مقالات

قنوات التواصل… وطمسٌ الهوية اللغوية

د. مصلح البركات

باتت اختصارات الكتابة في قنوات التواصل الاجتماعي ظاهرةً واسعة الانتشار بين المستخدمين، حتى بين الكتّاب والمثقفين الذين يُفترض أن يكونوا حراسًا للفصحى لا مسرِّبين لغيابها. ومع تسارع الإيقاع الرقمي، ظهرت صيغ مختزلة مثل: “ير” بدل “يرى”، و“ب” بدل “بلا”، و“اكه” بدل “أكيد”، و“نعم” تُستبدل بحرفين، و“كذلك” تختصر إلى مقطع مبهم، و“سلم” تُختصر إلى “سلام” أو رموز غير مفهومة. وعلى الرغم من أن هذه الممارسات تبدو للوهلة الأولى مجرّد نتائج للسرعة أو البحث عن المشقة الأقل، فإنها في حقيقتها تحمل أثرًا عميقًا على حضور الفصحى وصورتها.

فالفصحى ليست مجرد جُمَل أو ألفاظ، بل هي بنية كاملة تتكون من تراكيب وصيغ واشتقاقات، وكل اختصار يقتطع جزءًا من هذه البنية ويتركه مبتورًا. ومع الوقت، يتحول العقل اللغوي للكاتب والمتلقي إلى نمط استهلاكي سريع يُنتج كلمات بلا روح، ويقرأ نصوصًا بلا وضوح، ويعتاد لغةً مشوهة لا تشبه العربية التي عرفتها الكتب والمنابر.


والخطورة أن هذه الظاهرة لم تعد محصورة بين الشباب أو المستخدمين العاديين، بل امتدت إلى بعض الكتّاب الذين بدؤوا يستخدمون اختصارات بلا مبرر، وكأنهم يكتبون بلغة برقية لا لغة تواصل. ومع شيوع هذه الصيغ، يصبح القارئ أمام مفردات غامضة لا تمت للفصحى بصلة، مما يرسخ حالة من التشويش اللغوي ويضعف الذائقة، ويقطع الحلقة التي تربطنا بلغتنا الأم.


اللغة، في جوهرها، هوية. وحين نختزلها إلى رموز وأحرف مبعثرة، فإننا نتخلى عن جزء من هذه الهوية لصالح زمن السرعة. صحيح أن التكنولوجيا فرضت علينا أنماطًا جديدة في التواصل، لكن هذا لا يعني أن نستسلم لفوضى لغوية تتسلل من بين الأصابع وتكبر حتى تطمس ملامح الفصحى.


الحل ليس في تحريم الاختصار أو مقاومة التطور، بل في الوعي. يمكن للكاتب أن يسرّع كتابته دون أن يقطع أو يشوّه الكلمات. ويمكن لمنصات التواصل أن تكون مساحة عصرية لا تتعارض مع سلامة اللغة. كما يمكن تعزيز مبادرات تدعو لاستخدام فصحى واضحة، بوصفها لغة قادرة على مواكبة التكنولوجيا دون أن تفقد كرامتها.


في النهاية، ليست المشكلة في الاختصار ذاته، بل في تحوله إلى عادة تآكلية تمحو بنية الكلمة وتشوّه هوية النص. وما لم ندرك أن كل حرف يُحذف من الفصحى يترك أثرًا في وجدان المتلقي، فإننا سنستيقظ يومًا على لغة لا تشبهنا، ونصوص لا تمتُّ إلى العربية بصلة إلا بأجزائها المتناثرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى