (20)

بقلم. موسى أحمد العبدلي

مذكرات ومواقف (20)

شهر رمضان 

تأثير الجانب الروحي يتعدى تأثير الماديات، وتأثير الروحانيات ومعتقداتها على الإنسان تمثل قوة لا يمكن إيقافها ويصعب حتى تغييرها لأنها متغلغلة في وجدان صاحبها، وهذا الجانب الروحي نجده في كثير من المعتقدات الوثنية والشركية وهذا الدافع قد يجعل من صاحبها ناجحاً ومؤثراً رغم فساد معتقده الروحي، فإذا ما كان هذا تأثيرها فكيف سيكون هذا المعتقد الروحي إذا وافق الصواب والفطرة التي فطر الله عليها الإنسان؟

ونحن نستقبل شهر رمضان المبارك لهذا العام 1445هجري رأيت أن يكون هذا الموضوع هو محور ذكرياتنا التي نستعيد فيه شيئا من روحانيات شهر رمضان قبل 4 عقود من الزمن واستمرار هذه الروحانيات في كل العقود الماضية حتى يومنا الحاضر، فمهما اختلف الزمان والمكان فللشهر الكريم روحانيته التي تتعدى الإنسان إلى كل شي حولنا حيوان أو نبات أو جماد نشعر بها وكأنها تسبح لله من روحانية هذا الشهر الفضيل.

عمي واجازة رمضان

في المرحلة الابتدائية كنا نعيش هذا الشهر بالفرح والسرور، نحبه ونحب الصائمين نحب طقوس هذا الشهر ونحب تعديل جدولنا اليومي بما يتلاءم وهذا الشهر الكريم، ما قبل الإفطار كانت أمي حفظها الله تعد لنا سفرة الإفطار والتي تتكون من التمر الذي كان إبي رحمه الله يحرص على شرائه من السوق قبل رمضان والماء الذي تجلبه أمي من الوادي والحلبة ثم قرص الخبز والقهوة وشي من علب الأناناس أو الخوخ إن تيسر الحصول عليها ، في بدايات عام 1396 هجرية وما قبلها لم تكن الشوربة والمكرونة متاحة لنا في ذلك الوقت وفي بدايات عام 1398 أو 1399 هجري كان عمي سالم حسين رحمه الله تعالي قد رجع من عمله في إجازته السنوية وأحضر معه الشوربة والمكرونة وقد أعطانا شيئاً منها فكانت الأعوام التالية متوفرة وتوفر معها النشاء التي كانت أمي حفظها الله تعالي تعدها قبل العصر وتضعها في شرفة منزلنا وتغطيها بقماش كان يعرف ب(المقلمة) وهي ما تستخدمه النساء لتغطية رؤوسهن وذلك حتى تحافظ عليها من الحشرات الطائرة وفي مواسم الغبرة تضع فوقها قماش أبيض حتى لا تسقط ذرات الغبار على النشاء الذي كان يمثل لنا بعدا آخر لشهر رمضان.

أجر المشقة

كانت أمي تعاني كثيراً في رمضان وخاصة في التسعينيات الهجرية وفي بدايات 1400هجري وبكل تأكيد ما قبلها بسبب عدم ووجد ثلاجات تبريد أو دكاكين قريبة فأقرب دكان لنا كان دكان أحمد محمد العمري رحمه الله- الفستوع- أو السوق الأسبوعي عيبان وهذه المعاناة كانت في كل منزل في ذلك الوقت، المعاناة تتمثل في جلب الماء في رمضان وسقيا الحيوانات حيث أنه كانت تربى في البيوت وهي من الثروات التي تتباها بها الأسر في ذلك الوقت فبقرة واحدة تنتج اللبن والسمن كافية لسد الجوع وتحقيق الأمن الغذائي للأسرة.

في شهر رمضان في تلك الفترة حدثت نقلتان مهمة في حياتنا النقلة الأولى كان شراء ثلاجة تعمل بالقاز وهذه الثلاجة كان حجمها كبير في عيوننا الصغيرة وكانت أمي حفظها الله تضع فيها اللحم التي كانت في السابق تجففه كحال جميع الأسر، النقلة الثانية كانت شراء ماطور (مولد كهرباء) يعمل بالبنزين وكانت تصلنا قبل شراءه من جيرننا الذي كانت لهم الأسبقية في ذلك وكان المولد  يعمل من بعد صلاة المغرب حتى بعد صلاة العشاء و و قت السحور واستمر هذا النظام حتى بعد أن صار لدينا مولد الكهرباء الخاص بنا إلى أن تم إدخال الكهرباء العام لجميع جهات وهجر فيفاء تقريبا عام 1406هجري أو بعد هذا التاريخ.

رمضان في المعهد الصحي

فقدت شيئا من روحانية الصيام عند انتقالي إلى مدينة جيزان للدراسة في المعهد الصحي وذلك لغياب ما كنت متعوداً عليه في منزلنا ، حيث أن نظام السكن في المعهد الصحي كان صارماً ولا نستطيع مغادرة السكن إلا إلى المطعم أو ما كان يعرف (بالميز)، مائدة الإفطار تغيرت من أجواء الأسرة إلى أجواء مختلفة نوعا ما فكان الإفطار ثم صلاة المغرب ثم نذهب إلى الغرفة مباشرة منتظراً إجازة نهاية الأسبوع، لكن الإنسان يتأقلم سريعا ويتكيف سريعا مع واقعه فكانت ثلاث سنوات من الدراسة في رمضان ممتعة خاصة عندما يسمح لنا الحارس بالجلوس معه بعد صلاة العشاء والتراويح لنستمع إلى الشيخ عبدالرحمن السديس حفظه الله والشيخ علي جابر رحمه الله وهو يصدحون بقراءة القرآن الكريم من الحرم المكي الشريف.

العزوبية في رمضان

في واحدة من الذكريات الجميلة في شهر رمضان كانت في حي العشيماء بعد الالتحاق بالعمل الحكومي في عام 1411هجري كنا نعيش أجواء رمضان في إحدى العزب حيث كانت هذه العزبة تضم مجموعة رائعة من أبناء فيفاء الشباب والذين عرفتهم لأول مرة وجمعتنا بهم صداقات لازالت قائمة إلى اليوم، كنا نصنع ذكرياتنا في هذه العزبة دون أن ندرك ذلك وهذا هو حالنا دائماً، كان الجيران يحترموننا كثيراً رغم وجود العزبة في حي عوائل ومع ذلك فكانوا يرسلون لنا موائد الإفطار والسحور الجيزاني الذي لازلت ومن معي ندعوا لهم بقبول عملهم إلى اليوم.

أسرة ومسؤولية

في عام 1414 هجري صارت هناك نقلة مختلفة في حياتي مع شهر رمضان فقد كنت في هذا العام صاحب بيت وأسرة أمارس شيئا بسيطاً مما يمارساه أبي رحمه الله وأمي حفظها الله معنا وبدأت ارسم لهذه الحياة الجديدة تفاصيلها مع زوجتي وأبني الأول فيصل ، رغم صغر سني وقتها إلا أنني كنت جاهزاً لظروف الحياة والتزاماتها، فالبيت كان جميلاً جدا بوجود شريكة حياتي معي والتي شاركتني كل تفاصيلها ، ثم انتقلنا إلى حي آخر مع رفيق العزبة وصديق عزيز بل هو ما نقول عنه في الأمثال: رب أخ لك لم تلده أمك ، أنه الأستاذ الفاضل جابر أحمد العبدلي والذي كنا جيراناً لمدة ثلاث سنوات افترقنا بعدها لظروف عملي  في مدينة الرياض، كان لشهر رمضان في تلك الفترة روحانية مختلفة وخاصة أن أسرتي كانت تتشرف بزيارة أبي وأمي وأخواني  لنا فكنا نعيش روحانية شهر رمضان كأسرة تمارس كل تفاصيلها.

استمرت روحانية الشهر الفضيل في كل العقود يجمعنا الحب والتآلف ونحرص على إشباع حاجة النفس الروحية في الصلاة وقراءة القرآن وتلاوته في شهر رمضان وهو ما تعودنا عليه في الصغر فلا يمر شهر رمضان إلا وقد قرأنا القرآن كاملا في الشهر لأكثر من مرة في الشهر الفضيل، وقدوتنا في ذلك كان إبي رحمه الله فقد كان يختم قراءة القرآن من 6 أو 7 مرات في الشهر.

مذكرات ومواقف (20)

رحم الله من مات من آبائنا وأمهاتنا وحفظ الله الأحياء منهم، فقد كانوا ولا زالوا طاقة لنا نستمد ونستلهم منهم كل الصفات الحميدة والخصال الفريدة وتعلمنا منهم كيفية الحياة في شهر رمضان المبارك وعشنا معهم أجمل الأيام والليالي لهذا الشهر الفضيل.

الإخلاص وحفظ الجوارح والصبر والتقرب إلى الله وطلب المغفرة والصفح عن ذنوبنا وقراءة القرآن والصلاة على وقتها أعمال تنمي روحانية شهر رمضان في حياتنا من أهملها فلن يشعر بقيمة هذه الروحانيات ولا بقيمة الشهر الفضيل وإن صام وصلى.

مذكرات ومواقف (20)

المقالات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى