مقالات

اقتصاد الوهم: حين يُباع الخوف ويُسوَّق الأمل

كتبه : محمد بن سالم بن سليمان العبدلي الفيفي

نعيش في زمنٍ غير مسبوق، تحوّلت فيه المشاعر الإنسانية إلى سلعة تُباع وتُشترى. الخوف، والطمأنينة، والأمل، وحتى الإيجابية، لم تعد حالاتٍ إنسانية فطرية، بل أصبحت مواد خام لصناعة فكرية واقتصادية ضخمة تقوم على ما يمكن تسميته بـ اقتصاد الوهم، حيث تُغلف الخرافة بعبارات فلسفية، وتُسوَّق الراحة النفسية على أنها وعيٌ جديد، فيتحول القارئ من باحثٍ عن الحقيقة إلى مستهلكٍ دائمٍ للوهم المريح.

من أكثر صور هذا الاقتصاد شيوعًا كتبُ المؤامرة التي تُقدَّم على أنها كشفٌ للحقيقة الممنوعة. يبرع مؤلفوها في تغذية الغرائز القديمة في الإنسان: الخوف من المجهول، والشعور بأن هناك من يتحكم بالعالم من وراء الستار.

من هذه الكتب «الحكومة العالمية للمسيح الدجّال» لسيرج موناست، الذي يصوّر العالم وكأنه في قبضة نخبةٍ سريةٍ تمهّد لسيطرة قوى شيطانية على الأرض، وكتاب «النظام العالمي الجديد» لويليام غاي كار الذي يربط كل حركة سياسية أو مالية في العالم بمخططٍ خفيٍّ يقوده نفرٌ من المتآمرين. وفي السياق نفسه نجد أعمالًا مثل «عائلة روتشيلد» أو «الماسونية في العصور الحديثة».

وهي كتب تتغذى على القلق الجمعي وتبيعه للقارئ في صورة “معرفة خطيرة”. إنها نصوص لا تستهدف كشف الحقيقة بقدر ما تسعى إلى إدامة الشعور بالخطر، لأن الخوف حين يُصاغ بأسلوبٍ قصصيٍّ مشوّق يصبح سلعةً رائجة. ولو كانت هذه “الأسرار” حقًا كما يُقال، لما وجدت طريقها إلى دور النشر، ولا إلى رفوف المكتبات العامة. فالغاية الحقيقية ليست التنوير بل الإثارة، ولا البحث عن الوعي بل تسويق القلق.

وفي الجهة المقابلة، هناك صناعة أخرى لا تقل ازدهارًا، هي صناعة “الأمل المعلّب”. كتب تعد القارئ بأن الكون سيستجيب لأفكاره وأن السعادة والثراء سيأتيان بمجرد التفكير بهما، مثل كتاب «السر» لروندا بايرن، و«قوة الآن» لإكهارت تول، و«العادات السبع للناس الأكثر فعالية» لستيفن كوفي، و«أيقظ العملاق بداخلك» لتوني روبنز. جميعها تروّج لوهمٍ مريحٍ اسمه “السيطرة الذهنية على القدر”، فتُحمّل الإنسان مسؤولية فقره ومرضه وتعثره، وتوهمه أن الحل في بضع جملٍ من “التفكير الإيجابي”.

يخرج القارئ من هذه الكتب محاطًا بموجة من الطمأنينة القصيرة، ثم يعود سريعًا إلى قلقه الأول، ليبحث عن جرعةٍ جديدة من الأمل، في دائرةٍ لا تنتهي من الاستهلاك النفسي. إنها لا تختلف كثيرًا عن المسكّنات الطبية التي تُخفف الألم دون أن تعالجه، سوى أن ثمنها يُدفع من العقل لا من الجيب فقط.

وليس بعيدًا عن هذا المسار، تظهر بعض الكتب الوعظية التي وجدت في التعب العاطفي للبشر سوقًا واسعة. هي نصوص تُهدّئ أكثر مما تُغيّر، تَعِدُ بالسكينة لا بالإصلاح، وتدعو إلى الرضا دون مساءلةٍ للأسباب التي تُنتج التعاسة والضياع. نجاحها التجاري الباهر لا يُقاس بعمق أثرها، بل بقدرتها على مخاطبة المعاناة الجماعية في زمنٍ متعبٍ يبحث فيه الإنسان عن كلمةٍ تطمئنه ولو لحظة.

في المحصلة، يجتمع كل هذا في قاعدة واحدة: الخوف يُسوَّق باسم “الوعي بالخطر”، والأمل يُسوَّق باسم “الطاقة الإيجابية”، والطمأنينة تُسوَّق باسم “الإيمان”، بينما تُختزل المعرفة في عباراتٍ شعوريةٍ تُرضي المتعبين ولا تنهض بهم. والإنسان في هذا العصر لا يشتري الحقيقة، بل يشتري الإحساس بامتلاكها، وهي أخطر سلعةٍ أنتجها القرن الحادي والعشرون. لقد نجحت هذه الكتب لأنها لامست الجرح الإنساني لا لأنها عالجته، ولأنها قدّمت للمجتمع الراحة لا الوعي.

إن أخطر ما في هذا كله ليس أن هناك من يبيع الوهم، بل أن الملايين يشترونه كل يوم طوعًا، معتقدين أنهم يشترون الخلاص.

اقتصاد الوهم: حين يُباع الخوف ويُسوَّق الأمل
كتبه : محمد بن سالم بن سليمان العبدلي الفيفي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى