
الحاج والمعتمر وتقدير المقام والمكان
كلُّ العباداتِ -التي أمر الله تعالى بها عباده- تسعَى لتحقيق هدفَين هُمَا:
– تحقيق الطَّاعة لله تعالى، من خلال الالتزام بأوامره، واجتناب نواهيه، التي حدَّدها في كتابه الكريم بكلِّ وضوحٍ، وتمامٍ، وكمالٍ.
تنمية القيم، والسلوك البشريِّ؛ ليرتقيَ من خلاله الإنسانُ إلى مراتب القيم الفاضلة، والسلوكات الحَسَنة، وبما أنَّ الحجَّ والعُمرةَ تُعدَّان من تلك العبادات، فقد حُدِّدت كلُّ تفاصيل أدائهما في كتاب الله؛ ممَّا يستوجب الالتزام بها عند الأداء؛ كي يتحقَّق المطلبُ العباديُّ والروحانيُّ معًا كما أمر الله بذلك، وعندما يتَّجه العبدُ القادمُ لتلبية تلك العبادة، فإنَّ المستوجَبَ عليه أنْ يمتثلَ بالهدوء، والطمأنينة، والصِّدق، والسَّكينة، والإخلاص، وحُسن المعاملة في العبادة؛ لأنَّ الحاجَّ والمُعتمرَ وهُما يعيشَان حالة روحانيَّة وجدانيَّة، عندما يكونَان في ضيافة الله تعالى، وفي بيته العظيم، يدعوانه ويتوسَّلان به للعفوِ والمغفرةِ، ومحوِ ما اقترفَاه من ذنوبٍ ومعاصٍّ. ولا شكَّ بأنَّ مخالفتهما لذلك المطلب يُعدُّ سلوكًا مشينًا يُفسد عليهما ما قَدِمَا من أجله، ولا يتوافقُ مع سلوك مخاطبة الخالق سبحانه، وسلوك الطالب لطلب العفوِ والمغفرةِ.
وبما أنَّ تلك المشاعر المقدَّسة لأداء مناسك الحجِّ والعُمرة لهَا مكانٌ قد تمَّ تهيئته بكافَّة المطالب التي يحتاجُها كلُّ حاجٍّ أو مُعتمرٍ، والتي وُضع لتحقيقها أنظمة وقوانين لتحقيق هذا المطلب، فإنَّ المستوجَبَ أنْ تدخلَ ضمن الالتزام الأخلاقيِّ الذي يستوجبُ أنْ يكون عليه الحاجُّ والمُعتمرُ وهو في رحاب الله، وبجوار بيته العتيق، فهذا المكان قد اختاره الله تعالى، في هذه البقعة المباركة، بعدَ أنْ أوحى إلى سيِّدنا إبراهيم -عليه السَّلامُ- به، وأمر أنْ يرفعَ قواعدَ هذَا البيتِ العظيمِ المقدِّسِ المباركِ؛ ليكونَ قبلةً رُوحيَّةً لكلِّ مسلمٍ علَى وجهِ الأرضِ كما في قولهِ تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) حينما أمره اللهُ تعالى بذلك، كما أمره أنْ يُؤذِّنَ فِي النَّاسِ بالحَجِّ في قوله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ).
وبما أنَّ هذا المكان المقدَّس يقعُ ضمن حدود المملكة العربيَّة السعوديَّة، التي اختارها اللهُ تعالى؛ لتكونَ راعيةً له، فقد قامت بهذا الدور على أكمل وجهٍ، بعد أنْ هيَّأت لذلك كلَّ إمكاناتها الماديَّة والبشريَّة، فأحسنت عمارةَ المكانِ على أحدثِ الطُّرزِ العالميَّة، وجعلته يستقبلُ عشراتِ الملايين كلَّ عامٍ، بالرغم من ضيقِ المساحةِ، ووضعت له كافَّة الأنظمةِ وأحدَثَها لتيسيرِ رحلةِ الحاجِّ والمُعتمرِ من وإلى بلده، وجعلت لخدمته كوادرَ بشريَّةً بمئات الآلاف من الأفراد، الذين تمَّ تدريبهم على حُسنِ الاستقبال، والمعاملة. ويسَّرت كلَّ السُّبلِ؛ للوصولِ إلى هذا المكان المقدَّس، ثم وضعت لخدمته أحدثَ الأنظمةِ والقوانين الكفيلة بتحقيق أعلى مراتبِ النَّجاحِ، والتيسير للقادمِينَ لتحقيق أعلى درجات الرَّاحة والأمن والاطمئنان.
وبما أن المجتمع البشري بطبعه متنوع السلوكات والقيم، من خلال ما اكتسبه من سلوكات وقيم وأنظمة في بلاده، فإن ذلك يستوجب أن يكون معيارا يقاس به بلده وفهو -أي الحاج والمعتمر- يعد سفيرا وممثلا لوطنه، ولعل هذا تحديدا يعد قضية يستوجب الالتفات لها من قبل كل البلدان الإسلامية، فالمكان مقدس، والغرض روحاني، فيه الانكسار والضعف، والبلد المضيف وفر كل ما يحتاجه من التسهيلات، لكنَّ البعضَ -وللأسفِ الشديدِ، وهم قليلٌ-، كلَّفوا أنفسَهم بالمجيءِ؛ ليقال إنَّهم جاءوا، وقد جاءُوا حيث نراهم ينسلخُون من أخلاقهم، وقيمهم أوَّلًا، ثمَّ من الالتزام بأنظمةِ وقوانين الدَّولة المُضيفةِ، حيث نراهم ينشغلُونَ بالبلبلةِ، والهتافاتِ السياسيَّةِ، والتَّصويرِ غير المبرَّر؛ ممَّا يجعلهم يتمثَّلُونَ بالصُّورةِ المُخزيةِ في المكانِ الحرام المقدَّس، بالإضافة لعدم شعورهم بالقيمة الروحانيَّة لهذا المكان المقدَّس، ولا يشعر بقيمة الوقوف بين يدي الله، التي تستوجب منه الانكسار لطلب العفو والمغفرة، حيث نجد نفسه الأمَّارة بالسوءِ، يعبث بالمقام والمكان خُلقًا، وسُلوكًا، ومعاملةً.. واللهُ من وراءِ القصدِ.
الحاج والمعتمر وتقدير المقام والمكان