
هناك عباراتٌ لا تحتاج إلى شرحٍ طويلٍ لتُحدثَ أثرًا نفسيًّا عميقًا في نفسِ السامعِ، لأنها ببساطةٍ تُلامسُ جوهرَ التجربةِ الإنسانيةِ. ومن بين تلك العباراتِ الخالدةِ، تتقدّمُ جملةٌ قصيرةٌ حملتْ من المعاني ما يكفي لملءِ كتبٍ بأكملِها: (الكِبرياءُ دائمًا يسبقُ السقوطَ).
هذه العبارةُ، التي تداولها الناسُ في ثقافاتٍ شتّى على امتدادِ عصورٍ طويلة، ليستْ مجرّدَ قولٍ مأثورٍ، بل قانونٌ نفسيٌّ واجتماعيٌّ أكّده الشرعُ قبل أن تُجمِعَ عليه تجاربُ الأممِ.
قال اللهُ تعالى: ]وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ[ {لقمان: 18}.
وجاء في الحديثِ الشريفِ: “لا يدخلُ الجنةَ من كان في قلبِه مثقالُ ذرةٍ من كِبرٍ”، رواه مسلم.
إنها تحذيراتٌ متكرّرةٌ من داءٍ خفيٍّ يُصيبُ القلوبَ قبلَ الأجسادِ، ويُفسدُ العلاقاتِ قبلَ أن يُدمّرَ النفوسَ.
ومن اللافتِ أن جميعَ الشعوبِ عبّرتْ عن هذه الحكمةِ بأساليبَ متقاربةٍ:
ففي الإنجليزية: (الكبرياءُ يسبقُ السقوطَ).
وفي الفرنسية: (الغرورُ يسبقُ السقوطَ).
وفي الإسبانية: (الكِبْرُ يسبقُ السقوطَ).
وفي الصينية: (الكِبْرُ يجعلُ الإنسانَ يتأخّرُ أو يسقطُ).
وفي العربية الفصحى: (من تكبّرَ وُضِع، ومن تواضعَ رُفِع).
وفي شتّى الثقافاتِ جاءت جُمَلٌ مختصرةٌ تعبّرُ عن هذا الداء، وعلى سبيل المثال، فقد جاء في ثقافةِ فيفاءَ الشعبيةِ تعبيرٌ أكثرُ واقعيةً وصدقًا فقالوا: (الكِبْرُ يِكسِرْ وإلَّا يِعَوِّرْ)؛ وهو مثلٌ يُصوّرُ الكبرياءَ كجرحٍ يُصيبُ صاحبَه أولًا، فيغدو الألمُ نتيجةً طبيعيةً للغرورِ.
ولعلّ أجملَ ما في هذه الأمثالِ أنّها لا تبقى حبرًا على ورقٍ، بل تتحوّلُ مع الزمنِ إلى صورٍ واقعيةٍ نراها كلَّ يومٍ.
كم من أشخاصٍ صعدوا سلالمَ المجدِ بعلمٍ أو جاهٍ أو مالٍ، ثم تعثّروا حين غلبَ عليهم شعورُ العظمةِ!
يتغيّرُ خطابُهم، وتتبدّلُ نظرتُهم إلى من حولَهم، فيحسبونَ أن الرفعةَ الدنيويةَ حصنٌ من السقوطِ، فإذا بالحياةِ تُذكّرُهم بأنّ الغرورَ أوّلُ شرخٍ في جدارِ النجاحِ.
وقد رأينا في واقعِنا نماذجَ من ذلك لا تُخطِئُها العينُ.
أُناسٌ امتلكوا العلمَ والمكانةَ، لكنّهم نسوا أنّ العلمَ مسؤوليةٌ قبل أن يكونَ وجاهةً، وأنّ المنصبَ تكليفٌ لا تشريفٌ.
تحوّلَ التميّزُ لديهم إلى وسيلةِ تفاخرٍ تُخفي خواءً داخليًّا مهولًا، حتى اختلّ ميزانُ القيمِ في بيوتِهم وحياتِهم.
ومع مرورِ السنينَ، جاءتِ النتائجُ على النقيضِ من التطلّعاتِ؛ خفَتَ البريقُ، وتفرّقتِ الكلمةُ، وتكاثرتْ عليهم ابتلاءاتٌ متتابعةٌ، كأنّ القدرَ – بعد إرادةِ اللهِ – يُعيدُ توازنَ المعادلةِ: من تعاظمَ انكسرَ، ومن تواضعَ ازدادَ رفعةً.
إنّ التواضعَ ليس ضعفًا كما يظنُّ بعضُ الناسِ، بل هو وعيٌ بالنفسِ، وإدراكٌ لحدودِها أمامَ اللهِ والخَلقِ.
المتواضعُ لا يُقلِّلُ من شأنِ نفسِه، بل يضعُها في موضعِها الصحيحِ، فيرفعُه اللهُ في أعينِ الناسِ وإنْ لم يسعَ لذلك. من تواضعَ للهِ رفعَه.
أمّا المتكبّرُ، فيعلو بلسانِه وتصرفاتِه ويهبطُ بقلبِه وأخلاقِه، حتى إذا سقطَ، سقطَ سقوطًا مُدوّيًا لا يُنقِذه منه إلا الندم والتوبةُ والاعترافُ.
لهذا، حين أستعيدُ تلك العبارةَ – الكِبرياءُ دائمًا يسبقُ السقوطَ – أجدُني أرفعُ قبعتي احترامًا لمن قالَها أولَ مرةٍ.
فهي ليستْ حكمةً لغويةً فحسب، بل مرآةٌ تُظهرُ طبيعةَ الإنسانِ حين يغترُّ، وتُذكّره بأنّ المجدَ الحقيقيَّ لا يصنعُه التفاخرُ والتعالي، بل تصنعُه الأخلاقُ والقيمُ.
كتبه
محمد بن سالم بن سليمان الفيفي
- لجنة كرة القدم المُصغَّرة بمنطقة جازان تعقدُ لقاءً عاماً مع اللجان العاملة في الميدان ومنظِّمي البطولات
- تعليم مكة ينفّذ برامج متنوعة احتفاءً باليوم العالمي للطفل
- وزير الاستثمار: الولايات المتحدة أكبر مستثمر أجنبي في المملكة.. الفالح: إطلاق اتفاقيات جديدة بين السعودية وأميركا بمئات مليارات الدولارات.
- لجنة كرة القدم المُصغَّرة بمنطقة جازان تعقدُ لقاءً عاماً مع اللجان العاملة في الميدان ومنظِّمي البطولات
- الشؤون الإسلامية بجازان تُنفّذ (177) فرصة تطوعية بأكثر من 13 ألف ساعة لخدمة بيوت الله خلال الربع الثالث لعام 2025م


