مقالات

الأستاذ: سلمان بن محمد بن قاسم الحكمي

إعداد الشيخ :عبدالله بن علي قاسم آل طارش الفيفي ـ أبو جمال

الأستاذ: سلمان بن محمد بن قاسم الحكمي

اديب وشاعر، وكاتب متمكن، كثير القراءة والاطلاع، يوضع في مقدمة القراء، الذين نذروا انفسهم لها، لا يكاد الكتاب يفارق يده، يقبل عليه بكل شوق ونهم، ولا يشبع منه أو تصيبه الملالة والسأم، حافظ حاضر الذاكرة، سريع البديهة في استحضار المعلومة، فصيح اللسان قوي الحجة، لقّبه زملائه بالموسوعة، لما يجدونه عنده من ثراء المعلومة، والثقافة الواسعة، وما يتحفهم به من اجابات صائبة كاملة، لكل ما يطرحونه من تساؤلات، فيما يتعلق باللغة والادب والثقافة، تميز بصفات عالية، من كريم الاخلاق وجميل المعشر، يشيع الفرح والسرور حيثما حل واستقر، مؤمن صبور، شجاع قوي، محبوب بين الناس، بحلمه وتواضعه، وطيب قلبه، وصفاء سريرته، تعايش مع اوضاعه، وصبر على بلواه،  وتميز بقوة تحمله وجلده، ورفعة نفسه وعلو همته، وفي كل اموره وادوار حياته، لم يجزع يوما لشيء اصابه، أو يشكو أو يتذمر، أو يستسلم لأحواله ومعاناته، كتوم لا يتأوه أو يتوجع، لا يشعر بحاله حتى اقرب المقربين منه، ولذلك آثر العيش وحيدا دون ما زواج، من باب حساسية روحه وشفافية احساسه، في أن  يشرك غيره في همومه وألآمه، مؤثر بتعب نفسه عن كل من حوله، لخص وصفه الدقيق، اخوه الشقيق، الشيخ يحيى حفظه الله، عندما قال عنه ( كان انسان يحب الغربة، عاش مغتربا، ومات مغتربا)، رحمه الله وغفر له وتجاوز عنه، وجعل ما اصابه تمحيصا ورفعة في درجاته، وتثقيلا في موازين حسناته، وكتبه عنده في الشهداء الابرار.       

أنه الاستاذ الاديب: والشاعر الأريب

سلمان بن محمد قاسم الحكمي الفيفي رحمه الله وغفر له.الأستاذ: سلمان بن محمد بن قاسم الحكمي

والده هو الشيخ محمد بن قاسم بن سالم الحكمي الفيفي من آل سالم محمد رحمه الله، كان رجل صالحا من رجالات قبيلة آل بالحكم بفيفاء، رزق بثمانية من الولد، توفي منهم صغارا ثلاثة، وبقي خمسة، ثلاثة ابناء وابنتان، وكان سلمان السادس في الترتيب بينهم، توفي والده وهو دون الخامسة من عمره، فلذلك لا يذكر عنه شيء ذي بال، ولكن ناله بفضل الله كثيرا من صلاحه، (وكان ابوهما صالحا… ) الآية، واكملت تنشئته وتربيته والدته، واطرته واخوانه على دروب الصلاح والفلاح، ودفعت بهم إلى معالي الامور، وتحصيل العلوم والفضائل والتقوى، ثم كان له اخواه الكبيران قاسم ويحيى القدوة والمثال، ولهما الدور المؤثر في بقية حياته، وفي تجاوز دروب الحياة بكل سهولة ونجاح.

فامه هي الفاضلة عافية بنت احمد بن سالم بن علي الحكمي الفيفي، من آل علي يحي رحمها الله، اخت الشيخ محمد بن احمد شيخ قبيلة آل بالحكم السابق رحمه الله، فوالدها واخوها واسرتهم بيت شيخة وقيادة، كانت امراة قوية حازمة مدبرة، دفعت ابنائها رجالا ونساء إلى دروب الفلاح والصلاح، ونالوا جميعا الكفاية من العلم والمعرفة، وقوة الايمان والتقوى، رحمها الله وغفر لها وتجاوز عنها، وكتب لها الاجر والمثوبة.

ولد لهذين الفاضلين في بيتهما ريسان، في وسط بقعة الخشعة، في جبل ال بالحكم من فيفاء، في عام 1363هـ، وكان ترتيبه السادس بين اخوته، سبقه خمسة أخوة وتلاه اثنان، توفي منهم ثلاثة صغارا، وعاش مع الاربعة الباقين، ثلاثة ابناء (قاسم ويحي وسلمان) وابنتان (سعيدة، وفاطمة)، وعاش في هذا المحيط النشط الصالح، إلا أنه فقد والده وهو دون الخامسة من عمره، ولا يكاد يذكر من ملامحه شيء، فتكفل به اخواه الاكبران قاسم ويحيى، وامهم من خلفهم تدعمهم وتوجههم، فلم ينقصه شيء ولم يشعر كثيرا بهذا الفقد، فعاش طفولته الاولى بكل براءة، سعيدا مطمئنا لا ينقصه شيء.

تعليمه :

  ما إن بلغ السن المناسبة للتعليم، إلا وكان من حسن حظه وتوفيق الله تعالى، أن افتتحت مدرسة الخشعة، احدى مدارس فضيلة الشيخ عبدالله بن محمد القرعاوي رحمه الله، في محيط بيوتهم، فالتحق بها في عام 1373هـ، هو واخوه الاكبر منه يحيى، واما اخوهما الاكبر قاسم رحمه الله، وكان قد تلقى حينها كثيرا من العلوم، ويجيد القراءة والكتابة، خاتما للقران الكريم، وقد بلغ حينها عمره فوق العشرين، مما اهله لأن يكون معلما مساعدا لمعلم هذه المدرسة، الشيخ احمد بن علي سالم الخسافي رحمه الله.

   كان سلمان آنذاك صغير السن، دون العاشرة من عمره، مقبلا على الحياة متطلعا للمستقبل، جادا في دراسته، متجها لها بكل شوق ورغبة، وقد ساعده في كل ذلك، ما تميز به من الذكاء والنبوغ، ليكون دوما في الصفوف الاولى بين زملائه، نجح وتفوق وتجاوز الكثير منهم، فكان هاجسه وهاجس أهل بيته، وهمهم الأول هو الدراسة وطلب العلم، وبالذات وقد لحقت بهما اختيهما سعيدة وفاطمة، والتحقتا بهذه المدرسة، عندما افتتحت بها مدرسة خاصة بالبنات، لتكون أول مدرسة للبنات في فيفاء، هي والمدرسة المماثلة لها، التي افتتحت في جهة النفيعة.

   حفظ في هذه المدرسة كثيرا من سور القرآن الكريم، وختمه اكثر من مرة، في قراءة سليمة مجودة، وحفظ كثيرا من المتون المقررة، في التوحيد والعقيدة والفقه واللغة العربية، مما اهله لأن يتقدم على غالب الطلاب، وفي هذه الاثناء في حوالي عام 1376هـ زار مدرستهم فضيلة الشيخ عبدالله بن محمد القرعاوي رحمه الله، مؤسس مدارس الجنوب، ليتفقد المدرسة كعادته، فاختارت المدرسة الطالب سلمان ليلقي كلمة ترحيبية بفضيلته، فألقى هذه الكلمة التي اعدها له فضيلة الشيخ علي بن قاسم الفيفي، قاضي البلدة والمشرف على مدارس الشيخ القرعاوي في فيفاء وبني مالك، وكان قد ضبطها له بالشكل، فاعجب فضيلة الشيخ بإلقائه الجميل، ومن فرط اعجابه اوصى بإرساله إلى ضمد للدراسة، (كان رحمه الله يتفرس في طلابه ومن رأى فيه نجابة وتفوقا ويركز عليهم)، وبالفعل انتقل إلى معهد ضمد العلمي، وكان هذا المعهد من مدارس الشيخ القرعاوي المتطورة، حيث رأى رحمه الله انشاء هذه المعاهد لتكون مرحلة اعلى، ومكملة للمدارس العادية المنتشرة، وخصص لها نخبة من المعلمين الاقوياء، واضاف إليها مواد مقررة ومكثفة، تفوق ما يعطى للمبتدئين، فتخرج منها طلاب اكفاء، كانوا يكلفون بالتدريس في المدارس المستحدثة، ويرشح بعضهم لاستكمال دراستهم في المعهد العلمي بصامطة، واختيرت مواقعها بعناية، حتى تخدم كامل المنطقة، في كل من صامطة وضمد وبيش، ثم سميت لاحقا مدرسة الخشعة معهدا، ولعله تجوزا، لتميزها عن بقية المدارس المماثلة حينها في فيفاء، ولكونها اشمل واكثر تنظيما، وبها عدد اكبر من المعلمين، وتضم قسما للطالبات دون غيرها.

  انتقل للدراسة في معهد ضمد العلمي، يدفعه نشاطه وهمته واقباله، مع انه حينها صغيرا لم يتجاوز الثالثة عشرة، والحياة صعبة وشاقة، فلا تتوفر وسائل التواصل والاتصال، والوصول إليها يكون سيرا على الاقدام، والحياة المعيشية ضنكة وشحيحة، ولكنه صبر وصابر وتحمل، فالسكن كان في نفس المدرسة، ويصرف عليهم ارزاق من قبل ادارة المدرسة، فمضت به الحياة راغمة لم تهزمه، وترقى في تعليمه المتميز في هذا المعهد، ليتجاوز كل المعوقات متفوقا، مما اهله لأن يرشح مع مجموعة من الطلاب للانتقال إلى صامطة، لاستكمال دراسته في المعهد العلمي فيها، وهو المعهد العلمي الوحيد في الجنوب، التابع للرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية، ولكنه عندما سمع بهذا الترشيح، تردد خوفا من السفر لمكان ابعد، نظرا لصغر سنه وعدم ادراكه للأمور، فلذلك احتال في احدى الليالي، واستل هاربا في رفقة الجمالين المتجهين إلى سوق عيبان، ومن هناك عاد إلى اهله في فيفاء، وكانت قد ارهقته الغربة لأول مرة، واتعبته الوحشة لأهله، وقلة المؤونة، ولكونه وحيدا هناك لا يجد من يؤنسه.

   عاد إلى مدرسة الخشعة، ولمستواه وتحصيله، كلف بالإشراف على حلقة من حلقات الطلاب الصغار، واستمر يؤدي فيها عمله معلما ومتعلما في نفس الوقت، وتمضي به السنين جادا مجتهدا، إلى أن اقفلت هذه المدرسة (الخشعة)، بعد ما طالها ما طال بقية مدارس فضيلة الشيخ القرعاوي، لتقلص الدعم الحكومي عنها، تمهيدا لانتشار مدارس التعليم العام، التابعة لوزارة المعارف المحدثة، واصبح تركيز الدولة على مدارسها الحكومية، بعد أن ادت هذه المدارس التطوعية اكبر الادوار في وقتها، وابتدأت الآن مرحلة جديدة مؤسسية، اكثر تنظيما وانتظاما.

   بقيت هذه المرحلة متوهجة في نفسه، ذكريات ممزوجة بالحب والعطاء والمعاناة، عاش فيها عدة سنوات طالبا ومعلما، خلدها في ابيات من الشعر الجميل المعبر، يقول فيها :

في معهد الخشعة المرحوم اسرار 

  لي في زواياه أصداء وتذكار

كتبت أول حرف فوق تربته   

  والكف غض ولا في الذهن أفكار

وكان يمشي حثيثا للعـلى عـجلا  

فاغتاله الدهـر إن الـدهر غدار

هناك في موكب الأطفال ما برحت 

في القلب من سره نار وأنوار

لا أنكر فضل من رددت من فمه 

  آياً من الذكر فالغمط هو العار

فلست احمل إلا الحب مبتهجا  

  به فما لي سوى الأحباب سمار

هذي خواطر ذكرى في الحشا عبرت 

وليس لي من وراء النظم اوطار

   في هذه الاثناء صحب معلمه الشيخ احمد بن علي الخسافي، في زيارة لفضيلة الشيخ علي بن قاسم رحمهم الله جميعا، فحثه الشيخ وشجعه على السفر إلى صامطة، لاستكمال دراسته فيها، والح عليه كثيرا في هذا الجانب، وما تركه حتى وعده بتنفيذ ذلك، وكان من شدة حرصه عليه، أن استضافه مرة أخرى، مع ولد شيخ قبيلة آل عبدل حينها، (عبدالله بن اسعد العبدلي) رحمه الله، وحثهما على ضرورة سفرهما لطلب العلم، بل وامرهما بكل حزم على القيام به، حتى أنه اوصى بهما احد اخوة عبدالله العبدلي، ليوصلهما إلى مدينة صامطة، وهناك في المعهد العلمي أدخل في مقابلة شخصية، لقياس تحصيله العلمي السابق، وبناء عليه تم قبوله في القسم التمهيدي من المعهد، وهذا القسم احد مراحل المعهد الأساسية، كان يسبق المرحلتين المتوسطة والثانوية، ومدة الدراسة فيه سنتان دراسيتان، كانتا تعادلان الصفين الخامس والسادس الابتدائي، وانتظم من حينها طالبا جادا في هذا المعهد.

   وبتوفيق الله له، لم يمضي طويل وقت، حتى لحق به اخوه الاكبر يحيى، الذي كان قبلها يعمل معلما في احدى مدارس الشيخ القرعاوي، في ظهران الجنوب بمنطقة عسير، وتم قبوله في المعهد طالبا في المرحلة المتوسطة، وكان معهما كثير من الطلاب من اهالي فيفاء، ومن غيرها من بقية المنطقة، وسارت بهما الحياة على افضل وجه، وقد سيرا امورهما كما ينبغي، معتمدين على ما يصرف لهما من المكافأة الشهرية، وما اسرع ما تأقلما مع وضعهما الجديد وغربتهما، وطوعا امورهما على افضل المتوفر حينها، سواء في السكن أو المعيشة، هدفهما والغاية الترقي في التحصيل العلمي، لذلك انخرطا بكل جد واجتهاد في تحقيق ذلك، وكانت الحياة في تلك الفترة صعبة وشاقة، حيث ما زالت في بداياتها الاولية البدائية، فكان الوصول من فيفاء إلى صامطة، يتخلله كثير من المعوقات والصعاب، حيث لا  تتوفر السيارات بين المدن إلا في النادر، مع صعوبة الطرق ووعورة مسالكها، وينعدم كثير من خدمات السكن والاكل وغيرها، وكل وسائل الحياة الضرورية، وكان يتطلب لقدومهم إلى صامطة أو العودة منها، أكثر من يومين أو قد تزيد احيانا، والمعيشة في صامطة صعبة وشحيحة، فالسكن لا يكون إلا في بيوت صغيرة وضيقة، مصنوعة في الغالب من القش (العشش)، وكانت هي البيوت السائدة في تلك الفترة، ولا تتوفر الخدمات الاساسية، فلا كهرباء ولا مياه نظيفة وصحية، فالحياة كمعظم مناطق المملكة، في بداياتها المتعثرة، مع ما يتخلل طبيعة الحياة اليومية من المعوقات والصعوبات، وقد عانوا حينها كثيرا من مسببات الاحداث والحوادث، وفي مقدمتها في ذلك الوقت، قيام الثورة الجمهورية في اليمن، التي كانت في حوالي عام 1382هـ، وامتدت تبعاتها لعدة سنوات، فيما تسببت به من حروب واعتداءات ونزوح، ومن احداث واضطرابات داخل اليمن، امتدت إلى ما جاورها من خلف الحدود، ولكون موقع صامطة على الحدود اليمنية مباشرة، فقد نالها جراء ذلك كثيرا من الاحداث والتبعات، وتعرضت لشيء من الاعتداء والاضطرابات، مما تسبب في كثير من الاحيان إلى نزوح اهاليها عنها، والهروب بأنفسهم إلى خارجها، وتقفيل مدارسها التي من ضمنها المعهد العلمي، ولكن ما اسرع ما تهدئ الامور وتعود إلى طبيعتها، ثم يتأقلم الناس مع الوضع ويألفونه، وتسير الامور مع الوقت إلى أن تصبح شيئا طبيعيا.

   كانت مراحل مقدرة مروا بها، اكسبتهم خبرات وفهم للحياة، واصبحت فيما بعد محطات وذكريات يستعيدونها بكل سعادة، بعد أن مرت وانتهت بحمد الله بكل سلام، ولم تؤثر عليهم وعلى عزائمهم، أو تضعف من اراداتهم القوية، بل واصلوا طريقهم بكل طموح واصرار، واقبل شخصيا على دراسته بكل جد ورغبة واجتهاد، ومضت به السنين يزداد فيها علما وخبرة وتمرسا في الحياة، وقد تخرج بعد عامين دراسيين من القسم التمهيدي، لينتقل بعده مباشرة إلى المرحلة المتوسطة، وسار فيها على نفس نهجه السابق، يحصد النجاح عاما بعد عام، إلى أن اكمل المرحلة المتوسطة، ليواصل على نفس النهج المرحلة الثانوية، وكانت مدة دراسته في صامطة سبع سنوات، سنتين في القسم التمهيدي، وخمس سنوات في المرحلتين المتوسطة والثانوية، لينال فيها جميعها التفوق والنجاح ، متدرجا دون ما ابطاء في فصولها، يترقى فيها عاما بعد عام، إلى أن تخرج من معهدها  العلمي في نهاية العام 1386هـ، مزهوا بما تحقق له وما احرزه من علوم وخبرات وشهادات،  ليغادر بعدها صامطة رافعا رأسه، حاملا الشهادة الثانوية، ليتجه دون ابطاء، ساعيا خلف تحقيق هدفه الاسمى، الذي طالما حلم به، ورسمه بكل وضوح في مخيلته، غايته الاساسية إكمال دراسته الجامعية في مدينة الرياض، ورغم بعدها الكبير بمقاييس ذلك الوقت، مع شح المواصلات، وطول المسافات، وصعوبة الطرق، فالتنقل بين المدن والمناطق صعب ومتعب للغاية، ولا يكون إلا بالسيارات الكبيرة المحدودة، وعلى طرق معظمها بدائية، تمر بهم من جيزان على الطريق الساحلي الوحيد، ليصلون من خلاله إلى مكة المكرمة، في رحلة قد يتطلب قطعها اكثر من يومين، ومن مكة وما بعدها إلى الرياض، فهذه المرحلة حينها اكثر سهولة وراحة، لوجود السيارات المريحة نسبيا، وعلى طرق معظمها معبدة، ينطلقون خلالها من مكة على طريق الطائف، ثم المويه وظلم وعفيف والدوادمي وشقراء والمزاحمية وغيرها، في مسافة تزيد على الف كيلو متر، يتطلب قطعها اكثر من يوم كامل في رحلة متواصلة.

   تحمّل كل ذلك ووطن نفسه على قبوله من قبل، فهي ظروف الحياة السائدة حينها، وكان له هدف وغاية لا يحيد عن تحقيقها، وحلم طالما راوده  في مواصلة دراسته، وفي سعيه الجاد إلى نوال امنيته، وتحقيق رغبته  في التخصص الوحيد الذي يحبه، وبفضل الله تيسرت اموره، وتم قبوله، على ما كان يؤمله، حيث قدم اوراقه، وتحقق له القبول في كلية اللغة العربية وعلومها، وهذه الكلية واختها كلية الشريعة، كانتا الوحيدتان تتبعان الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية، وكان قد سبقه شقيقه يحيى إلى الرياض، حيث كان يدرس حينها في كلية العلوم الشرعية، مما سهل له كثير من الامور، سواء في سفره وتنقله، وفي تسجيله واستقراره النفسي والمعيشي،  فكان اخوه قد راد الامور من قبل، وتملك كثيرا من الخبرات والمعرفة، (والرائد لا يكذب اهله)، اقبل على حياته الدراسية والمعيشية الجديدة، وقد تهيأت له معظم الأمور، وما اسرع ما تأقلم مع اجواء الرياض المختلفة عن ما الف، وكذلك تعرف على نظام الدراسة في الكلية الجديد عليه، فاقبل على دراسته بكل رغبة وجدية وشغف، ينهل من معينها، نهل الظامئ الصادي، ويتدرج في فصولها، عاما بعد عام، وعلى مدى فترة الدراسة المحددة بأربع سنوات، وهو لا يكاد يشبع ولا يمل منها، إلى أن تخرج منها بحمد الله وتوفيقه، مع نهاية العام الجامعي 1389/1390هـ ، يحمل بين يديه شهادة الليسانس في اللغة العربية وعلومها.

  ولم يتوقف تحصيله العلمي عند هذا الحد، ولم يكتفي بهذا المقدار، مما تلقاه على مقاعد الدراسة الجامعية، حيث حرص على مواصلة دراسته العليا، حتى أنه سعى لطلب نقل عمله من معهد عرعر العلمي إلى المعهد العلمي بالرياض، لعله يتمكن من الجمع بين العمل واستكمال الدراسة، وفي الرياض حالت ظروف بينه وبين هذه الدراسة، ولذلك قرر العودة مرة اخرى إلى معهد عرعر، ولكنه لاحقا في عام 1402هـ التحق بدورة تربوية في كلية العلوم الاجتماعية بالرياض، تحصل منها على شهادة الدبلوم التربوي، وواصل سعيه الدؤوب في الاستزادة من طلب العلم، وبالأخص حرصه على النهل من مصادر العلم والمعرفة المختلفة، الكامن معظمها في بطون الكتب وزواياها، فكان الكتاب رفيقا له لا يفارقه، وتملك في بيته مكتبة عامرة، تحوي في طياتها كل نافع ومفيد من العلوم، وهو يعشقها ولا يكاد يفارقها، أو يشبع من النهل من محتوياتها، حتى اصبح مدمنا عليها، مغرما بملازمتها.

العمل الوظيفي :

  بعد تخرجه من الجامعة، تم تعيينه مباشرة في بداية العام الدراسي 1390/1391هـ معلما في معهد عرعر العلمي، وعرعر احدى مدن منطقة الحدود الشمالية، تقع على حدود المملكة مع الجمهورية العراقية، وتعتبر اكبر مدن هذه المنطقة، بل هي حاضرتها، والمركز الرئيسي لها، وقد تأقلم كثيرا معها، واحبها واحب اهلها والاستقرار فيها، ووجد فيها راحة نفسه وكل ما يناسبه، وعشق العيش فيها والتعلق بارضها، وكان عمله فيها تجربة جادة في مجال التعليم الذي يحبه، سبر فيها اغوار مكتسباته المختزنة، وطبقها ونزلها على الواقع عمليا، فاكتسب الثقة بنفسه أولا، ثم اضاف اليها كثيرا من الخبرات والمعارف، ويصف وضعه مع هذه المهمة الجليلة بقوله : (اعتز كثيرا بعمل التدريس فقد احببت الطلاب واحبوني)، ومضى به العام تلو العام، متأقلما مع واقعه الذي احبه وعشقه، ثم حن إلى تحقيق هاجسه القديم في مواصلة دراساته العليا، ولكون الحدود الشمالية منطقة نائية عن مراكز التعليم المتاحة، ويصعب عليه تحقيق طموحه منها، لذلك سعى في نهاية العام الدراسي 1394/1395هـ إلى طلب نقل عمله إلى المعهد العلمي بالرياض، لعله يستطيع فيها الجمع بين العمل والدراسة، وتمت الموافقة له على هذا النقل، وباشر في معهد الرياض العلمي مع بداية العام الدراسي، واجتهد في البحث عن القبول للدراسة في الماجستير، ولكن حالت دون تحقيقها ظروف متعددة، وخاب امله في هذا المجال، ولم يجد نفسه مرتاحا بعدها في الرياض، لذلك قرر مع نهاية العام الدراسي العودة مجددا إلى المعهد العلمي في عرعر، التي احبها وارتاح فيها، حتى أنه لم يفكر لاحقا في الانتقال منها، فعاش فيها كامل عمره الوظيفي، ولازمها حتى بعد تقاعده الاختياري، على مدى ثلاثين عاما أو تزيد، ترك له فيها بحمد الله وتوفيقه اثرا ايجابيا، وبصمة وسمعة قوية، يفخر بها ويفاخر، وكوّن له فيها اصحابا وطلابا وزملاء احبهم واحبوه، حيث تتلمذ على يديه كثير من اعلام عرعر ومنطقة الحدود الشمالية، ممن عرفوا لاحقا في مجالات شتى، ومعظمهم لم ينسوا فضله ونفعه لهم.

    عمل في التدريس لما يزبد عن سبع سنوات، ثم في حوالي عام 1397هـ كلف بالعمل وكيلا لمدير المعهد، وقام بهذا المهمة وهذه المسؤولية على خير وجه واتمه، إلى أن صدر في 8/8/1402هـ قرار تكليفه مديرا للمعهد، فكان ذلك من حسن حظ المعهد خاصة، واهل المنطقة عامة، حيث نهض بالمعهد نهضة نوعية شاملة، وجعله مرتكزا لكثير من الانشطة والفعاليات، في المجالات العلمية والادبية والاجتماعية، واصبح المعهد يؤدي دوره الايجابي بالشكل الصحيح، وزاد من نشاطه وتفاعله مع كامل المجتمع من حوله، وقام بالعديد من الادوار والوظائف الانمائية والتنويرية، بما خدم الطلاب والمجتمع بكامله، وقادهم بكل قوة وسلاسة إلى كثير من النجاحات المتوالية، وجعل المعهد ينافس بقية المعاهد على مستوى المملكة، في كل المجالات والانشطة العلمية، المنهجية وغير المنهجية، عمل بكل جد في اقامة الندوات، واصدار الصحف والمجلات، والمشاركة في المعسكرات، وتنمية مواهب الطلاب في كل المجالات، من خلال ما يقومون به من انشطة، وكان قدوة لهم يشاركهم بنفسه، ليبعث فيهم الحماس والنشاط، وبقي على ذلك لسنوات يجاهد ويبذل، وفي نفس الوقت صابرا متحاملا على اوجاعه المزمنة، يكتم معاناته من امراضه المتعددة الكثيرة، التي تجتاح بدنه النحيل، الذي طالما انهكته، فقد ابتلي رحمه الله من صغره، بالعديد من الامراض المستوطنة، قاومها بحيوية الشباب وعنفوانه، ولكن مع تقدم العمر، نفد كثير من صبره واحتماله، مما جعله يسعى إلى طلب التقاعد المبكر، ليتفرغ من عبء المسؤوليات، التي تحتاج إلى كثير من النشاط والحيوية والكدح المستمر، وهي مسؤوليات كبيرة لم يعد قادرا عليها، لكونه لا يرضى بأي تقصير في ادائها، ولا يعذر نفسه مهما كانت اعذارها، ولذلك رأى أنه قد حان الموعد المناسب للتقاعد، ليتخلص من وطاءة المسؤولية الرسمية، ويتفرغ لمتابعة مراجعاته ومعالجاته الطبية، لإحساسه أنه لم يعد يستطيع الموائمة بينهما، رحمه الله وغفر له.

تقاعده :

    لقد عان كثيرا من الامراض، وعاوده العديد منها منذ صغره المبكر، وانهكت كامل جسده، وحرمته كثيرا من متع الحياة الطبيعية، فكم تحمل كثيرا من اوجاعها والآمها، ولكنه مع ذلك كان كتوما صابرا محتسبا، لا يتذمر ولا يشكو ولا يتوجع، إلا إلى الله سبحانه وتعالى، حتى أن غالب من حوله لا يدرون بكثير مما يعانيه، ولكريم نفسه وتميزه التام بالإيثار، فقد قرر أن لا يتزوج وأن يعيش اعزبا، من مبدأ أن لا يسبب ألما ومعاناة لمن ترتبط به، ومن تشاركه حياته، واما هو فقد تعود على هذه الاوجاع، وتحمل كل ذلك وصبر عليها لسنوات طويلة، دون أن يكون في ذلك حجة له، أو سببا في تقصير من قبله، في اداء واجب أو عمل يؤكل إليه، ولكنه مع تقدم عمره وتجاوزه الخمسين سنة، ودخوله في بداية مرحلة  الكهولة والشيخوخة، احس بضعف مقاومة جسده، لكثير مما يعتريه، مما زاد من اتعابه وعلله واوجاعه، فلذا فكر جادا في ضرورة الترجل عن صهوة العمل الرسمي(مديرا ناجحا لمعهد عرعر العلمي)، وتنامت معه هذه الفكرة، ووجدها افضل الحلول امامه، فسعى بكل اصرار على تفعيلها، وبالذات وقد بلغ الغاية في اداء مهامه، ولم يعد يستطيع الاتيان بجديد في مجاله، مع احساس غامر يجتاحه من الرضا عن كل ما قدمه، وشعور متزايد في أنه قد ادى واجبه ورسالته، فقد بلغ قمة عطائه وبذله، واحس أن ما يتلوها سيحسب عليه لا له، وكان هذا هو شعوره الداخلي الصادق، في تقييم نفسه وقدراته، وإن كان الظاهر للآخرين أنه ما زال في اوج عطائه، ولكنه هو الأكثر دراية بنفسه، من خلال احساسه وظروفه التي لا يطلع عليها غيره، فوجد أنه لن يستطيع البذل والعطاء كما كان عليه في الماضي، ولن يستطيع مواصلة السير على ما قد اطر نفسه عليه، من تسيير العمل بالقوة والحزم والانضباط، فلم يعد يجد من القوة الجسدية ما يسنده ويعينه، لذلك آثر ترك العمل الوظيفي الآن، وهو في اوج قوته، وكمال عطائه وتوهجه، بعد أن احس وان لم يصرح بأنه يعيش في هذه الفترة بداية الضعف والوهن الجسدي، مما جعله يسعى بكل اصرار إلى تفعيل هذا القرار، وقد كان له ذلك بالفعل في عام 1418هـ، وكان القرار المناسب في الوقت المناسب، رحمه الله وغفر له وتجاوز عنه.

مواهبه وهواياته :

  كانت هوايته الابرز والاقوى تتمثل في القراءة، لإدراكه التام أن العلم يكمن في بطون الكتب، فمن رام العلم والمعرفة وجده فيها، ومن سعى إلى تطوير ذاته، ومهاراته ورفع قدراته، تطلبه من خلال القراءة، كان قارئا نهما شرها، لا يشبع منها ولا يمل معها، وينهل من صافي معينها، وكانت اكبر متعة له الغوص في اعماق صفحاتها، والتقاط جواهر المعرفة ونفائس دررها، لا يتخصص في علم واحد بعينه، بل يحب كل العلوم بكل انواعها وفنونها، ويستهويه منها ما يتعلق باللغة العربية وعلومها وآدابها، اقتنى في بيته مكتبة زاخرة بأمهات الكتب، وكانت اجمل اوقاته ما يقضيه بينها، ولذته الكبرى في حملها بين يديه، والتزود من معين محتوياتها، فالكتب بقدر ما تعطيها تعطيك، وبقدر ما تمنحها ترضيك، فهي اكبر لذة لمن لازمها، واعظم نفعا وفائدة في علومها.

