
المنمنة في معاجم اللغة، اسم يطلق على الرسم أو الصورة الزخرفية، المرسومة على مخطوطة، ومعنى نمنم الشيء زخرفه وزينه، نمنمت الريح التراب : خطته وتركت عليه أثراً كالكتابة، ويقال ثوب منمنم (مزخرف منقوش مخطط).
قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :
عسجن بأعناق الظباءِ وابرزت
حواشي برود القطر وشيا منمنما
ولعل كل هذه المعاني، فيها شيء من الدلالة على هذه الموقع (منمنة)، في محافظة الريث إحدى محافظات منطقة جازان، فهو عبارة عن منتجع ريفي من الدرجة الأولى، متميز بجماله، وموقعه المحتجب، والمتواري بين الجبال، في تجويفات جبل شقراء العظيم، أحد جبال الريث الشامخة، فهو في موقع مميز عن كل ما حوله، تضفي عليه هذه العزلة وما يحويه من مكونات، جمالا بديعا لا يضاهيه مكان آخر، فهو شامة مميزة في هذا المحيط، مختلفة جدا عن بقية ما حولها، في داخله يكتنفك الهدوء التام، والجمال الآسر الخلاب، تشعر فيه وكأنك تعيش حياة مختلفة، تنقلك عن واقعك الحالي، وتبعدك عن تعقيدات الحياة المعاصرة، فأنت فيه تشعر أنك تعود لسنوات إلى الخلف، إلى شيء من احساس الماضي، الذي قد ولى وانتهى، وانقطع أثره بالكلية، فهنا مكان مختلف، قد تجاوزه الزمن بسنين عديدة، ارض بكر نقية، ما زالت على طبيعتها الأولى، لم تغيرها يد الإنسان وحضارته، أو تشوبها معطيات هذا الزمان المزدهر الذي نعيشه، فأنت هنا تشعر وكأنك تعيش خارج زمنك وواقعك.

استضافنا مشكورا صاحب هذا الموقع، المرشد السياحي الاستاذ فيصل بن مداوي السلمي الريثي حفظه الله، وكانت هذه بالنسبة لي، ثاني تجربة أخوضها في هذا الموقع وهذا المنتجع، لذلك كنت متشوقا كثيرا إلى اعادة التجربة الماتعة مرة أخرى، ولن اشبع مهما كررتها، لأنها تضفي على الروح والفكر والاحساس شيء كثير، تجد فيها الهدوء والطمأنينة، وتعيد برمجة ومعالجة الروح، وترميم النفس المتعبة من الداخل، فما يكتنفك في هذا المكان، ومعايشتك فيه للطبيعة الحقيقية، ويدخلك في مقارنات لا نهاية لها، تجد هنا كامل الصفاء والهدوء والجمال، ما لا يدخل تحت أي وصف أو تشبيه.
استقبلنا مضيفنا عصر يوم الأحد الموافق 1447/3/1هـ، عند مكتبه باستراحة (الجفور)، في (خطوة العين)، الواقعة على الشارع العام، الواصل ما بين مركز (عمود)، وحاضرة الريث(رخية)، حيث مقر المحافظة، وهذا الموقع خطوة العين، يقع في منتصف المسافة بينهما، وهي عبارة عن حاضرة عامرة بالعديد من البيوت، وبها مدرسة حكومية، ومسجد كبير، ومحطة للوقود، وفيها شيء من الخدمات التموينية الاساسية، بل هي على المدخل الوحيد إلى وادي لجب السياحي، بمسافة لا تزيد على كيلو متر.
وبعد استراحة بسيطة في هذا الموقع، انشغل مضيفنا بتجهيز مستلزمات الرحلة والمبيت، التي يحتوي عليها مستودعه الكبير، فكان لزاما اخذ كل ما يلزم من المعدات والفرش والأواني، والناموسيات الشخصية، احتياطا من الحشرات والبعوض التي عادة ما تكثر مع نزول الامطار، وهذه هي ايامها مع فصل الخريف، والامطار الموسمية الغزيرة، وانطلقنا بعدها إلى غايتنا وهدفنا الاساسي (منمنة).
ركبنا سيارات الدفع الرباعي، التي في مقدمتها سيارة مضيفنا الجيب التايوتا المكشوفة، التي خصصها لهذا المكان، ولدينا سيارة جيب بترول نيسان، فانطلقنا على بركة الله، ولم يكن المكان بعيدا، ولكنها تتخلله الكثير من الصعوبة والوعورة، فكان الطريق من هنا من الشارع العام، يمر بطريق الشعفرة، صعودا إلى جبل شقراء، حيث سرنا في البداية في خط معبد ضيق، يمر من بين عدد من البيوت على جنبات هذا الطريق، وبالنظر إلى الأسفل تجد مجمعات حاضرة خطوة العين، تبتعد عنا قليلا من تحتنا.

إلى أن أنتهى الطريق المعبد، بعد أقل من كيلو متر، لننتقل مباشرة إلى الطريق الترابي الصعب، الذي لا تستطيع اجتيازه إلا مثل هذه السيارات الرباعية الدفع، وتعترضها صعوبات في معظم اجزائه، وبعد مسافة بسيطة ودقائق معدودة، اطللنا مباشرة على معالم الجهة المقصودة (منمنة)، لنودع في الخلف كل معالم الحاضر، حيث هنا تجد عالما آخر، فأنت تشاهد على يمينك في الأسفل منحدرات صخرية متعرجة، وترى امامك أرضا منبسطة في مقدمة المشهد، يتبعها في الخلف واد افيح جميل، يتغلغل بين ثنايا هذه الجبال، لا ترى له نهاية من هذا المكان، بل ما تشاهده منه في الغرب، عبارة عن مزارع عامرة بالأشجار، وبقية الوادي تحجبه بعض المرتفعات البسيطة، مما يشوقك للاطلاع واكتشاف ما خلفه، فانت تستحث الخطا حتى تصل سريعا.
كان الوصول إليه في هبوط، تكتنفه كثير من الصعوبات، في طريق وعر متعرج، لتنتقل تدريجا إلى عالم شبه معزول، أرض اقتطعت من الماضي القديم، بقعة يغلفها الهدوء التام والسكينة المطبقة، لا تكاد تسمع فيها إلا شيء من أصوات الطيور، وبعض حفيف الاشجار، وخرير المياه المتدفقة في الوادي، فهي انتقاله لبضع دقائق، حيث تجد نفسك في عمق الطبيعة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معاني، فقد وصلنا بعدها إلى الموقع المسمى (غارب منمنة) أعلاها، وفعلا كأنك غربت وتواريت عن العالم الواقعي، إلى عالم خيالي أسطوري من الماضي، تنسى بعدها كل تعب مررت به في الطريق، لأنك تجد فيه الراحة النفسية التامة، من خلال جمال المكان، وما يحويه من المناظر، والإحساس التام بالراحة والهدوء.
المكان عبارة عن منتجع ريفي من الدرجة الأولى، يتمازج فيه شيء من الحاضر البسيط، اضافة إلى استغلال تكوينات المكان الطبيعية، فقد وضع في مقدمة الموقع عريش استغل فيه تكوينات بعض الاشجار والصخور الملتفة، وفي المحيط من حوله اكواخ متناثرة هنا وهناك، بأشكال والاوان مختلفة، احاط بها سور بدائي شامل، من بقايا الاخشاب وجذوع الاشجار، وفي خلفها العديد من التكوينات الصخرية، والتجويفات والكهوف والمغارات، ادخلت في التكوين العام بشكل فني بديع، حيث وضعت لها السلالم والجسور والدرجات الحجرية، لترتقي فيما بينها بسهولة وامان، وتصل إلى اعماق هذه الكهوف بكل سهولة ويسر.

فطوعت تضاريسها بشكل ابداعي جميل، وكان جمالا مبهرا ترتاح في التطواف فيه، وهي في مجملها كتلة من الصخور تسمى(صخور القواعد)، اسم قديم متوارث، لم نقاوم الرغبة الملحة، في المسارعة بالتجوال داخلها، واستكشاف عوالمها واسرار الجمال فيها، فانطلقنا في رحلة ممتعة، استغرقت أكثر من ساعة، صعودا ونزولا وزحفا وقفزا بينها، نتلمس احيانا الطرق والمخارج، مع مواجهة شيء بسيط من الصعوبة، بسبب عدم التعود في بعض جوانبها، وكان قائدنا ومرشدنا المتمرس، مضيفنا الكريم، فكانت لغالبنا دورة عملية حقيقية، اكتسبناها في فن تسلق الصخور.

لقد كانت بحق جولة ماتعة مختلفة عن ما تعودناه، اطللنا فيها من اكثر من مستوى، نشاهد تحتنا كامل الموقع، وفي كل الاتجاهات، من أعلى الوادي تحتنا إلى أقصاه، بما فيه من المزارع المنسقة، والأشجار العملاقة المعمرة، ومياه الغيول المتدفقة، والكثير من السدود البدائية، والخزانات الحديثة في معظم زواياه، بل وهناك العديد من النقوش الأثرية، الموغلة في القدم، على بعض الصخور والكهوف فيها.

وتؤطر المكان الصخور والتضاريس المتباينة، في صورة بانوراميه ممتدة امامنا في منتهى الروعة، تستأسر الناظر، ولا يكاد يشبع من معاودة النظر فيها، بقينا نستمتع بجولتنا إلى أن دنى غروب الشمس، وبدأ الظلام يزحف على المكان من حولنا، لنتخذ لنا طريقا للهبوط إلى قرب العريش، المجلس الرئيسي في الموقع. وهنا لاحظنا أن مضيفنا يتجه إلى تنور في الجوار، قد تأججت النيران داخله، فتبعه بعضنا يستكشف ويطلع، ورأيناه قد جلب لحم خروف قد قطعه، يستعد لإعداده للعشاء، في داخل هذا التنور، بما يعرف بالـ(حنيذ)، احدى الأكلات الشعبية المعتبرة هنا، فكان يقوم بالعملية بسهولة وبشكل محترف، فابتدأ بوضع بعض الشبوك الصغير والاشجار (المرخ) فوق الجمر، ثم قذف فوقها شيء من عجين البر، وخبز بعض
منه على جوانب التنور، ثم اتبعها بإدخال اللحم بطريقة فنية، يضعها قطعة خلف أخرى، ويستعين بترديد بعض الاهازيج، بعد ذكر الله والبسملة، وكان بعضنا يرددها معه وخلفه، ومن ذلك ما حفظته كقوله : (ياحنيذ بين شبحي # بين ديات النماره)، وما إن انتهى من العملية حتى احكم الغطاء فوق التنور، بخرقة مبللة بالماء، وغطاء محكم من الحديد، ووضع فوقه بعض الحجارة، كثقل لتحكم اغلاق الغطاء، حتى لا يتسرب منه وإليه شيء من الهواء.
اتجهنا بعدها لصلاة المغرب وقد دخل وقتها، ثم تحلقنا حول بعضنا لشرب القهوة، وتبادل السوالف والأحاديث الجميلة الماتعة، في جو شاعري يكتنف كامل المكان من حولنا، وهدوء تام إلا من احاديث السمر المتبادلة، التي كان لها صدى عذب وساحر، يتغلغل داخل النفس بنشوة وسعادة، والظلام يسود المكان، إلا من ضوء لمبة صغيرة في احد الاركان، غذتها بالكهرباء بعض الخلايا الشمسية، والتي سرعان ما تخلت عنا بعد بضع ساعات، لتناقص مخزون الطاقة داخلها التي تغذيها، ليعم المكان ظلام مطبق، وبالذات وهذا بداية شهر قمري، وفي هذا الجو لا تشاهد إلا لمعان النجوم في السماء، بصورة كثيفة طالما فقدناها في المدن والحواضر، مع سطوع اضواء الكهرباء، وسرعان ما تأقلمت اعيننا مع ذلك، ولم يمضي طويل وقت حتى نضج العشاء، وكم كان لذيذ بشكل كبير، لطبيعة اعداده التي خلت من التحسينات والمذاقات المضافة.
بعد العشاء واصلنا الاحاديث والسمر إلى ما شاء الله من الليل، لا يشغلنا عنه شيء من وسائل الاعلام الحديثة، حتى الجوالات فقد انتهى الشحن فيها، وصمتت للحفاظ على المتبقي منه للطوارئ، كانت امسية لا تضاهيها أمسية، قد لا ترى المتحدث بوضوح امامك، ولكنك تستوعب كل كلمة وكل همسة تصدر عنه، للهدوء المطبق وشاعرية المكان، فمضت بنا الساعات مستمتعين بمجلسنا، إلى أن قررنا الانتقال مع مضي ساعات الليل السريعة، إلى خوض التجربة المنتظرة المختلفة، فكل منا سارع إلى الاستعداد في تهيئة مضجعه، واختيار الموقع المناسب حسب نظرته، ثم عم المكان سكون تام لا تسمع إلا شخير نائم، أو صوت حفيف الرياح، وما اسرع ما دخل كل منا في نوم عميق، لا يعكره ولا يشوش عليه أي معكر، في غفوة واحدة هانئة، لم نصحوا إلا مع تباشير الفجر تطل من المشرق، لنتنادى إلى الصلاة واحد الاخوة يرفع صوته بالأذان، وبالصلاة خير من النوم، وبعد الصلاة جهزنا القهوة والتمر، وانوار الصباح تعم المكان، وترتفع اصوات الطيور، وثغاء الاغنام، وخوار الابقار، وفرس في الجوار يصهل، والحياة تدب في كل مكان من حولنا، لنتهيأ لاكتشاف بقية الوادي، في الاسفل من جهة الغرب، قاصدين المطل الجميل، المشرف على وأدي لجب، وخرجنا من البوابة الشرقية لنلتف حول سياج المزرعة إلى الشمال ثم الغرب، لنهبط على مهل في الوادي(السبحي)، واد يتدفق بالحياة الطبيعية، كان مرورنا في بدايته من بين مزارع البن، المنتشرة والمنتظمة على جوانبه الجنوبية، مزارع جميلة غالبها من (البن) وشيء من الاشجار الاخرى المثمرة ، والوادي مليء بالمياه الراكدة والجارية، إثر نزول الامطار بغزارة في الايام الماضية، حتى اننا لا نجد الطريق السالك في كثير منه، مما يضطرنا إلى الارتفاع في جنبات الوادي.

واصوات الطيور وهدير الغيول وحفيف الاشجار، مع ما يخالطها احيانا من ثغاء وخوار الحيوانات ترعى.

كلها موسيقى عذبة، تنسيك تعب الطريق وطوله، وسرنا مستمتعين لما يقارب الثلاثة كيلو، واجهنا في بعض منها شيء من الصعوبة البسيطة، ونحن نجتاز ما يعرف بـ (العروق وطريق الظلام)، لنرتفع قليلا عن عمق الوادي، متجهين في آخره إلى صخور عريضة في سفح الجبل(نايف الظهاية)، لنطل مباشرة على جبال القهر، المعترضة في جهتي الشمال والغرب، وفي الأسفل تبرز لنا منحنيات وجوانب من وأدي لجب.

في منظر مهيب ومنظر ساحر لا تشبع منه، فلم نشعر بالوقت إلا وقد مضى، ولولا لسعات حرارة الشمس في ظهورنا، وتعاقبها مع برودة الهبوب القادم من الأسفل، الذي ينعش وجوهنا، لبقينا مستمتعين في هذا الموقع المميز، لذلك قررنا العودة من حيث اتينا، نمتع انظارنا بما يكون قد فاتنا في قدومنا، فكانت جولة ممتعة لا تنسى، فكل ما حولك يدعوك إلى التأمل والمتعة والسعادة.
وقد غادرنا بعدها الموقع، في رحلة وتجربة لا تنسى، بقي أثرها في النفوس، وزاد من جمالها كرم الضيافة، وحسن الإستقبال وكرم المضيف وحفاوته.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محبكم/ عبدالله بن علي قاسم آل طارش الفيفي
الرياض في 1447/3/23هـ