يسمونه وسخًا ويأكلونه
الأمر يحتاج إلى بحث (جيني) وليس البحث عن (جني) أو شيطان يقف خلف هذا السلوك الغريب أو التحول الفوري من حالة الزهد الشديد إلى حالة السرقة.
نعم أمر تحول الإنسان من شخص يرى الدنيا رخيصة جدًا وهو في المقبرة يدفن أخا أو صديقا أو عزيزا ثريا ترك خلفه أموالا طائلة وأراضي شاسعة، إلى شخص ينهب شقيقه ويخدع صديقه ويحتال على فقير ويستقوي على ضعيف، أمر يحتاج إلى دراسة للجينات أو العوامل الوراثية والحمض النووي المسؤول عن هذا التحول السريع في الطباع والقناعات، ونحن نفتقد لمثل هذه الأبحاث التي تدرس سلوكيات الناس وتحللها، بل العالم أجمع (بمن فيهم الغرب المتقدم في مجال الأبحاث والدراسات) يفتقد لمثل هذه الأبحاث والدراسات النفسية، لكننا أكثر حاجة منهم، ليس لأننا أكثر إجرامًا وتحولًا، ولكن لأننا أكثر تمسكا بقيم دينية وأخلاقية يفترض أن تردعنا، وأكثر استشعارا وشعورا أن الحياة الدنيا محطة عبور هي أرخص وأحقر من أن ننشغل بها عن دار الخلود، بدليل أننا أكثر من يساوره ذلك الشعور الزاهد في الدنيا بأموالها وأراضيها في أوقات محددة وظروف معينة مثل دفن عزيز ثم يحدث لدى كثير منا ذلك التحول السريع والرجوع للجشع وسرقة شقيق أو خداع صديق واختلاس ماله أو أرضه أو حقوقه وظلمه.
أعلم أن الشيطان وجنوده خلف كل شر وتحول من الخير إلى الشر (أعاذنا الله منه) لكن الشيطان موجود في كل مكان بما فيه المقبرة وفي كل زمان بما فيه الساعات أو حتى الأيام التي تلي الفقد أو الظرف الذي تحدث فيه حالة الزهد، فما هو الطبع أو (الجين) أو (الكروموزوم) المسؤول عن الضعف الشديد أمام وساوس الشيطان والذي يعزف عليه الشيطان سريعا فيجعل ذات الشخص يرقص طربا لمغريات الدنيا من جديد وبسرعة؟!
وأعلم أن النفس الأمارة بالسوء لها دورها في ذلك التحول السريع من الزهد إلى الطمع، لكن الغريب هو اجتماع النقيضين أو الضدين في ذات الشخص في وقت واحد فتجده يقول وبإلحاح ما لا يفعل (أسمع كلامك يعجبني وأشوف أفعالك أتعجب)، وتراه ينصح بالزهد بقوة وإقناع وهو ينهب بنهم واقتناع، بل يمارس الوعظ وهو يعظ، وينصح بالصدق وهو كذاب، وبصلة الرحم وهو قاطعه، ويسمي المال (وسخ دنيا) وهو يأكله!
هذه التناقضات التي تحدث في الشخص نفسه في الوقت نفسه تنم عن خلل نفسي يحتاج لدراسة؛ علّنا نستطيع الحد منه بقطع دابره وليس بالوعظ فقط، فكفى بالموت واعظا ولم يتعظ كثير ممن يعملون جاهدين على جمع الأموال وتعدادها ونهب المساحات والاعتداء على أملاك الآخرين ومثلهم مثل صاحب التسع وتسعين نعجة ويريد أخذ نعجة أخيه ليتم بها المئة ويتركه تائهًا.
قد يقول قائل إن حرص هؤلاء على جمع المال والمساحات رغم اتعاظهم بالموت هو لضمان مستقبل أبنائهم، فنقول إن من حق غيرهم أيضًا ضمان مستقبل أبنائهم والله الضامن سبحانه وهو الرازق وعليه التوكل، ثم إن كثيرًا من الأثرياء في العالم حرصوا على جمع الكثير من المليارات وهم لا وريث لهم ويورثون كلالة، لكن حب المال وتملك الأرض والمزارع شعور غريب أصر على أنه يحتاج لدراسة عميقة متعمقة لا تقبل المبررات السطحية.
يسمونه وسخًا ويأكلونه