آداب

وصايا أب

بقلم فهد بن إسماعيل السبعي

في مساءٍ من المساءات التي لا تُنسى
صلّيتُ مع والدي صلاة العشاء، وعدنا نسير معاً في سكينة الليل، والهدوء يلفُّ المكان كما لو كان يستمع لنا. كنت أمسك بيده الطاهرة، فإذا به يشدّ على كفّي فجأة، وكأنه يريد أن يُودع في قلبي ما هو أثمن من الحياة. التفتَ إليّ بعينٍ مفعمةٍ بالحكمة، وقال بصوتٍ يفيض رقةً وهيبة:

يابن آدم ليغرك الطمع
أين الذي في الأرض قد والى وقد جمع
راحة مآثره

كلماتٌ قليلة، لكنها تهزُّ القلب من عمقه، كأنها صفعةُ وعيٍ توقظ الغافل.
فكل من في الأرض قد عاش وملك وجمع، ثم ترك كل شيء وراءه، ولم يبقَ له سوى ما قدمت يداه. إنها وصية من أبٍ خَبِرَ الحياة، ليعلّمني أن الطمع لا يُشبع، وأن الدنيا دارُ ممر لا دار مقر.

ثم تابع والدي بصوته الذي يقطر حكمة:

يابن آدم صون أمرك يحتفظ لك
واتفل الشيطان ساعة يعترض لك
المصايب كالحجر ما تنقرض لك
وأنت مجهودك ضعيف

هنا، شعرت أن والدي يلقّنني درساً في الصبر والثبات. كأنه يقول: لا تترك نفسك فريسةً للشيطان حين يوسوس لك، فاحفظ أمرك، واصبر على البلاء، فإن المصائب باقية لا تنقرض، لكن العزم والرضا يخففان وطأتها. كم هي عظيمة تلك الحكمة حين تخرج من قلبٍ جرّب الحياة وعركته الأيام حتى صارت كلماته دواءً للنفوس.

ثم ختم وصاياه بعباراتٍ كأنها من نور:

واعلم أنك ستموت
ويحاسبك ربي بلا شاهد ولا ثبوت
ولازم السكوت ما يعذرك جميل

توقفت الكلمات في فمي، وسرى الصمت بيننا، لكنه لم يكن صمتاً فارغاً، بل امتلأ بالخشوع والتفكر.
إنها تذكرةٌ بالمآل، وتنبيهٌ أن كل إنسان سيقف بين يدي ربه وحيداً لا يملك إلا عمله، فليكن عمله جميلاً، ولسانه صامتاً عن الزلل، وقلبه عامراً بالنية الصادقة.

تلك كانت لحظةً من نورٍ ووصايا من ذهب، سُطّرت في قلبي قبل أن تُكتب على الورق.
فاللهم احفظ أبي، وبارك في عمره، وأسبغ عليه من رحمتك وعافيتك،
واحفظ آباءنا وأمهاتنا أجمعين،
يا رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى