مقالات

مذكرات ومواقف (10)

بقلم: موسى أحمد العبدلي

مذكرات ومواقف (10)

 المسألة الحسابية 

تطوير الشخصية تأتي من خلال الرغبة في ذلك أولاً ثم معرفة جوانب الضعف والقوة لدينا ثانياً ، هكذا أعتقد ، فمن يرى أنه مكتمل فلن يفكر في تطوير شخصيته ، فيبقى اسيراً لتلك الشخصية الداخلية وَيَفْنَى عمره كله وهو نفسه لم يتغير ، عند طرح موضوع التغيير تكون لدى الغالبية منا عقدة ، فالتغيير يعني جهد أضافي ،والتغيير يولد الخوف من فقدان أو عدم السيطرة  على شيء ما كنا نملكه ، فيأتي آخر ليحل مكاننا .

التحرر من الصوت الداخلي:

إن التحرر من الصوت الداخلي يحتاج إلى معرفة أن هذا الصوت يسيطر علي  ، فمتى عرفت ذلك بدأت أنمي مهارة الإنصات للصوت الخارجي مهما كان  ، لكن لا يعني ذلك أن أكون إمعه ، وأن أتخلى عن الصوت الداخلي ، بل الأمر يحتاج إلى دمج ومعرفة وتقييم المواقف ، والخبرات والتجارب تضعك في موقف تستطيع الموازنة بين الصوت الداخلي والخارجي .

في المرحلة الابتدائية أعتقد أن الطفل يكون مفرطاً في أحد الجانبين ، فقد يكون لا رأي له ، بل تابع ، وقد يكون هو المُسيطر ونجد دائماً كلمة تطلق عليه من المحيطين به أنه سيكون قائداً ، فهل ذلك صحيحا ؟

شخصيتين مزدوجة:

إن الطفل التابع في الغالب وجد نفسه في هذا الموقف ، وصَدَّق ، فلا يوجد سبب لكي يغير من طريقة تفكيره أو أن يبني له شخصيته ، فوضعه جيد كما يرى ، على النقيض من الطفل المُسيطر ، فيرى أنه الأحق ، وقد ساعده الطفل التابع ليمضي هكذا ، وقد لا توجد لديه أي من مقومات القيادة .

لا أعرف ما هي شخصيتي في طفولتي ، لكن عندما استرجع ذكريات مرت أجدني أجمع بينهما ، فأحيانا لا أحب أن أكون تابع ، وربما هذا استمر معي حتى اليوم ، فلا أريد أن يصادر تفكيري أحد ، وفي مواقف أخرى أجدني تابع لأنجو بنفسي من مأزق ما ، عند تحليل هذه المواقف اكتشفت أمراً هاماً جداً وخطير ايضاً هو أن الجهل هو ما يجعلني تابع ، وليس هذا فقط ، بل إنني لا أستطيع التفكير أيضاً ، ما يعني أنه لا يوجد شيء للتنفيذ .

الإصرار على التحرر:

الحل الذي أراه للتحرر من تبعية الآخر هو محاربة الجهل ، وامتلاك العلم والمعرفة ، وهذا ما جعل الدول الكبرى تتحكم في العالم ، فامتلاكها للعلم والمعرفة قادت العالم ، بل أكثر من ذلك أصبحت مسيطرة عليه .

كنت من المقتنعين  لولد عمتي ,اخي الفاضل – سالم مفرح محفوظ العبدلي  – أن لا أحد يستطيع مجاراته في مواد الدراسة ، فقد كان – ما شاء الله تبارك الله – ذا ذاكرة قوية وحفظ وفهم واسع  في جميع المواد ، مما جعلنا تابعين له ، بل حتى لا نستطيع التفكير دون الرجوع إليه ، وخاصة في مادة الرياضيات ، فقد كانت هناك مسائل حسابية لا نشغل أنفسنا بها ، فالصوت الداخلي يقول : صعبة لن تستطيع حلها .

العيب أن لا تعرف ماذا تنقل:

وأذكر أنني في الصف الخامس أو السادس الابتدائي كان هناك واجب مدرسي لحل مسألة حسابية ، فلم أكن مستعدا حتى للتفكير في حلها ، وبكل بساطة في صباح اليوم التالي أخذت الدفتر من ولد عمتي – سالم – كعادتي وبعض زملائي ، وقمت بحلها ، وكنت سعيداً جداً لأنني متأكد من أن الإجابة صحيحة ، وقد كانت كذلك ، وأخذت عليها العلامة كاملة .

لكن الأمر لم يكن كما أظن ، فقد قام الأستاذ /محمد سلمان الفيفي – أحد معلمي الأفاضل والذين كان لهم دور كبير في مسيرتي التعليمية  لن أنساه – بكتابة المسألة على السبورة ، ووجه سؤالاً كالصاعقة وقال : أرغب ممن كانت إجابته صحيحة أن يتفضل على السبورة لحلها كي يستفيد الطلاب .

في هذه اللحظة كنت قد فتحت الدفتر لأراجع كيف تم حل المسألة وفي أثناء ذلك أسمع صوته يقول : موسى تعال ، قمت وأنا في وضع لا يحسد عليه ، وبدأت في حل المسألة كما كانت في الدفتر دون إدراك إلى أن وصلت إلى نقطة لم أعد فيها قادراً على إكمال الحل ، ثم قال لي : أحسنت ، ارجع مكانك .

بعد أن جلست قال كلمةً لا تزال محفورةً في أذني إلى اللحظة : “ليس عيبا أن تنقل وتأخذ من الغير ، بل العيب أن لا تعرف ماذا تنقل” . جملة قاسية في حينها ، لكنها جملة جعلتها دليلاً لي في حياتي .

طريقة الاستاذ محمد كانت غاية في التقدير والاحترام ، ولم تكن فيها إساءة لشخصي  بقدر ما كانت فن من فنون التعليم والتربية ولا أعرف هل لا زال الأستاذ / محمد سلمان  أو أحد زملائي يذكرها ، لكنني – وهذا ما يهم – لن أنسى هذا الموقف لسبب بسيط وهو أنه علمني لاحقاً الاعتماد على نفسي والتحرر نوعا ما من التبعية .

أكون أو لا أكون:

في نفس اليوم وعند عودتي للمنزل كان هناك واجب مدرسي لمسألة حسابية أخرى ، لكنني عزمت على حلها  اعتماداً على نفسي دون الرجوع لابن عمتي (سالم ) ، وهذا ما تم بعد عصف ذهني غير معتاد عليه ، وكنت متأكداً أن الحل صحيحاً ، فقد جلست ما يقارب الــ ساعتين وانا أفك رموز المسألة .

وفي صباح اليوم التالي كان شعوري مختلف عن كل الأيام ، فقد تمكنت من حل المسألة لوحدي ، وكنت أنتظر من أحدهم أن يسألني : هل استطعت حل المسألة ؟ لكن لم يسألني أحد ، قمت بالمبادرة حول حل المسألة ، لكن ما صدمني أن الجميع قد حلها ، ليس هذا فحسب بل أن أكثر من سألتهم كانت إجابتهم تقريبا واحدة ، وهي أن المسألة غير معقدة وهي سهلة الحل.

أصبت نوعاً ما بالإحباط فكيف أنني استغرقت ساعتين لحلها في حين أنها مسألة سهلة ، وقد حلها معظم الطلاب ، لكن ذلك لم يثنيني على أنني قادر أن أحل ولو جزئا يسيراً من المسائل الحسابية ، وليس عيبا أن أسأل ابن عمتي لكن بشرط أن أفهم كيف توصل للحل .

هذه القاعدة التي تعلمتها من الأستاذ / محمد هي الطريقة الصحيحة لطلب العلم وفهمه ، فالعلم يدرس ويتعاقبه الأجيال وإلا لما انتقلت إلينا العلوم المختلفة لندرسها ونعلمها لأبنائنا .

التربية قبل التعليم هكذا تعلمنا في المرحلة الابتدائية رغم أن مسمى الوزارة في حينها (وزارة المعارف )، لكن كان المخطئ يعاقب والمحسن يكافئ وبالضرب أحياناً كثيرة ، فتخرج جيل تحرر من التبعية فحمل لواء المعرفة وتربع أعلى المناصب ، جيل شغوف بالعلم والقراءة والاطلاع .

مذكرات ومواقف (10)

مذكرات ومواقف (10)

‫3 تعليقات

  1. السلام عليكم ورحمة الله اخي الكريم..
    المقال قرأته اكثر من مرة لاني لمست فيه صدق المشاعر والرسالة الجميلة التي اُرسِلت للقارئ من بين سطوره.. والاجمل من هذا كله انها كانت او كادت ان تكون نسخة نفسية عما كنت اشعر به في تلك المرحلة وحصول الحدث مع اغلب طلابنا في تلك المرحلة او ما بعدها ولو مرة واحدة في مسيرته الدراسية..
    السياق جميل والمحاكاة اجمل.. والرسالة أعمق من ذلك كله..
    تحياتي لك.. وأتمنى لك الخير كله

  2. ماشاء الله عليك استاذ موسى .. مقال رائع جداً من شخصكم الكريم .. وشهادة حق مواقفك معي أنا شخصياً لتعليمي صناعة تركيبات الأسنان لم ولن تنسى فلك جزيل الشكر والتقدير والاحترام.. فالك التوفيق والنجاح الدائم في الدنيا والآخرة يارب

  3. أحسنت اخي على الوصف الجميل … ما شاءالله تبارك الله عليك انت من الطلاب المكافحين في ذلك الزمن بالرغم كانت الوسائل لا توجد مثل هذا الزمن … كان موقفك صعب لا تحسد عليه وكأن الاستاذ شك انك نقلت من زميلك ولكن تصرف الاستاذ كان سليما … أعجبتني السطور الاخيره والقاعدة التي طرحتها
    شكرا اخي على هذه المواقف والذكريات التي اجدت في الوصف السلس والصراحه في الطرح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى