بناء الأسرة المسؤولية مشتركة
قديماً قسوة الأب سمة بارزة.. واليوم الأنظمة حفظت حقوق الأبناء
تُشكل الأسرة اللبنة الأساسية لبناء المجتمعات باعتبارها البيئة الأولى للأبناء، والحجر الأساسي لأي مجتمع كان، فالأسرة هي النواة الأساسية والتي تنشأ من علاقة الزوج والزوجة والأبناء الذين تربطهم روابط الرَّحم والقرابة، كما تعتبر الأسرة قوّة تماسُك المجتمع، ولها دور فعّال في بناء المجتمع السَّوي المتكامل والمُترابط، وكانت الأسرة في زمننا الماضي تشتهر بسطوة الأب وتمكنه من بسط هيبته المفرطة في أغلب الأحيان، حيث كان يحظى بمكانة كبيرة في المنزل، فهو الآمر والمتصرف فيه، وليس لأحد معارضته في أي إجراء يتخذه، بل ولا يثنيه عن ذلك تدخل أكبر من في المنزل حتى ولو كان الأم نفسها، لذا فإن أمر الأب كان نافذاً والكل يطيعه بدون مناقشة، ولا يجرؤ أي أحد على مناقشة أبيه وذلك هيبة منه وخوفاً.
كان الأب يملي على بنيه ما يريدهم أن يكونوا عليه من تعامل مع الناس، كما أنه يحذرهم من الوقوع في الأشياء غير المرغوبة في المجتمع، وعند مخالفة أمره تراه يوقع عليهم العقاب البدني الشديد، مما يجعلهم دائماً حذرين خوفاً من العقاب ومهابة له، وكانت تلك القسوة من الأب والتي يصاحبها العقاب الشديد في أغلب الأحيان أمراً منتشراً بين الآباء في الفترة الماضية وليس ذلك دليلاً على كُره الأب لبنيه، لكن كانت قسوة الحياة نفسها وانهماك الآباء في العمل الذي يجعلهم يغيبون الساعات الطوال التي قد تستغرق اليوم بأكمله من أجل تأمين لقمة العيش تجعله يعود إلى البيت منهكاً طلباً للغذاء والراحة مما يجعله لا يعطي أبناءه الوقت الكافي من الحب والحنان والعطف.
وعي وتثقيف
وكان الآباء قديماً يتعاملون بكل قسوة وجلافة ويبادرون إلى إيقاع العقاب البدني عند ارتكاب الأبناء لأي خطأ كان، وقد ينفر الأبناء من البيت بسبب هذا التعنيف المتكرر والعقاب الشديد وقد نسمع كثيراً قصصاً عن أبناء هجروا بلدانهم وهم في عمر الصبا هروباً من تلك التربية القاسية ومكثوا سنين عديدة كونوا فيها ثروة وتزوجوا وأنجبوا أطفالاً فرجع من رجع منهم بعد أن كبر فأدرك منهم والده فاستسمحه لغيابه الذي يراه في نظره مبرراً بينما عاد من عاد منهم بعد أن فارق والده الحياة فبقيت تلك غصة في حلقه كلما تذكرها، بينما القلة منهم قد غادر بلده وأهله وامتلك بيتاً وحظي بعمل جيد يقتات منه وكون له أسرة وعاش في بلاده التي هاجر إليها ولم يعد إلى موطنه إلى أن مات، وفي زمننا الحاضر تغيّرت العديد من المفاهيم الخاطئة ومنها قسوة الأب المفرطة والديكتاتورية التي كان يتعامل بها مع أفراد أسرته جميعاً، بفضل انتشار الثقافة بين أفراد المجتمع وتناول وسائل الإعلام المختلفة موضوع رعاية الأسرة وحفظ حقوقها، وانتشار الوعي الكافي بين الناس، وشمل التثقيف منح كافة أفراد الأسرة حرية التصرف والاختيار لحياتهم في حدود ما يمليه الشرع والعادات، وتكونت لجان لحماية أفراد الأسرة من استعمال العنف ضدهم، وكذلك صدر قانون الأحوال الشخصية لتنظيم التعامل بين أفراد الأسرة والمجتمع.
ثقة وتقدير
وتشغل تربية الأبناء بال الكثيرين منذ القدم فكل شخص يريد أن يربي أبناءه تربية صالحة تجعل منهم رجالاً يعتمد عليهم ويعتمدون على أنفسهم ليشقوا طريقهم في الحياة، فبذل جيل الأمس القريب أقصى جهدهم في تحقيق تلك الغاية وتركوا للأجيال اللاحقة نتاج تجارب وخبرات متراكمة لا يزال يستفيد منها جيلنا الحاضر إلى الآن، فعلى الرغم من قساوة العيش وقلة ذات اليد والمشاغل الكثيرة التي كانوا يبذلون جلها في تأمين لقمة العيش إلاّ أن ذلك لم يثنهم عن مراقبة فلذات أكبادهم وتربيتهم التربية الحسنة، بل وإشراكهم منذ الصغر في تحمل أعباء الحياة وهم حديثو السن، مما جعل منهم رجالاً في أعمار الطفولة، فاستطاعوا تحمل مشاق العمل والسفر إلى أرجاء البلاد من أجل الحصول على لقمة العيش، وصاروا سنداً لأهلهم ويعتمد عليهم في إنجاز ما يوكل إليهم، مما منحهم الثقة والتقدير، وتحمل لنا قصص الأجداد خير شاهد على ذلك، لكن الغالبية العظمى من الآباء استعمل القسوة والعنف في التربية وفرض الرأي وذلك تطبيقاً لما مر به في طفولته من أبيه وجده، فترسبت في النفس تلك التجارب وبات تطبيقها على أبنائه أمراً لا مفر منه، ورغم القسوة التي كان الآباء يعاملون فيها الأبناء إلاّ أنهم يحبون أبناءهم ولكن لا يظهرون ذلك أمامهم أو أمام أمهاتهم.
حلقة وصل
وتشكّل الأسرة اللبنة الأولى في بناء المجتمع، فمن خلالها تتم صياغة شخصية الأبناء، حيث يكتسبون من خلال الأسرة الآداب والسلوكيات الاجتماعية، ويتلقون مبادئهم الأساسية في الحياة، فـالأبوان هما حلقة الوصل بين الأبناء وثقافة المجتمع وبين الأبناء وأنفسهم أيضاً، ومما لاشك فـيه أن الاهتمـام بتربيـة الذريـة الصالحة يعد من أفضل صور الاستثمار، وهو مطلب فطري لدى الآباء، لكن عند انتشار العنف في الأسرة كقسوة الوالدين، خاصةً الوالد فإن ذلك يكون سبباً في كره الأبناء للوالد أو للوالدين، وهناك أسباب كثيرة لكره الأبناء للآباء، فكثير منهم ينشؤون في ظل أب لا يتحمل أعباء أسرته، ولا يتحمل مسؤوليتهم المادية والنفسية والأسرية، وهناك نوع من الآباء يتركون أبناءهم ويتخلون عن مسؤوليتهم تمامًا فلا يفكرون في النفقات ولا الاهتمام بشؤون أبنائهم، وهناك نوع آخر يمكث مع أبنائه ولكنه يتكاسل عن أداء مهامه تجاه أولاده، وهذان النوعان من أسوأ أنواع الآباء الذين يزرعون كراهية أبنائهم بأيديهم، كونهم غير مسؤولين عن أبنائهم، كما أن القسوة تؤدي إلى حدوث جفاء بين الآباء والأبناء وتزرع داخل الأبناء والأسرة الشعور بالكراهية تجاه الأب، وتظهر القسوة في الضرب أو الكلمات القاسية وعدم وجود تواصل عاطفي بين الابن والأب، فلا يشعر بحب أبيه، وهنا يبدأ الابن في الشعور بالكُره والغل ناحية أبيه.
حنان واحتواء
إن إظهار مشاعر الأبوة الفطرية كالحنان والاحتواء تجعل الأبناء يشعرون بالانتماء لآبائهم وللأسرة، كما أن العصبية هي أكثر الصفات انتشارًا بين الآباء والذين لا يشعرون كيف تؤثر العصبية بشكل سلبي على الأبناء حتى وإن كانت في أمور الحياة بشكل عام، فالكثير من الأبناء يشعرون بالخوف من الصوت العالي والأسلوب العصبي، لذلك فهم ينفرون من الآباء العصبيين ويبتعدون عنهم نفسيًا، فتنشأ فجوة بين الأب والابن بسبب خوف الابن من إثارة عصبية الأب لأتفه الأسباب، ويصل الأمر إلى الكراهية في النهاية، وعلى الأبناء مراعاة مشاعر الأب وعدم استفزازه في أوقات العصبية، مما قد يخفف حدة الصدام بينهم ويجعل الحياة الأسرية أفضل، ومن أسباب كره الأبناء للآباء التفرقة بين الأبناء وعدم المساواة بينهم في المعاملة والإنفاق والحب والعطاء، مما يستنزف رصيد أبيهم من المحبة فيكرهونه؛ لأن الأبناء يحبون أن يشعروا أن لكل منهم مكانة خاصة في قلب الأب، ولكن الأب الذي يفرق بين الأبناء يسلب من أبنائه الشعور بالأمان والاستقرار العاطفي، فكيف سيبادله ابنه عاطفيًا إن لم يجد منه الحب في جميع الأحوال.
بخل وتقتير
وهناك نوع آخر من التفرقة وهو التفرقة بين الأبناء على حسب نوع الجنس ذكر أو أنثى، وهذه التفرقة أصعب أنواع التفرقة بين الأبناء والآباء، والتي تشكل عدم الانتماء للأسرة، وهناك أسباب كثيرة منها؛ الشجار والخلاف أمام الأبناء، والتسلط والتقليل من قدراتهم، وكذلك البخل والتقتير على الأبناء وعدم الاستجابة لمطالبهم وحاجاتهم في معظم الأحيان، مما يجعلهم يشعرون بالنقص والحاجة، وقد تقودهم احتياجاتهم لممارسة التسول، أو السرقة، أو الالتفاف على رفقاء السوء، لذا يجب على الآباء الحفاظ على تكوين الأسرة بشكل سليم وجعل الأبناء يشعرون بالانتماء والحب والعطاء لآبائهم وللأسرة، ولكل من حولهم كي يخرج جيل مصلح يقود للخير.
تغيّرت المفاهيم
وعلى الرغم من تغيّر العديد من المفاهيم الخاطئة في تربية الأبناء ومنها قسوة الأب المفرطة والديكتاتورية التي كان يتعامل بها مع أفراد أسرته جميعاً فيما مضى من عقود بسبب الجهل وعدم انتشار الوعي، إلاّ أنها سلطت الضوء وسائل الإعلام المختلفة على موضوع رعاية الأسرة وحفظ حقوقها، مما أدى إلى انتشار الوعي الكافي بين الناس، فشمل التثقيف منح كافة أفراد الأسرة حرية التصرف والاختيار لحياتهم في حدود ما يمليه الشرع والعادات وكذلك المشاركة وإبداء الرأي في أمور الأسرة، فعلى الرغم من ذلك إلاّ أن هناك قلة مازالت تمارس العنف الأسري، مما حدا بالمسؤولين إلى حماية هؤلاء، حيث تم استحداث مركز العنف الأسري من قبل وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، الذي يتلقى بلاغات العنف الأسري، وحماية الطفل من كافة أشكال الإيذاء والإهمال والتمييز والاستغلال، إذ تحرص الوزارة على أولوية سلامة الأشخاص من خلال حمايتهم من تكرار العنف، حيث يستقبل البلاغ اختصاصيون واختصاصيات نفسيون واجتماعيون مدربون على آلية التعامل مع حالات العنف الأسري، كما تم إقرار نظام الأحوال الشخصية من قبل مجلس الوزراء والذي يسعى إلى ضبط السلطة التقديرية للقضاء، والحد من الاختلاف في الأحكام، إضافةً إلى تسريع الفصل في المنازعات الأسرية، وتأطير العلاقات بين أفراد الأسرة وحماية حقوقهم، خاصةً حقوق الطفل والمرأة.
إعداد: حمود الضويحي
بناء الأسرة المسؤولية مشتركة