  احب اللغة وآدابها، وتخصص في علومها وفنونها، حتى تمكن من اسرارها، انسان مثقف مطلع حصيف، حاضر الذاكرة سريع البديهة، كان مرجعا لكل محتار حوله، في أي فن من فنونها، جزل العبارة في حديثه وكتاباته واشعاره، فله بعض الكتابات في الصحف والمجلات، مجلة العرب ومجلة اليمامة ومجلة كل العرب وفي جريدة الجزيرة، وهو مع هذا شاعر متمكن موهوب، نظم الشعر بكل عذوبة واقتدار، وخاض وتعمق في بحوره كأمهر بحار، نظم الشعر في جميع الاعراض إلا الهجاء، وابدع في شتى القوافي وطور، وتطرق إلى كل الاعراض وصور، كان نجم الاحتفالات الرسمية والتعليمية في المنطقة الشمالية، حتى عرف بـ (شاعر الشمال)، تجده مع السياسة والوطنية والعاطفية والاجتماعية، واجاد في الانشاد والرواية والمسرحيات، صاغ لطلابه ما يناسب منطوقهم، ويتوافق مع مفهومهم، فلا بد أن لديه الكثير والكثير في هذا الباب، ولكنه لم يكن يهتم بالاحتفاظ بها، فمعظمه قد فقد وضاع، ولولا أن هيء الله له شقيقه الشيخ يحيى حفظه الله، احتفظ له ببعض شيء من قصائده، وهيء له كذلك ابن اخته، الدكتور الاديب عبدالله بن احمد الخسافي الفيفي، الذي سعى جاهدا إلى جمعها وتحقيقها، واعدادها للنشر وتوثيقها، ليخرجها في ديوان انيق، اختار له عنوان رقيق، (مرافئ الحب)، قام على طبعه ونشره، نادي جازان الأدبي، في عام 1428هـ، جزاهم الله كل خير، وكتب له الاجر والمثوبة، وتجاوز عنا وعنه، كتاب يقع في مائتين وتسعين صفحة، من الحجم المتوسط، يحتوي على مقدمة تعريفية بحياة الشاعر، وتحليل وبسط متقن لأسلوبه واسرار شعره، وقام على ترتيب قصائده التي بلغت ثمان وخمسين قصيدة، حسب القوافي على منهاج الترتيب الهجائي، فاكتمل الديوان بشكل يليق بمثل هذه القامة البديعة، في باقة جميلة من المتعة وقمة الابداع الراقي، والجهد المقدر للمحقق في ما قدمه من نقد وتمحيص وتعليقات وافية، بما خدم بها الديوان على اكمل وجه واتمه، لنراه وقد خرج منتج جميل، يسر ويمتع كل متذوق، جزاه الله كل خير، وبارك فيه وفي علمه وقلمه السيال، ورحم الله شاعرنا وجزاه في جناته بكل نعيم مقيم.

مرضه الأخير ووفاته:  

    لم يعش طويلا بعد تقاعده، لكثرة ما اعتراه من الامراض والاسقام والاوجاع، ما الله به عليم، وكان آخر المطاف به، عندما اكتشف الاطباء ما اصابه من ورم خبيث، اجتاح كبده وقضى عليه، ولم يشخص إلا في مراحله الاخيرة، وقد اصبحت حالته متأخرة جدا، وميؤوس من علاجها والشفاء منها، ولكنه تلقى خبر مرضه وتردي حالته، بقوة ايمان وتحمل وصبر، وعزم اكيد على الرضى بالاقدار، ولكن كانت له حكاية مع هذا الخبر، جدير بان نشير إليها من باب التواصي بالصبر، فقد صارحه طبيبه دون مقدمات، ودون مراعاة أو تقدير للنفسيات، من باب اخذه بفلسفة المدرسة الطبية التي ينتمي اليها، والتي تؤمن بوجوب مصارحة المريض بحالته، وأن من حقه أن يعرف تطورات مرضه بكل شفافية، وهذا لا شك أسلوب جلف وجاف، يناقض الرحمة والعطف، ويخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فأطلقها الطبيب دون تفكير في تبعاتها القاتلة، ولا مراعاة لحالة المصاب ومدى الفاجعة، وإن كان في هذه الحالة امام جبل من الايمان والصلابة، ولكنه في حالات اخرى قد يواجه مريضا ضعيفا لا يحتمل، فهي على العموم تصرف غير مقبول، لا تحمد عواقبه، ولا ردة فعله في كل حال، ومن اجل ذلك أوضح وجهة نظره للطبيب، وعاتبه عتاب الناصح الاريب، وحذره من تبعات هذا الاسلوب، لأنه لا يناسب كل الناس، ففيهم الضعيف خائر العزيمة، وفيهم غير المحتسب والصابر، ممن لا يدرك حكمة الايمان بالقضاء والقدر.

    اما هو فقد تلقى خبر مرضه بكل طمأنينة، وسعة صدر وقوة ايمان، مقبلا على الله راضيا بحكمه واقداره، واثقا به سبحانه، دون غيره من الخلق، ولكنه عاتب الطبيب على اسلوبه الممجوج القاسي، وذكره بأن وظيفته هي بث الامل والايجابية، والبعد عن تأييس المرضى، وفي قفل ابواب الرجاء امامهم، فليس كل انسان يتحمل اخباره بأنه لا شفاء له مما اصابه.

