-A +A
محمد الساعد
خلال السبعين سنة الماضية وربما أكثر، نمت حول سور جدة الصغير العديد من الأحياء العفوية، كان السور يضم جدة في شكلها القديم بمبانيها التقليدية، ويحيط بها قرى الرويس التي شغلها الصيادون، والثعالبة وبني مالك التي سكنها أبناء بادية الساحل، وعلى أطراف السور والقرى الصغيرة، بنيت وبشكل غير متوقع أحياء جديدة لتلبية النمو السكاني إثر الصعود السريع للمدينة الساحلية المتميزة بمينائها ووكالاتها التجارية، وتحولها إلى بوابة للحرم المكي الشريف.

ولّد ذلك الصعود التجاري لمدينة تستقبل 70% من الواردات السعودية، وميناء لإعادة تصدير البضائع لدول عربية وأفريقية، فرصاً تجارية وأعمالاً لمختلف الطبقات التي تدفقت من كل مكان، ودفع لاستقدام مئات الآلاف من العمالة الأجنبية قليلة التكلفة، للعمل في القطاع الخاص، والمشاريع والبنية التحتية المتسارعة التي أقرتها الحكومة السعودية لتطوير المدينة.


أولئك العمال استحسنوا الحياة وجلبوا في فترة لاحقة أسرهم، وأصبح من الملحّ، وجود أحياء قادرة على إسكانهم بأسعار زهيدة، ولينموا حولها بنية حاضنة غير كُفؤة لتلبية حاجاتهم المعيشية، كما ساعدت في تكاثرهم الإجراءات المتسامحة وتكلفة الحياة المنخفضة والفرص التجارية المتوسطة والصغيرة التي انخرطوا فيها، مفضلين البقاء لعشرات السنوات على العودة لبلادهم، الأمر الذي خلق على مدى سنوات طويلة أكثر من 50 حيّاً عشوائياً، ستتحول فيما بعد إلى ثقب أسود كبير في رئة المدينة يمنعها من التنفس ويعرقل قدرتها على النمو ويكاد يبتلعها.

الغريب في تلك الأحياء تداخلها مع الأحياء الجديدة والأكثر حداثة، بل إن بعض الأحياء انقسم بين عشوائي ومنظم في شكل سريالي يعطيك لمحة من قصص هذه المدينة المليئة بالمفاجآت، تلك التركيبة ربما لن تجدها بتلك الصورة الغريبة والفجة إلا في جدة.

شهدت جدة خلال منتصف السبعينيات، نهضة كبرى مثل بقية المدن السعودية، على إثر التدفقات المالية من عوائد النفط، ورغبة حكومية صادقة في تسريع النمو، انعكس ذلك على بقية مدن ومناطق المملكة ومنها جدة، وحوّلها لمدينة جميلة، لكن ذلك الجمال أخفى وراءه الكثير من مشاكل البنية التحتية والأحياء العشوائية المبنية خلسة وبعيداً عن الأنظار وحوّلها مع مرور الزمن إلى «كنتونات» خارج سياق الزمن وبيئة خصبة لمخالفي الأنظمة ومتجاوزي النظام.

القرار السيادي بإعادة تصميم وبناء مدينة جدة، وتحسين جودة الحياة فيها، وتحويلها لإحدى المدن العشر الأكثر تطوراً في العالم، دفع الإعلام الأسود الذي يراقب المشهد السعودي عن كثب لمحاولة عرقلة المشروع وإخفاقه وإثارة الرأي العام الدولي ضد المملكة، ليس حبّاً في جدة، ولا خوفاً على مستقبلها، بل لأنهم منخرطون في مشروع قديم جديد يحاولون من خلاله عرقلة السعودية الجديدة، وتشويه قراراتها.

بالطبع الأعداء ليسوا جدداً، ولا طريقتهم غريبة علينا، لكن الموضوع يفتح الباب واسعاً لفهم العقلية التي تدير الحروب الإعلامية والاستخباراتية ضد المملكة، ولماذا تفعل ذلك، في تنقل متناقض من موقف إلى موقف.

إذ لطالما نشرت تلك القنوات والمنصات الغربية -والمتحالفون معها من قوى إقليمية محيطة بالمملكة-، صوراً وفيديوهات مجتزأة وموجهة عن تراجع التنمية في بعض الأحياء العشوائية في مدينة جدة، وصوّرتها بالأوكار والتجمعات المهملة، لتنتقل فجأة إلى الضفة الأخرى عندما بدأ في تنميتها، وليتحوّل الخطاب من مطالب إلى معادٍ للقرارات السعودية.

لعل الكثير ممن يجهل طبيعة مدينة جدة، يستغرب من قدرتها على إعادة التموضع مهما كانت الظروف، وكأنها سفينة تعيش في البحر تتكيف مع أمواجه وفرصه، فخلال أقل من شهر تحولت الأسواق القديمة إلى مراكز تجارية وأسواق أخرى وخلقت فرصاً وأعمالاً جديدة، والسكان انتقلوا إلى أحياء أخرى أكثر حداثة وجيدة الخدمات، لقد ذابوا من جديد في مدينة تحتوي سكانها متكئة على المعالجات الحكومية والأهلية السريعة والقيمة التي واكبت عمليات إعادة بناء مدينة جدة.. المدينة الحلم.