  عاش أطول من الموعد الذي حدده طبيبه، متفائلا صابرا قوي الرجاء، محتسبا على الله هذه البلوى، ولكنه سجل لنا خلجات نفسه، وصادق مشاعره، في قطعة ادبية رائعة، لتكون عظة ودرسا لكل مؤمن بقضاء الله وقدره، وشاهدة لمن خلفه على قوة صبره واحتسابه، وعلى رجاحة عقله وقوة ايمانه، لما تحويها من الدلائل والعظات، وصدق الايمان والثقة برب الارضين والسموات، اختار لها عنوانا مناسبا (السلام عليكم)، وكأنه يودع بها الحياة الدنيا واهلها، في اجمل عبارات الوداع واصدقها، تاركا مجلسه في هذه الدنيا باختياره، ومتمثلا في وداعه للأحياء من بعده، آخذاً بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي قال : ( إذا انتهى احدكم إلى المجلس فليسلم ، فإذا اراد أن يقوم فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة)، وهذا هو اختياره الموفق للعنوان، في هذه القصيدة الوداعية، رحمه الله رحمة واسعة، وغفر له وتجاوز عنه، وكتب له الاجر والمثوبة، وجعل ما اصابه تمحيصا ورفعة لدرجاته، وكتبه في الشهداء الابرار عنده.

 تقول هذه القصيدة :

تأزني الطعنة النجلاء في كبدي  

    فاتقيها بذكر الواحد الصمد

احس يابارئى التمزيق في بدني 

فاجعل لهيب المدى يارب كالبرد

كأن قلبي على السفود يحرقه     

   في جاحم النار يوما كف مفتئد

يقول لي حضرة الدكتور لا أمل 

فقلت لكن على ذي العرش معتمدي

ثم السلام عليكم ليس بي وجل    

  مما أتاني من الرحمن يا ولدي

ولا ألومك يا دكتور لا عتب  

  رغم الجلافة والإعراض والصيد

لا تُيئسن أيها الآسي فأنت على   

    ما قدر الله لم تنقص ولم تزد

إن المنايا لكل الناس مُرصدة    

  فهل هنالك من ينجو من الرصد

والموت حق فلا اخشى بوادره     

     وسوف القاه بالتوحيد والجلد

وكيف اخشى سهام الموت تفتك بي 

ولست املك لا روحي ولا جسدي

وليس خلفي من أخشى تيتمهم 

 بعدي ولا لي من الاموال ملء يدي

وقد اخذت من الدنيا بهارجها       

وغرني مثل غيري كثرة الزبد

في كل جارحة ذنب يؤرقني      

    رباه لم استقم وامتد بي اودي

يا رب لو عد ذنبي كالمحيط لما  

 رددتني خائبا غرقان في العدد

يا منقذي من لهيب النار يا املي 

يا خالقي صب نور العفو في خلدي

والمسرفون على انفسهم فزعوا  

فقلت لا تقنطوا من رحمة الأحد

يا سعد من نعمة الاسلام تغمره    

ومن خلا قلبه من وصمة الحسد

يا قابل التوب امح الذنب عني فقد 

مزجت بين طريق الغي والرشد

لكن يقيني بعفو الله يحفزني     

   أن لا اخاف من التعذيب يوم غد

فالله معتصمي بل منتهى أملي       

    والله ملتجئي والله مستندي

يا رب إن كان خيرا لي البقاء فهب 

لي من دوائك ما يشفي من الكمد

فانت اذهبت عن ايوب محنته    

  في شدة الكرب منّاً منك بالمدد

يا ذا الطبيب الذي اعلنت فاجعتي  

 اما ترى انني كالضيغم الحرد

لم اهتزز عندما قالوا كذا مرضي 

  بل زادني قوة إذ لم يطل امدي

وقد يموت الفتى من غير ما مرض 

بل كان يختال في النعماء والرغد

لكن موت اخي قد شل مقدرتي       

 وكاد يخنقني حبل من المسد

بكيت سرا وجهرا عندما سمعت     

 أذني بنعي أخي  لله يا عضدي

والحمد لله ملء الكون خالقنا     

 ثم الصلاة على الهادي مدى الأبد

ولم يعش طويلا، فقد توفي رحمه الله في مدينة الرياض، في شهر رمضان، من عام 1421هـ ، رحمه الله رحمة واسعة، وغفر له وتجاوز عنه، وكتب له اجر ما قدم اضعافا مضاعفة، وكتبه في الشهداء، ورفع درجاته في عليين.

                      والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

                                                        محبكم/ عبدالله بن علي قاسم آل طارش الفيفي

                                                                  الرياض في 1445/3/22هـ

الأستاذ: سلمان بن محمد بن قاسم الحكمي

المقالات

 

 

‫4 تعليقات

  1. رحمه الله تعالى رحمة الأبرار واسكنه فسيح جناته اللهم امين. وجزاك الله خير الجزاء ي شيخ عبدالله.على هذا العمل

  2. رحمه الله رحمة واسعة واسكنه الفردوس الاعلى من الجنة ووالدينا وجميع موتى المسلمين .. وجزاك الله خيراً شيخنا الفاضل ابوجمال على نقل سيرة هذا العَلَم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى